منذ أن صدرت سنة 2000 الطبعة الثالثة والمُنقحة لكتاب “المرأة بين القرآن وواقع المسلمين” الذي ألّفه رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، لم يتعزز الرصيد الفكري والإيديولوجي للحركة الإسلامية التونسية بكتابات جديدة حول قضية المرأة. وقد ظل الخطاب النهضاوي يجتر مقولات عامة حول الدور النظري للإسلام في تكريم المرأة بوصفها معنية –مثل الرجل- بخطاب التكليف الإلاهي.

الدعوة الأخيرة التي أطلقها الرئيس قايد السبسي حول الرغبة في تغيير أحكام الميراث في اتجاه المساواة بين الجنسين، فاجأت الإسلاميين لأنها لم تكن متوقعة في مثل هذا الظرف الذي يطغى عليه الجدل الانتخابي والسياسي. وبعثرت الاستراتيجيا الإسلامية في إدارة الشأن الداخلي، التي يحكمها مبدأ تأجيل المراجعات العقدية من أجل الحفاظ على الوحدة السياسية للحركة. هذا التأرجح يدعو إلى ضرورة التأمل في ممكنات المراجعة العقدية لإسلاميي تونس وحدوده الفكرية، هل تغيرت نظرتهم لقضية المساواة بين المرأة والرجل؟ ماهي المخارج السياسية والإيديولوجية التي يبحثون عنها من أجل تأمين التوازن بين الضغط العقدي للقاعدة وبين الترويج لصورة الحركة الحداثية والديمقراطية؟

حركة النهضة أمام ثقل الإرث الإخواني

كان الإهتمام بقضية المرأة إحدى الأدوات الإيديولوجية والسياسية التي استخدمتها حركة الاتجاه الإسلامي أول الثمانينات، في سياق معركتها الرمزية والسلطوية مع النظام البورقيبي. حتى أن معظم الفصول التي تضمنها كتاب راشد الغنوشي المُشار إليه سابقا تم تأليفها سنة 1984، وعلى الأرجح في سجن الناظور مثلما ذكر صاحبه. انطلق هذا الكتاب من تأصيل فقهي وعقدي معهود في الفكر الإسلامي بفترتيه الوسيطة والحديثة، يربط إجمالا الوضع البشري للمرأة بالتزامها بالمبادئ العامة للقرآن والحديث النبوي، وقد أعاد خلاله راشد الغنوشي إنتاج التفاسير الاسلامية الرائجة في كتابات السيد قطب وحسن البنا، مشيرا بشكل عرضي إلى أعلام الحركة الإصلاحية في المشرق على غرار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

تكمن القيمة التاريخية لهذا الكتاب في الموقف الذي اتخذه رئيس حركة النهضة من مجلة الأحوال الشخصية تحت فصل بعنوان “التمزق الأسري في تونس ومجلة الأحوال الشخصية”. ورغم غياب النقد الفقهي والقانوني للمجلة الذي يعكس رفضا عقائديا لمنطلقاتها ومضامينها، فإن الغنوشي ركّز بالأساس على استتباعاتها الاجتماعية والحضارية، منتجا بذلك خطابا أخلاقويا حول دور المجلة في “نشر الانحلال القيمي للمجتمع”. إضافة إلى هذا شكلت مجلة الأحوال الشخصية مَسلكا لإدانة المشروع البورقيبي ورميه في خانة “التغريب” و”العمالة للحضارة الأوروبية”، وقد لخّص الغنوشي هذه الرؤية في قوله “تكمن خطورتها (مجلة الاحوال الشخصية) أساسا في الموجة التي صاحبتها وسبقتها ولحقتها وساهمت هي في إلهاب نارها…أعني موجة التغريب والثورة العمياء ضد كل تراثنا الفكري والثقافي والتشريعي والرغبة في تقويض البناء الاجتماعي الموروث لاكتساب “بطولة التجديد” ولو كان على حساب شخصيتنا الحضارية…وكان طبيعيا أن تُثمر هذه الموجة التغريبية تحللا في المجتمع”. 1

كان صراع الإسلاميين مع أول تحديث تشريعي مُتعلق بقضية المرأة يمتزج فيه الموقف العقدي مع الموقف السياسي، إذ أن الأساس التشريعي للمجلة شكّل بالنسبة إليهم تناقضا مع فهمهم لمنظومة الوحي (القرآن والسنة) التي تحمل –في نظرهم- نصوصا قطعية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان، ويحصرون جواز التأويل في النصوص ظنية الدلالة أي التي لم تصدر فيها أحكام قطعية ولم يرد فيها إجماع من الصحابة. وقد ورد في الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة النهضة (وثيقة مرجعية لم يتم التخلي عنها) “نحن نؤمن بعمومية الخطاب التشريعي ولا نرى اختصاص النص بظروف نزوله وأسبابه”2. من هذا المنطلق سعت حركة النهضة إلى المعارضة السياسية للمجلة باعتبارها تجديدا تشريعا من خارج المرجعية الإسلامية وتنهل من القوانين الأوروبية الحديثة.

هذه النزعة النصّانية ظلت تسيطر على حركة النهضة في عموم قاعدتها الاجتماعية وصلب جزء كبير من قيادتها السياسية، وهو ما أبرزته حملات التجييش سنة 2012 من أجل تضمين الشريعة الاسلامية كمصدر أساسي للتشريع في الدستور الجديد. وقد تلازمت هذه الحملات مع خطاب إسلاموي معاد لكل مظاهر التحديث تحت غطاء التناقض التاريخي مع الحضارة الغربية و”عملائها الفكريين” في الداخل. تجَاوَرَ هذا الخطاب –المنسجم مع مبادئ التأسيس- مع ممارسة سياسية محكومة بالاستخدام البراغماتي للأطر الديمقراطية (المجالس النيابية) من أجل الاندراج داخل مقولة “الإسلام الديمقراطي” وصرف شبهة الثيوقراطية عن الحركة، وقد تكثفت هذه النزعة تحت وطأة التغيرات الإقليمية التي شهدها المشروع الإخواني سنة 2013، خاصة مع التجربة المصرية. من داخل هذا السياق الجيو-سياسي نشأت مفاهيم “التوافق” و”التعايش” بين المشروع الإسلامي والمشروع الدستوري “الحداثي” الذي مثله آنذاك نداء تونس. هذا التكيف الذي فرضته تغيرات الداخل والخارج لم تواكبه مراجعات نقدية للتصورات العقدية السابقة، وقد قبلت به على مضض القاعدة الاجتماعية للحركة بوصفه “حكم الضرورة” دون أن تطرح على نفسها مراجعة منطلقاتها العقدية القديمة، وتأقلمت معه القيادة بوصفه نتاجا تاريخيا لموازين القوى السياسية والاجتماعية، دون أن تدفع هي الأخرى نحو فتح باب مراجعة الموروث الفكري.

التوظيف العقدي لدستور 2014

التوجه المسكون بهواجس الضغط السياسي والمحافظة العقدية والخوف من التشتت الحزبي، أدى إلى انسداد فكري داخل الحركة التي هيمن على سلوكها الانغماس في الممارسة السياسية العملية. كما خلق شرخا في وعي القاعدة التي تتمزق بين انتماء وجداني وقيمي للمشروع الإسلامي بنسخته الأصلية وبين ضرورة الرضوخ لإكراهات الواقع السياسي. هذا الانفصام أبرزه مؤخرا إلى السطح الجدل الديني والسياسي حول المساواة في الإرث، ويمكن ملاحظته من خلال تضارب المواقف الرسمية وعدم وضوحها، فهناك من لا يرى مانعا في إقرار المساواة في إطار حوار مجتمعي على قاعدة الدستور ومبادئ الإسلام على غرار علي العريض ونور الدين العرباوي وعبد الفتاح مورو، في حين يذهب رئيس الكتلة النيابية نور الدين البحيري إلى أن “الحركة لن تحلل الحرام و تحرم الحلال”، وينطلق هذا الموقف من تمسك بالرؤية الفكرية القديمة التي ترى أنه “لا اجتهاد مع النص” خصوصا إذا تعلق الأمر بالنصوص قطعية الدلالة مثلما هو الشأن في أحكام الميراث الواردة في سورة النساء. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفصل المنهجي بين “القطعي” و”الظني” في القرآن كان من صنع العقل التأويلي للفقهاء القدامى في إطار سعيهم إلى تزويد المجتمع والسلطة بإطار تشريعي في تلك العصور، وقد ظل هذا التقسيم -الذي خنق الأفق الانساني للنص القرآني- مُهيمنا على الفكر الإسلامي باستثناء الجهود الفكرية المعاصرة التي سعت جادة إلى إعادة قراءة النص القرآني على ضوء مناهج التاريخ وعلم الاجتماع الديني والتحليل السيميائي.

التضارب السطحي في المواقف لا يمنع أن هناك إرادة واحدة داخل قيادة الحركة للخروج من هذا المأزق السياسي-الفكري الذي وضعها فيه لاعب خارجي (الرئيس) وهو ينضاف إلى ضغط قاعدي يطالب الحركة بالتمسك بمرجعيتها الإسلامية وعدم الذوبان في الآخر “العلماني”. ويلوح الفصل الأول من دستور 2014 “تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها” مخرجا للخروج من هذا المأزق، إذ عبر العديد من قادة الحركة الإسلامية على ضرورة احترام هذا الفصل الدستوري خصوصا في إشارته “الإسلام دينها”، حتى لا يتم سن قوانين متنافية مع النص القرآني ومع معتقدات الشعب. وهنا يبرز الدستور كحصن أخير للحركة تسعى إلى توظيفه العقدي، لمواجهة ضغط القاعدة ولتجنب الإحراج السياسي الذي سيضعها فيه خصومها إذا عادت إلى خطابها الإسلاموي القديم، فالاستخدام الإيديولوجي للدستور –كإطار يحظى بإجماع وطني- أفضل بالنسبة لحركة النهضة من العودة إلى النصوص الفقهية والإخوانية القديمة.

هوامش

  1. راشد، الغنوشي. المرأة بين القرآن وواقع المسلمين، ط3، لندن: المركز المغاربي للبحوث والترجمة، 2000. ص 104
  2. الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة النهضة. ط2، سلسلة قطوف النهضة: 2012، ص 24.