بعد أكثر من سنتين عن بداية الأبحاث في قضية التآمر، يتواصل الجدل حول هذه القضية التي شغلت الرأي العام طيلة هذه الفترة نظرا لأهمية الشخصيات المتهمة بالتآمر، وأيضا لخطورة التهم الموجهة إليهم من ارهاب وتآمر وسعي لتبديل هيئة الدولة وقلب نظام الحكم. لكن السؤال المطروح الآن: هل ساهمت الأحكام القضائية في كشف حقيقة التآمر على أمن الدولة بكل وضوح بعيدا عن التصريحات الاعلامية؟ لماذا لم تتوضح أركان جريمة التآمر بأدلة وقرائن دامغة تدين ”المتآمرين“ دون لبس أو تعويم أو عبارات فضفاضة لما يدعم رواية السلطة حول التآمر؟ ولماذا تتهرب السلطة من المصارحة و تلجأ لقرارات تزيد من التشكيك في صدقية روايتها، كمنع التداول الإعلامي بداية وصولا إلى المحاكمة عن بعد وحرمان المتهمين من الحضور والدفاع عن أنفسهم؟

مسار قضائي مثير للجدل لم يضمن كشف الحقيقة

حرصت الأوساط المساندة للسلطة، منذ بداية الأبحاث في قضية التآمر على أمن الدولة في فيفري 2023، على الترويج لرواية مفادها أن أركان جريمة التآمر متوفرة ويجب انتظار الكلمة الفصل لهيئة المحكمة التي ستنظر في الملف وتعلن عن الحقيقة كاملة في هذه القضية. ورغم كل ما شاب الملف من اخلالات كشفتها هيئة الدفاع عن الموقوفين، وقرار منع التداول الصادر عن قاضي التحقيق المتعهد بالبحث في القضية، وقرار المحاكمة عن بعد الذي رفضته عائلات الموقوفين وهيئة الدفاع ومنظمات حقوقية، إلا أن الجميع انتظر جلسة المحاكمة ابتدائيا حتى تكشف المحكمة عن الحقيقة كاملة ليطّلع عليها الرأي العام. لكن الجلسة الثالثة والتي رُفعت على عجل للمفاوضة والتصريح بالحكم لم تتجاوز النقاش الحاد بين فريق الدفاع وهيئة المحكمة حول ضرورة إحضار المتهمين إلى قاعة الجلسة، وأمام تمسك هيئة الدفاع بهذا المطلب ورفض الترافع في الأصل قبل إحضار المتهمين، قررت هيئة المحكمة إصدار الأحكام دون استنطاق المتهمين ومكافحة الشهود، مكتفية بتلاوة قرار الاتهام ورفع الجلسة. في قرار أثار استنكار هيئة الدفاع التي اعتبرت أنها سابقة خطيرة في تاريخ المحاكمات، ورفضت ”المرور بقوة“ إلى التصريح بالحكم دون استنطاق ودون مرافعات الدفاع ودون تمكين المتهمين من الدفع ببراءتهم ودون المكافحة مع الشهود الذين كانت شهاداتهم حجر أساس هذه القضية.

16 افريل 2025 تونس العاصمة – عدد من أساتذة القانون يكشفون عبث قضية التآمر خلال محاكمة صورية بمقر الرابطة التونسية لحقوق الانسان – LTDH

كل هذه الأحداث التي رافقت المحاكمة كانت محل استنكار ورفض من جهات حقوقية وسياسية وأكاديمية اعتبرتها ضربا لأسس المحاكمة العادلة، وحاجزا أمام كشف الحقيقة في قضية التآمر.

يوم 20 افريل 2025 أصدر أساتذة كليات الحقوق والمعاهد العليا للعلوم القانونية والسياسية وعلوم التصرف بيانا في الغرض اعتبر أن الأحكام صدرت ”دون مراعاة أصول القانون الجزائي والمبادئ الأساسية للإجراءات وشروط المحاكمة العادلة، وهي أحكام أقرب إلى قضاء التعليمات منه إلى حكم قضائي“. كما استعرض البيان جملة من الخروقات أهمها تجاوز الآجال القانونية للإيقاف التحفظي مما حوله إلى ”احتجاز“، والاستماع إلى المتهمين مرة واحدة عند فتح التحقيق رغم خطورة القضية وغياب أي مواجهة أو مكافحة مع الشهود خلال سنتين من الاحتجاز، بالإضافة إلى تحقيق ”عبثي“ اكتفى بالإدانة دون البحث عن أدلة إثباته مع خرق حق المتهم في إدارة إثبات براءته، ومرور المحكمة إلى ”إدانة واهية“ تفتقد إلى أي ركن من أركان الجريمة حسب نص البيان.

رغم الخروقات التي رافقت مسار التقاضي في قضية التآمر والتي كشفتها تباعا هيئة الدفاع عن الموقوفين، من الإيقاف إلى التحقيق وختم الأبحاث وصولا إلى جلسات المحاكمة الثلاث، إلا أن الأنظار بقيت مصوّبة نحو جلسة المحاكمة من أجل كشف الحقيقة كاملة في قضية التآمر وتفكيك الملف الذي مثل قضية رأي عام في تونس. لكن بعد ثلاث جلسات طغى عليها السجال الاجرائي بين لسان الدفاع وهيئة المحكمة خاصة حول حق المتهمين في الحضور في قاعة الجلسة، وبعد صدور أحكام مشددة وغير مسبوقة في حق القيادات السياسية المتهمة في القضية، إلا أن الحقيقة ظلت غائبة عن الرأي العام السياسي والوطني. ولم تُكشف الحقائق المتعلقة بالتآمر والأدلة التي تثبت، دون جدال أو شك، ضلوع أبرز الوجوه السياسية في البلاد في التآمر على أمن الدولة وغيرها من التهم الخطيرة الموجهة إليهم.

هذا ما أقرته الهيئة الوطنية للمحامين في بيان لها اعتبرت فيه أن ”الأحكام الصادرة في القضية كانت أحكاما مخالفة لمبادئ الشرعية الاجرائية لم تكفل فيها للمتهمين شروط المحاكمة العادلة وخاصة حق الحضور ومواجهة التهم المنسوبة لهم وحق المحكمة نفسها والدفاع في توجيه الأسئلة والاستيضاح وصولا للحقيقة الكاملة وتطبيقا للقانون وتحقيقا للعدل“.

قضية سياسية بأدوات قضائية

منذ إطلاق الأبحاث في قضية التآمر، اتهمت هيئة الدفاع وأحزاب سياسية ومنظمات حقوقية السلطة بتطويع القضاء لخدمة أهداف سياسية وضرب الأصوات المعارضة لقيس سعيد. وأكدت الهيئة الوطنية للمحامين من جهتها التدخل السياسي في القضاء والضغط على القضاة حيث حملت وزارة العدل كامل المسؤولية عمّا آل إليه وضع القضاء والمساس باستقلاليته بترهيب القضاة بالنقل والإعفاءات بمجرد مذكرات عمل وعدم سد الشغورات الوظيفية في انتهاك لأبسط الضمانات القانونية حسب نص البيان الصادر يوم الثلاثاء 23 أفريل.

11 افريل 2025 باب بنات تونس العاصمة – جانب من احتجاجات عائلات المتهمين في قضية التآمر أمام قصر العدالة – صور نواة

الطابع السياسي للقضية لا يخفى على أحد، ليس فقط بسبب الشخصيات السياسية والحزبية التي تُحاكم في القضية، بل لعدة اعتبارات أخرى أهمها المحاولات المتكررة للقضاء التعتيم على الملف سواء من خلال منع التداول الإعلامي في القضية أو منع الصحافة من مواكبة الجلستين الأخيرتين لمحاكمة المتهمين، أو من خلال الإصرار على محاكمة المتهمين عن بعد رغم رفض الدفاع والمنظمات المهنية.

 كما أن القضية تنسجم حد التطابق مع السردية التي يروجها رئيس الدولة بوجود متآمرين وعملاء يهددون أمن الدولة ويتلاعبون بقوت التونسيين، وأن كل من يبرئ ”المتآمرين“ فهو شريك لهم، وهو ما اعتُبر حكما بالادانة سابقا لإدانة القضاء. وتحول الخطاب التآمري من لغة تستعملها السلطة لخلق رأي عام مساند لها يعلق المشاكل التي تواجه البلاد على شماعة الغرف المظلمة والخونة والمتآمرين إلى ممارسة رسمية، ممارسة وقضايا تُكيف الفعل السياسي المعارض على أنه تآمر وخيانة، وتحول الرأي الحر والنقد إلى تحريض ونشر اشاعات وإساءة وتهديد للغير، وهو ما يفسر العدد الكبير للموقوفين في قضايا تتمحور أغلبها حول تصريحات إعلامية أو تدوينات أو مواقف سياسية.

ولا تنفصل قضية التآمر عن السياق الحالي في البلاد والذي تواترت فيه محاكمات رأي ضد نشطاء وصحفيين ونقابيين ومحامين بسبب التعبير عن آرائهم أو بسبب ممارسة عدد من المحامين لمهامهم في إطار الدفاع عن الموقوفين في عدد من القضايا لعل أهمها قضية التآمر.  المحامي والقاضي السابق أحمد صواب كان آخر ضحايا هذه السياسة، حيث تم إيقافه وإيداعه السجن بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب على خلفية تصريح أدلى به لوسائل الإعلام عقب الجلسة الأخيرة لقضية التآمر. سامي بن غازي محامي الدفاع عن أحمد صواب، أكد أن إيقاف منوّبه جاء على خلفية تصريحاته التي فضحت الاخلالات والخروقات التي رافقت قضية التآمر على أمن الدولة وليس بسبب الإرهاب مثلما تدعي السلطة. وحذر بن غازي من خطورة سياسة التضييق على عمل المحامين وحقهم في التعبير وممارسة مهامهم في الدفاع عن العدالة.

بعد صدور الأحكام الابتدائية وما رافقها من رفض واستنكار حتى من بعض المنظمات التي بقيت على الحياد في الفترة الماضية مثل الهيئة الوطنية للمحامين، تتجه الأنظار نحو محكمة الاستئناف لمتابعة مسار القضية لعلنا نصل إلى الحقيقة الكاملة. لم تحسم هيئة الدفاع عن الموقوفين في قضية التآمر بعد موقفها من المضي قدما في مسار الاستئناف، سواء بتقديم مطلب لاستئناف الأحكام أو بمقاطعة بقية المسار القضائي كحركة احتجاجية على جملة الاخلالات التي رافقت أطوار القضية. وتبقى أعمال هيئة الدفاع مشتتة بين الدفاع القانوني عن الموقوفين وبين العمل الحقوقي والسياسي للتعريف بما تتعرض له القيادات السياسية المتهمة في قضية التآمر وغيرها من القضايا السياسية الأخرى وقضايا الرأي التي باتت تتصدر المشهد السياسي العام في تونس. مشهد عنوانه معالجة القضايا السياسية في أروقة المحاكم، رغم أن الرئيس قيس سعيد لا يفوت فرصة ليشدد على عدم تدخله في القضاء  متناسيا تصريحاته الموثقة صوتا وصورة ليلة حله المجلس الأعلى للقضاء من مقر وزارة الداخلية أو تهديده الشهير المصور ”بأن من يبرئهم هو شريك لهم“.