في البداية نرى شخصيّات المسرحيّة الثمانية دون أن نتبيّن ملامحها، تتحرّك في الظلام بطريقة توحي بأنّها هاربة من شيء ما، تحمل أكياسا بلاستيكيّة ساهم صوت خشخشتها بين الأيادي في إضفاء جوّ من الغرابة الأليفة، ثمّ تصعد فوق الشقف الذي مثّل نقطة الالتقاء التي ستتكثّف عندها الأحداث وتنكشف الشخصيّات أمامنا. يبدو من الصعب جدّا نقل الإحساس بالسقوط، الذي ترجمته حركة المركب غير المستقرّة والمتموّجة، لكنّ سيرين قنّون والفريق العامل معها نجحوا من خلال الديكور والإضاءة في نقل هذا الإحساس وذلك بمساعدة الترامبولين. الشقف في المسرحية هو عبارة عن ترامبولين يقفز فوقه الممثّلون ويتحرّكون بسلاسة وكأنّهم فوق مركب حقيقيّ سائر دون وجهة في عرض البحر. عند نقطة الإلتقاء فوق الشقف تبدأ الشخصيّات في كشف ملامحها وسرد قصصها المُغمّسة في الوجيعة.

لم تربط مسرحيّة “الشقف” بطريقة ميكانيكيّة بين الفقر والهجرة السريّة، الذي يعدّ أحد أهمّ محرّكيها، بل أقحمت قراءات أخرى أخذت بعين الاعتبار الجانب النفسيّ والفردانيّ للشخصيّات، فكان خطابها قاطعا مع الخطابات المُملّة والجافة التي نسمعها في نشرات الأخبار أو من بعض المحلّلين الجهابذة. شخصيّات المسرحيّة اشتبكت مع الواقع، تعرفه جيّدا فلها تاريخ طويل من الصراع معه، حاولت البقاء في أوطان تكرهها وتطردها يوميّا لكنّ النهاية اقتربت فقرّرت الرحيل أو الهروب. لم تعد الهجرة السريّة مرتبطة أساسا بالعامل الاقتصاديّ، وهذا ما نفهمه من المسرحيّة التي حاولت النبش في أغوار العاطفة البشريّة وطرح أزمة الانتماء من خلال خطاب الشخصيّات التي ترى في الرحيل خلسة فرصة لفتح آفاق جديدة والاستمتاع بذواتها بعيدا عن منظومة أخلاقيّة صدئة ونظام سياسيّ متآكل.

الهجرة السريّة هي فعل مقاومة حقيقيّ بالنسبة إلى شخصيّات المسرحيّة الثمانية التي لعبت أدوارها بحرفيّة وإتقان شديدين وهي على التوالي: ريم الحمروني (تونس)، وبحري الرحالي (تونس)، وعبد المنعم شويّات (تونس) وأسامة كشكار (تونس)، وندى الحمصي (سوريا)، ومريم دارا (بنين)، وغي اونصونوصي (بنين)، وصوفيا موسى (لبنان). اختلفت دوافعهم للهجرة سرّا لكنّ الهدف واحد، وهو العيش في مكان لا يصادر أحلامهم الصغيرة. ريم الحمروني في دور “زرقة”، امرأة مهمشّة من قبل مجتمع التحكّم ولها “نصبة” تبيع فيها بعض مستلزمات الاستحمام، قرّرت عدم التورط في شبكات الانتصاب الفوضويّ. “زرقة” الهاربة من الفقر ومن البوليس المرتشي ومن عصابات السوق تحدّثت عن معاناتها بطرافة وحزن دون أن تدخل في البكائيّات والعنتريّات الوجدانيّة، كانت صادقة وواضحة في كلامها.

لم يهرب عبد المنعم شويّات الذي جسّد دور “بيرم” من تونس لأسباب تتعلّق بشكل مباشر بالبطالة والفقر. “بيرم” هو شاب تونسيّ يتعرّض لمضايقات بوليسيّة -تكاد تكون يوميّة- جعلته يفكّر في ميكانيزمات التحكّم والسيطرة. تتعاظم أزمته الوجوديّة بحدث اغتيال المناضل شكري بلعيد فيتشكّل لديه وعي راسخ بأنّ ما يقوم به البوليس من مضايقات هدفه إلهاء الشباب عن قضاياه الحقيقيّة. لم يستطع “بيرم” العيش في بلد تُقبر فيه ملفّات الاغتيالات وتتحوّل فيه الأحداث الكبرى إلى مجرّد وخزة صغيرة في القلب، فانسلخ بذاته الفرديّة عن الذات الأوسع: الوطن. مع تطوّر الحوار بين الشخصيّات تنكشف ملامح جديدة لها، فمن بين راكبي الشقف شاب مثليّ تقمص دوره اسامة كشكار، ضاقت به الأرض ونفضته عائلته كذبابة من على كتفها، فقرّر الرّحيل. فتاة من جنوب لبنان المحافظ، تحمل أخلاق القرية وزرا على ظهرها، تريد أن  ترقص بخفّة مثل خنفساء مضيئة، تتنقّل بحماس فوق أوراق الأشجار، انتحلت جنسية امرأة سوريّة علّها تجد مكانا يحتويها بما أنّ السوريّين لهم أفضليّة اللجوء. تتكلّم صوفيا موسى كثيرا لتقول شيئا واحدا فقط: لا أحد يحتكر المعاناة. إلى جانبها ندى الحمصي، في دور الأم السوريّة المنهكة من الحرب والتي تهاجر مع المهاجرين بحثا عن ابنها الضال. أمّا المهاجران الإفريقيان واللذان جسّدا دورهما كلّ من وغي اونصونوصي و مريم دارا، فيكشف لنا خطابهما بوضوح غير صادم نفاق المجتمعات الأوروبيّة الرافضة للمهاجرين الأفارقة الذين يدفعون الضرائب ويشتغلون بكدّ ويساهمون في إثراء القارّة العجوز لكنّهم صامتون، وهو ما عبّرت عنه بذكاء متدفّق الكاتبة السنغاليّة فاتو ديوم في أحد حواراتها التلفزيّة عندما قالت: “صمت الأفارقة عمّا يحصل لهم في بلدان المهجر مَنح أوروبا شرعيّة الترويج لخطابات مغلوطة ومتطرّفة”. جميع هؤلاء المهاجرين جمعهم بحري الرحالي في دور “اللّص”، ربّان الشقف، ذلك الرّجل الصارم والحادّ الذي يمسك بأحلامهم بين يديه الخشنة.

مهاجرون سريّون هاربون من فضاءات التطويق والكبت داخل مجتمعاتهم الانضباطيّة التي قتلت أحلامهم وحوّلتهم إلى كتلة واحدة، جمعهم الشقف الذي التصق به كليشيه “قارب الموت”، يتداعون ويعيدون صياغة سيناريوهات جديدة لحياتهم المحتملة بملامح شوّهتها أوطانهم التي تحوّلت إلى قسّ يمارس سلطته الرعويّة المطلقة على قطيع من الخرفان السمينة الطريّة.