بطلب من الرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، وقف أعضاء الكونغرس الأمريكيّ يوم 25 جانفي 2011 ليحيّوا الثورة التونسيّة. هذه الحركة الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات المشتركة بين البلدين، تجاوزت بعدها الرمزيّ لتمثّل فاتحة علاقة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكيّة وتونس التّي بدأت منذ ذلك التاريخ تنحى نحو المظلّة الأمريكيّة دون قيد.

منذ الزيارة التاريخيّة للرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة للولايات المتحدة الأمريكيّة في عهد الرئيس جون كيندي، لم تكن العلاقة بين البلدين بمثل هذا الترابط، رغم الاصطفاف التونسيّ منذ عقود مع المعسكر الأمريكيّ إبان الحرب الباردة. إذ رغم استمرار التعاون العسكريّ والمعونات الاقتصاديّة لنظامي بورقيبة وبن عليّ، إلاّ أنّ سنة 2011 مثّلت منعرجا جديدا جعلت من تونس محطّ اهتمام السياسة الخارجيّة الأمريكيّة، وهو ما انعكس في تطوّر المعاملات بين البلدين على الأصعدة السياسية والاقتصاديّة والأمنيّة والعسكريّة.

فتح أبواب البيت الأبيض على مصراعيها

منذ الأسابيع الأولى بعد 14 جانفي 2011، بدا جليّا أنّ موقع تونس قد تغيّر في سلّم أولويّات السياسة الخارجيّة الأمريكيّة. فالولايات المتحدّة لم تكتفي بمجرّد التصريحات أو اعلان النوايا، لتذهب مباشرة إلى صلب الموضوع عبر تقديم شتّى أنواع المساعدات الاقتصاديّة والعسكريّة للحكومات الانتقاليّة المتتالية.

وقد أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال لقاءه الأوّل برئيس حكومة التونسيّة الباجي قائد السبسي في 07 أكتوبر 2011، ان سلسلة من إجراءات الدعم الاقتصادي لتونس قد تم التطرق إليها خلال اللقاء وستشمل جملة من المساعدات التجارية ودعم الاستثمار إضافة إلى برنامج متكامل لمساندة الاقتصاد التونسي في مجالات الأعمال والاستثمار والتشغيل دون التطرّق للمساعدات الأمنية والعسكريّة.

على عكس طبيعة العلاقات السابقة مع نظام بن عليّ، الذّي تمّ استقباله لمرّة واحدة من قبل الرئيس الأمريكي جورج بوش سنة 2004 قبل أن تسوء العلاقة عقب زيارة كونداليزا رايس في 2008 وتلميحها بضرورة تحقيق انتقال سياسي في تونس، تواصلت لقاءات أوباما مع المسؤولين التونسيّين بشكل شبه دوريّ طيلة السنوات الخمس التالية لانتفاضة الشعب التونسي.

ثاني لقاءات الرئيس الأمريكيّ كانت مع الرئيس المؤقّت محمد منصف المرزوقي في 23 سبتمبر 2013، على هامش مشاركة هذا الأخير في اشغال الجمعية العمومية للأمم المتحدّة. تتوالى الزيارات بعدها، ليستقبل البيت الأبيض مرّة أخرى رئيس الحكومة الانتقاليّة الجديد مهدي جمعة شهرين فقط بعد توليه منصبه في إطار دعوة من الرئيس الأمريكيّ لعقد سلسلة من اللقاءات مع مديرة صندوق النقد الدولي ومدير البنك الدولي وعدد من رجال الأعمال الأمريكيّين.

الزيارة الأخيرة في 20 ماي 2015، كان قد أدّاها رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي، حيث تمّ إمضاء مذكّرة تفاهم للتعاون طويل المدى بين تونس والولايات المتحّدة الأمريكيّة تضمّنت أربعة أقسام تشمل التعاون الأمني، التعاون الاقتصادي، دعم المكاسب الديمقراطيّة والتعاون الاستراتيجي التونسي الأمريكي. والتي أثارت جدلا واسعا حينها، ليست لما تضمّنته من بنود وإنّما لإمضائها من طرف محسن مرزوق رئيس حزب نداء تونس آنذاك.

سياسة الاستقطاب السخيّة

تغيّر الموقف الامريكيّ لم يقتصر على إذابة الجليد السياسيّ، بل تجسّد عبر حزمة من الإجراءات والعطايا “السخيّة” للحكومات التونسيّة المتعاقبة. اغراء الجانب التونسيّ للارتباط أكثر بالمعونات الأمريكيّة، واستقطاب السياسة الخارجيّة التونسيّة نحو الاصطفاف والتماهي مع المواقف الأمريكيّة، اعتمد على الهبات والمساعدات الاقتصاديّة والأمنية والعسكريّة. إذ تفيد المعطيات الصادرة عن السفارة الأمريكيّة في تونس عن تسلّم الحكومات المختلفة منذ سنة 2011 ما يقارب 700 مليون دولار في شكل مساعدات وهبات، إضافة إلى ضمانات قروض ناهزت المليار دولار حتّى سنة 2015.

تدعيم العلاقات الاقتصاديّة بين الجانبين، لم يقتصر على الجانب الماليّ فحسب، إذ تفيد احصائيات منظّمة التجارة الدوليّة والمعهد التونسي للإحصاء عن تطوّر المبادلات التجارية بين البلدين خلال السنوات الخمس الماضية، لتتضاعف الواردات التونسيّة من السلع الأمريكيّة أربع مرّات من 160 مليون دولار سنة 2010 إلى 606 مليون دولار تقريبا سنة 2015. في نفس السياق، بلغت الصادرات التونسيّة للولايات المتّحدة سنة 2015 ما يناهز 206 مليون دولار مقابل 215 مليون دولار سنة 2010. هذه الحصيلة وفتح الأسواق التونسيّة أكثر فأكثر أمام المنتجات الأمريكيّة فاقمت وضعية العجز التجاريّ ليبلغ قرابة 400 مليون دولار سنة 2015 بينما لا تمثّل المبادلات التجاريّة مع الولايات المتحّدة سوى 2.6% من إجماليّ التبادل التجاريّ لتونس مع دول العالم.

أمّا على صعيد الاستثمارات المباشرة، فبقي الاندفاع الأمريكي نحو السوق التونسيّة محتشما. حيث تفيد المعطيات الصادرة عن السفارة الأمريكيّة وتقرير صادر عن السفارة الفرنسيّة في تونس أنّ حجم الاستثمارات الأمريكيّة في تونس لا يتجاوز 105 مليون دولار خارج قطاع الطاقة والتي لا تمثّل سوى 2% من عدد المؤسّسات والاستثمارات الأجنبيّة في تونس.

كما سعت الولايات المتحدة الأمريكيّة إلى تكريس وجودها الاقتصادي عبر مؤسسّة التمويل الدوليّة (International Finance Corporation)، التابعة للبنك الدولي. حيث لم تقتصر نشاطاتها على تمويل المشروعات المتعثّرة أو الاستشارة الماليّة، وقد استطاعت     IFC  أن تدعّم وجودها بتونس من خلال عمليات الاستثمار المتتالية والتي شملت عديد القطاعات كالقطاع البنكي، حيث أصبحت مساهمة في رأس مال بنك الأمان، بالإضافة إلى القطاع الصناعيّ عبر شراء نصيب بلغ 19% من أسهم شركة Fuba المصنّعة للشرائح الالكترونية.

على المستوى الأمنيّ والعسكريّ، فإنّ التنسيق بين تونس والولايات المتحّدة الأمريكيّة يعود إلى عقود خلت، حيث تمثّل الأسلحة الأمريكيّة 70% من ترسانة الجيش التونسيّ، إضافة إلى خضوع الأمنيّين والعسكريّين التونسيّين إلى دورات تدريبيّة دوريّة في الولايات المتحّدة.

الظرف الأمنيّ والعسكريّ الصعب الذّي عرفته تونس منذ سنة 2011، انعكس على التعاون بين البلدين في هذا المجال، حيث منحت الولايات المتحدة الأمريكية مبلغا يفوق 225 مليون دولار تحت عنوان المساعدة الأمنية لتونس، والتي شملت بالأساس معدّات نقل وتسليح إضافة إلى دورات تكوينيّة في مجال مكافحة الإرهاب والتهريب والجريمة المنظّمة.

أمّا على الصعيد العسكريّ، فقد منحت الولايات المتحدة الامريكيّة 100 مليون دولار لفائدة وزارة الدفاع التونسيّة منذ سنة 2011. كما تولت الولايات المتحدة تنظيم دورات تكوينية لفائدة العسكريين التونسيين ومنحهم تجهيزات في مجال الترصد والانتشار وحماية الحدود. وقد ساهم برنامج المبيعات العسكريّة الأجنبيّة في تمكين تونس من ابرام صفقات عسكريّة كان آخرها سنة 2015 أثناء زيارة الرئيس الباجي قائد السبسي إلى واشنطن والتي وقّع خلالها عشرة عقود إضافية مع الولايات المتحدة شملت عقودا لشراء طائرات هليكوبتر من طراز (بلاك هوك) وناقلات جند مدرعة وصواريخ (هيلفاير) و52 عربة من طراز (همفي)، وثلاثة زوارق دورية وطائرتي نقل من طراز C-130J.

يبدو انّ السياسة الخارجيّة الامريكيّة تجاوزت مرحلة الاعجاب بثورة الشعب التونسي لتمرّ إلى مرحلة الوصاية على البلاد ورسم ملامح مخطّطاتها الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة. وقد مثّلت الاتفاقيات ذات الطابع الإقتصاديّ أحد أدوات هذه الوصاية على غرار اتفاقية التعاون والشراكة مع الحكومة والتي وقعتها شركة «جنرال ايلكتريك» الأمريكية في 9 نوفمبر 2013 والتّي تشمل مجال الصحة والنقل والطاقة عبر تمويل المشاريع الكبرى، بالإضافة إلى اتفاقيّة الشراكة بين تونس ومايكروسوفت والتي تمّ توقيعها سنة 2014 أثناء زيارة رئيس الحكومة مهدي جمعة إلى الولايات المتحّدة سنة 2014 بغرض استغلال نظم التشغيل في إطار الاحترام الكامل لحقوق الملكية الفكرية، وصولا إلى مذكّرة التعاون بعيد المدى التي وقعها رئيس حركة نداء تونس محسن مرزوق أمام انظار الرئيس الباجي قائد السبسي في ماي 2015 وجدول اعمال الدورة الثانية من الحوار الاستراتيجي الأمريكي التونسي في نوفمبر 2015.