على صدى الأخبار التّي تتحدّث عن المليارات الموعودة التّي سيحملها ولي العهد السعوديّ إلى تونس، ووسط تصريحات الترحيب والثناء على العلاقات المتينة بين البلدين، يصل محمد بن سلمان في 27 نوفمبر الجاري إلى مطار تونس قرطاج في محطّته الرابعة خلال جولة عربيّة انطلقت منذ يوم الخميس 22 نوفمبر 2018 لتشمل الإمارات العربيّة المتحدة والبحرين ومصر. هذه الزيارة الأولى من نوعها لوليّ العهد السعوديّ إلى تونس، والتّي تزامنت مع تصاعد تهديدات الكونغرس الأمريكيّ بفتح الملفّ السعوديّ ووعيد رئيس لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشيوخ الأمريكي، بوب كوكر بتضييق الخناق على محمد بن سلمان، لم تمرّ دون تحريك الشارع التونسيّ ومنظّمات المجتمع المدني وعدد من الأحزاب السياسيّة، التّي أصدرت سلسلة من البيانات والدعوات الصريحة للتظاهر لتنتقل موجة الرفض إلى الشارع عبر تحرّك شعبيّ يوم الإثنين 26 نوفمبر الجاري في شارع الحبيب بورقيبة. هذه التحرّكات التّي حظيت باهتمام دوليّ ملحوظ ومثّلت أحد أهم محاور التناول الإعلامي لوكالات الأنباء والصحف الدوليّة، لم تثن على ما يبدو المسؤولين التونسيّين ولا وليّ العهد السعوديّ عن إتمام الزيارة. موقف لا ينفصل عن خيارات سابقة للديبلوماسيّة التونسيّة في التعاطي مع الملفّ السعوديّ بعد أن ارتضت الحكومات المتعاقبة تحت وطأة الأزمة الاقتصاديّة الخانقة الدخول إلى حظيرة الإصطفاف الطائفي مقابل جزرة المساعدات الماليّة والعسكريّة وتبنّي محاور السياسات الخارجية للمملكة العربية السعودية، إضافة إلى غضّ الطرف عن انتهاكات عهد “سلمان الحزم”، كما يحلو للسعوديين تسميته، واستقبال ابنه ووليّ عهده والحاكم الفعليّ للمملكة رغم دماء اليمنيّين وجمال خاشقجي والداعية الشيعي نمر النمر وضحايا حصار مدينة العوامية وقرى محافظة القطيف التّي تلطّخ عباءته.

تونس في ظلّ العباءة السعوديّة

ظلّ التقارب السياسيّ بين المملكة العربيّة السعوديّة وتونس متسّما بالتوجّس نظرا لما مثّلته الثورة التونسيّة وما تلاها من انتفاضات في عدد من الدول العربيّة في نظر السعوديّين من لهيب قد يطال عروشهم خصوصا مع وصول الإسلاميّين للحكم وتعاظم أدوار قوى إقليميّة جديدة في دول “الربيع العربي” على غرار تركيا وإمارة قطر. لتكون سنة 2014 وإزاحة حركة النهضة من واجهة الحكم منعرجا جديدا في العلاقات الثنائيّة بين تونس والمملكة العربيّة السعوديّة التّي ترجمتها زيارة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي إلى الرياض في 22 ديسمبر 2015 ليعقبها الإعلان عن حزمة من القروض ناهزت المليار دولار ومساعدات عسكريّة تضمّنت هبة من 48 طائرة مقاتلة أمريكيّة الصنع من طراز F5، بعد أن خرجت فعليا من الخدمة في السلاح الجويّ السعودي منذ أكثر من عقدين. هذا السخاء كان كفيلا بجرّ تونس إلى الفلك السعوديّ بعد موافقتها الإنضمام إلى “الحلف الإسلامي السنيّ” الذّي أعلنت السعوديّة عن تشكيله بدعوى محاربة الإرهاب في 22 ديسمبر من نفس السنة. هذا الإصطفاف سيفصّل المواقف الديبلوماسيّة التونسيّة على مقاس السياسات الخارجيّة السعوديّة طيلة السنوات اللاحقة. إذ انساقت تونس بشكل كامل وراء مواقف مملكة آل سعود إزاء عدد من القضايا الإقليميّة وسخّرت ديبلوماسيتها في أكثر من مناسبة لخدمة معارك النفوذ السعوديّة في المنطقة وهاجس التوغّل الإيراني الذّي يسكن عقول حكّامها. كما تعمّدت غضّ الطرف عن تصنيف حزب الله كمنظّمة ارهابيّة، والتعامي عن العدوان السعوديّ على اليمن والمشاركة في المناورات العسكريّة المشتركة للتحالف الإسلامي“رعد الشمال” في فيفري 2016. إضافة إلى المصادقة على البيان الختامي للقمة العربيّة سنة 2016، الذّي تضمّن تهديدا صريحا لإيران. بل وصل النفوذ السعوديّ إلى دفع الحكومة التونسيّة إلى إقالة وزير الشؤون الدينيّة في 04 نوفمبر 2016 عقابا له على تصريحات اعتبرها هؤلاء مناهضة للمملكة.

سطوة المملكة العربيّة السعوديّة على السياسة الخارجيّة التونسيّة لم تتوقّف عند هذا الحدّ، بل وصل التأثير السعوديّ إلى دفع الدبلوماسيّة التونسية إلى الاحتفاظ بصوتها خلال جلسة التصويت على قرار تمديد عمل لجنة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن في 28 سبتمبر 2018. هذه اللجنة التّي يرأسها التونسي كمال الجندوبي كانت قد أشارت بشكل واضح إلى تعمّد المسؤولين السعوديّين استهداف المدنيّين خلال عدوانهم عن اليمن والتسبّب بشكل مباشر في مقتل 16800 يمني من غير حاملي السلاح. إدانة لم تمنع الحكومة التونسيّة من فتح سماءها بداية شهر أكتوبر الفارط لاستكمال المناورات المشتركة مع سلاح الجو السعوديّ في قاعدة سيدي أحمد في بنزرت وتمكين السعوديّين من تطوير مهارات طيّاريهم قبل العودة إلى سماء اليمن.

علاقات مدفوعة الأجر

لم يكن التأثير السعوديّ على الديبلوماسيّة التونسيّة خلال السنوات الفارطة سوى انعكاسا لتنامي الثقل الاقتصاديّ للملكة تزامنا مع اشتداد الأزمة الاقتصاديّة التي رسّخت خيار الاستتباع السياسيّ التونسيّ مقابل جرعات القروض والهبات. حيث شهد نسق الاستثمار السعوديّ المباشر في تونس نموّا سريعا خلال السنوات الخمس الماضية، لتتحوّل السعوديّة إلى ثالث أكبر مستثمر عربي في تونس بأكثر من مليار دينار، توزعت بين الخدمات والفلاحة والصناعة. إضافة إلى تعزيز التواجد في البورصة التونسية من خلال بيت الإيجار السعودي التونسي برأس مال تجاوز 40 مليون دولار. أما على الصعيد المصرفي فتعتبر مجموعة البركة المصرفية المملوكة لرجل الأعمال السعودي صالح الكامل المعتقل منذ نوفمبر 2017 بأوامر مباشرة من ولي العهد محمد بن سلمان، أحد أبرز الأذرع الماليّة والاستثمارية السعودية في تونس لتشمل استثماراتها شركة البحيرة للتطهير والاستصلاح والاستثمار التي أنشأت الطريق الحزاميّة لبحيرة تونس الشمالية “عبد العزيز كامل” وشركة معرض تونس الدولي وفضاء الأنشطة الاقتصادية ببنزرت. المملكة العربية السعوديّة، لم تغب عن مؤتمر الإستثمار الدولي تونس 2020 نهاية شهر نوفمبر 2016، لإثبات حضورها الإقتصاديّ المتزايد، حيث أعلنت في اختتام أعمال المؤتمر عن منحها تونس قرضا ناهزت قيمته 800 مليون دولار. دين جديد تجاه السعوديين ضمن سلسلة من القروض المتراكمة خلال السنوات الخمس الماضية والتّي ناهزت قيمتها ملياري دولار قدّمها آل سعود تباعا عبر مؤسساتهم المالية الدوليّة على غرار البنك الاسلاميّ للتنمية والصندوق الإسلامي.

بعد الشريك الإماراتيّ، والبحرين التّي استجار ملكها بالجيش السعوديّ لحماية عرشه ومصر السيسي الغارق في المساعدات السعوديّة، ينزل محمد بن سلمان اليوم في تونس محاولا كسر العزلة الدوليّة التّي فُرضت عليه بعد جريمة قتل وتقطيع خاشقجي، مستندا إلى إيرادات النفط وجزرة المساعدات الإقتصاديّة التّي يتقن السعوديون التلويح بها للأنظمة المأزومة. في المقابل لا يرى الجانب الرسمي التونسي حرجا من مواصلة سياسة الاتجار بالمواقف وانتهاج ديبلوماسيّة العين الواحدة مقابل جرعات التسكين والتسوّل للحليف الثريّ ولو على حساب الدمّ أو سيادة البلاد أو التغاضي عن ملّف الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي القابع وعائلته حتّى هذه اللحظة تحت حماية آل سعود.