cout-gerre-anti-terrorisme-tunisie-feat

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

إنّ من يكسب النزاع ليس من يملك آخر رصاصة بل آخر قرش نابليون بونبارت

إعلان الحرب على الإرهاب كان قرارا حتميّا مع تزايد وتيرة العمليات الإرهابيّة وارتفاع عدد الضحايا وانتقال الهجمات داخل المدن. ولكن الحكومة التي أُجبرت على الحرب، تجد نفسها اليوم على الصعيد الاقتصاديّ في وضعيّة صعبة جدّا لما يقتضيه هذا الإجراء من تدابير توجّه موارد الدولة للمجهود الأمنيّ والعسكريّ.

الحرب المفتوحة التي أعلنتها الحكومة على الإرهاب، لن تقتصر على العمل الاستخباراتي وتكثيف العمليات الأمنيّة والعسكريّة وحتّى على العمل الثقافيّ، بل إنّ البلاد مقبلة على معركة اقتصاديّة ليست جاهزة لها بعدُ في ظلّ أزمة اقتصاديّة خانقة منذ خمس سنوات.

اقتصاد الحرب يضغط على الميزانية العموميّة

إعلان الحرب على الإرهاب كان قرارا حتميّا مع تزايد وتيرة العمليات الإرهابيّة وارتفاع عدد الضحايا وانتقال الهجمات داخل المدن. ولكن الحكومة التي أُجبرت على الحرب، تجد نفسها اليوم على الصعيد الاقتصاديّ في وضعيّة صعبة جدّا لما يقتضيه هذا الإجراء من تدابير توجّه موارد الدولة للمجهود الأمنيّ والعسكريّ قد لا تقدر عليها البلاد في ظلّ الوضع الاقتصاديّ الراهن.

خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2015، لم يتجاوز معدّل النموّ نسبة 0.7%، ضمن نسق بطيء مقارنة بسنتي 2013 و2014، حيث لم يتمكن الاقتصاد التونسيّ من تجاوز نسبة نموّ تفوق 1%. وهو ما انعكس على الموازنات المالية، إذ حافظ الميزان التجاري على حالة العجز بنسبة 32% بقيمة 926 مليون دينار. وفي نفس السياق شهدت الصادرات للسنة الجارية تراجعا ب2.5%. أمّا المديونيّة فارتفعت ب3.5% ليبلغ اجمالي الدين الخارجي لتونس 30 ألف مليون دينار ممّا يستنزف 52% من الناتج المحلّي الخام.

الضغط على الموازنات العامّة في الظروف الاستثنائيّة على غرار الحرب على الإرهاب، يتأتّى بالخصوص من الارتفاع الهائل لميزانيّات الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة. حيث تشير التقارير الصادرة عن وزارة المالية خلال السنوات الفارطة عن تضاعف ميزانية وزارة الداخليّة من 1400 مليون دينار سنة 2011 إلى 2896 مليون دينار سنة 2016. وهو ما يمثّل تقريبا 10% من ميزانيّة الدولة. وقد ارتفعت المخصّصات الأمنيّة خلال خمسة سنوات بنسبة 50%.

بدورها ارتفعت ميزانيّة وزارة الدفاع التونسيّة من 828 مليون دينار سنة 2011 إلى 2294,824 مليون دينار سنة 2016 أي بزيادة تناهز 63% خلال خمس سنوات وما يعادل 9% من ميزانيّة العامة.

إذن فخلال سنة 2016، ستستحوذ النفقات الأمنيّة والعسكريّة قرابة 20% من ميزانيّة الدولة في حين يشير تقرير الميزانيّة القادمة إلى تواصل العجز ب4% إضافة إلى تفاقم المديونيّة ب4000 مليون دينار ممّا سيؤدّي بدوره إلى ارتفاع نسبة الديون من الناتج المحليّ من 52.7% سنة 2015 إلى 53.4% خلال السنة القادمة. أمّا تطوّر الموارد الذاتية للدولة فلن يزيد حسب تقرير وزارة الماليّة عن 7% بقيمة جمليّة لن تتجاوز 1836 مليون دينار، بشرط استقرار أسعار النفط في مستوى 55 دولارا وافتراض تواصل نسق الاستثمار الخارجيّ والمؤشرات الصناعيّة وأسعار الحبوب وسعر صرف الدولار واليورو عند المعدّلات الحاليّة.

تغيّر الأولويّات

توجيه خمس ميزانيّة الدولة نحو النفقات الأمنيّة والعسكريّة، ومحدوديّة الموارد الذاتيّة للدولة إضافة إلى استنزاف الناتج المحليّ الخام نتيجة ارتفاع المديونيّة سينعكس اقتصاديّا واجتماعيّا على باقي القطاعات والمطالب العاجلة للمواطنين، الذّين سيجدون أنفسهم ضحايا تغيّر الأولويّات.

إذ تشير ميزانيّة سنة 2016 إلى توجّه الدولة نحو تقليص نفقاتها خصوصا على مستوى الانتدابات في القطاع العموميّ، حيث ستعمل الحكومة على “حصر الانتدابات أساسا في حدود خريجي مدارس التكوين (وزارات الداخلية والدفاع والعدل) وبعض القطاعات ذات الأولوية”. بمعنى آخر فإنّ الدولة ستلجأ لتجميد مخطّطات التشغيل في القطاع العموميّ في محاولة منها للتقليص من حجم الأجور ونفقات التصرّف المقدّرة ب13000 مليون دينار.

أمّا الإجراء الثاني فيخصّ تخفيض الدعم العموميّ للمحروقات إلى حدود “579 مليون دينار مقارنة بـ 1286 مليون دينار الواردة في قانون المالية التكميلي لسنة 2015”.  هذا وقد تمّ تقليص مخصصات الدعم تدريجيّا منذ سنة 2011 والتي كانت تقدّر ب 1536 مليون دينار. مع العلم أنّ الفوائض المحيّنة الناجمة عن انخفاض سعر النفط في الأسواق الدوليّة والتّي بلغت قيمتها 820  مليون دينار لسنة 2015، سيتم توجيهها لدعم النفقات الأمنيّة بدلا من تثبيت أسعار المواد الاستهلاكيّة كما كان مبرمجا. هذا الإجراء سيؤدّي بدوره إلى تواصل نسق ارتفاع التضخّم الذي ناهز 5% خلال سنة 2015 إضافة إلى انعكاس تقليص الدعم على المحروقات على كلفة الإنتاج الصناعيّ وأسعار الكهرباء وخدمات النقل والفلاحة وغيرها من الأنشطة المرتبطة بقطاع المحروقات.

العاجل الأمنيّ يبتلع ميزانيات بقيّة القطاعات

تضاعف ميزانيّة وزارتي الدفاع والداخليّة خلال السنوات الخمس الماضية، إضافة إلى التركيز على العاجل الأمني خلال اعداد مشروع ميزانيّة سنة 2016 انعكس سلبا على الوزارات الأخرى التي لم تتطوّر ميزانياتها بنفس النسق. حيث لم تتجاوز مخصّصات وزارة التكوين المهني والتشغيل 659 مليون دينار لسنة 2016، بنسبة تطوّر لم تتجاوز 2.2% مقارنة بسنة 2015 وبنسق ترفيع اجماليّ يقدّر ب8% خلال السنوات الأربع الماضية وهو ما أدّى إلى ارتفاع نسبة البطالة من 8.5% سنة 2011 إلى 15.2% سنة 2015 بحسب المعهد الوطني للإحصاء نظرا للفارق الهائل في توزيع الموازنات العموميّة بين مختلف الوزارات. أما وزارة الشؤون الاجتماعيّة فقد تمّ ضبط نفقات التصرف و التنمية و صناديق الخزينة لسنة 2016 في حدود 881,321 مليون دينار مقابل 797,305 مليون دينار سنة 2015 .كما تطوّرت مخصّصات وزارة الصحّة بنسبة 7.5% بقيمة 122 مليون دينار كنفقات تصرّف، في حين لم ترصد الحكومة للسنة القادمة أيّ اعتمادات للتنمية وتطوير القطاع الصحيّ.

cout-gerre-anti-terrorisme-tunisie

بصفة عامة، تكشف ميزانيّة 2016 انّ التمشي الحكوميّ نحو تعزيز اعتمادات الأجهزة الأمنية والعسكريّة قد انعكس سلبا على تطوّر نفقات التنمية التّي لم تتجاوز 2.6% مقارنة بسنة 2015. وهو ما يطرح اشكاليّة بخصوص المقاربة الحكوميّة للحرب على الإرهاب. فإن كان الجانب الأمني والعسكريّ أحد أهمّ وسائل مواجهة الإرهاب والقضاء عليه، إلاّ أنّ قدرة الدولة على تمويل مجهودها الأمني خلال السنوات القادمة يصبح محلّ شكّ نتيجة محدوديّة الموارد واستمرار حالة العجز وتفاقم المديونيّة.علما وأنّ تكاليف المجهود العسكريّ تستنزف الموازنات العموميّة على مستوى الموارد البشريّة واللوجيستيّة والمعدّات. كما أنّ نجاح اقتصاد الحرب رهين تغييرات هيكليّة تستهدف تدعيم الموارد الذاتيّة عبر إصلاحات جبائيّة ما تزال معرقلة. هذا إضافة إلى تدعيم قدرات الدولة على صعيد السيولة من العملات الأجنبيّة وذلك بضمان معدّلات إيجابيّة للميزان التجاريّ، والذيّ ما يزال يعاني في تونس من حالة عجز فاقت الثلث.

أمّا النقطة الحاسمة في المعركة ضدّ الإرهاب، فتكمن في انهاء الحرب وعدم إنهاك الدولة، بضمان تزامن تطوّر العمل الأمني والعسكريّ مع مقاربة اقتصاديّة تقوم على معالجة الأسباب الحقيقية لاستقطاب الشباب على غرار الفقر والبطالة والتهميش وتردّي الخدمات العموميّة والتي تضعف الارتباط المعنويّ للفرد مع وطنه. وإلاّ فإنّ اقتصار المعركة في السلاح واستنزاف الدولة اقتصاديّا وتراجع القطاعات الأخرى على غرار الصحّة والتعليم والتنمية الجهويّة سيؤدّي إلى العودة للمربّع الأوّل وتفريخ جيل جديد أكثر عنفا وحقدا.