شرعت لجنة النظام الداخلي في البرلمان في مناقشة مقترحات التعديل على النّظام الداخلي للمجلس منذ شهر جانفي الماضي، وذلك إثر تعطّل سير أعمال الجلسة العامّة عدّة مرات بسبب النّقاشات الحادّة بين النوّاب. وكانت رئاسة الجلسة تضطرّ لرفعها مؤقّتا أو تأجيلها إلى موعد لاحق، وتعطيل المصادقة على مشاريع القوانين المعروضة على أنظاره. ممّا أثّر سلبا على صورة البرلمان في أعين النّاخبين. وتهدف تعديلات النّظام الداخلي بالأساس إلى مزيد حفظ النّظام داخل الجلسة العامّة والنّظر في إجراءات رفع الحصانة وغير ذلك من النّقاط. وكان البرلمان قد صادق خلال المدّة النيابية الأولى (2014-2019) على مجموعة من مقترحات التعديل المتعلّقة بالنظام الداخلي للبرلمان داخل اللّجنة وتمّ عرضها على الجلسة العامّة في جويلية 2017 دون استكمال النّظر فيها. إلاّ أنّ التعديلات الأخيرة المثيرة للجدل جاءت في الوقت الّذي تمّ فيه تفعيل استقالة 9 نوّاب من كتلة قلب تونس بتاريخ 25 مارس 2020. وتنصّ صراحة على معاقبة النّائب الّذي يستقيل من كتلته بإلغاء عضويته تماما من المجلس. كما تقدّمت كتلة ائتلاف الكرامة يوم 22 ماي 2020 بمقترح قانون لتعديل القانون الانتخابي يقضي أيضا بإلغاء عضوية النائب من البرلمان في حال استقالته من الكتلة أو الائتلاف الّذي ترشّح عنه.

السياحة البرلمانيّة وشبح سيناريو نداء تونس

قد يُذكّر انقسام كتلة قلب تونس وتراجع عدد نوّابها من 37 إلى 28 بما حدث لكتلة نداء تونس يعد انتخابات سنة 2014 مع اختلاف جوهريّ بين الكتلتين، حيث اصطفّ قلب تونس في المعارضة منذ الإعلان عن الشخصيّة المُكلّفة بتكوين الحكومة في جانفي 2020، بينما تمكّن حزب نداء تونس بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2014 من تكوين أغلبيّة مريحة بالبرلمان (86 مقعدا) منحت ثقتها لرئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصّيد و نيل عدد من الحقائب الوزارية.

ولكن مهما بلغ حجم الكتلة البرلمانيّة فإنه لا مفرّ من تكوين تحالفات سياسيّة من أجل ضمان تمرير مشاريع القوانين. وإثر تحالف نداء تونس مع النهضة بداية من نوفمبر 2015 في إطار سياسة التوافق، أعلن عدد من النوّاب انسحابهم من كتلة النداء احتجاجا على هذا التحالف، ومن ثمّ تكوين كتلة نيابيّة جديدة (كتلة الحرّة) تضمّ 21 نائبا، تمخّضت فيما بعد عن حزب مشروع تونس الّذي اصطفّ في المعارضة. ثمّ تواصلت الانشقاقات في كتلة نداء تونس من جديد وانسحب منها 7 أعضاء في ماي 2017 لتكوين الكتلة الوطنيّة الّتي بدأت تتموقع شيئا فشيئا وتستقطب النوّاب المستقيلين من كتلتَيْ نداء تونس والحرّة لتصبح الكتلة الثانية عدديّا في آخر المدة النيابيّة الأولى 2014-2019 بـ44 نائبا مقابل 37 فقط لنداء تونس.

هذا الشّبح مازال يُخيّم على البرلمان الحاليّ مخافة تكرّر سيناريو نداء تونس الّذي تصدّع وفقد أكثر من نصف عدد نوّابه منذ بداية الدورة النيابية إلى نهايتها. وإزاء انسحاب أعضاء كتلة قلب تونس أصدر المكتب السياسي للحزب بيانا اعتبر فيه أنّ السياحة الحزبيّة تتنافى مع ميثاق الحزب والتزاماته. كما علّق رئيس الحزب نبيل القروي يوم 31 مارس 2020 على هذه الاستقالة بأنّ هؤلاء النوّاب خاضوا الانتخابات التشريعية تحت يافطة قلب تونس وأصبحوا أعضاء في البرلمان بفضل هذا الحزب، وأنّ مغادرتهم تأتي في إطار “الطموحات الشخصيّة”.

فيما ردّ النائب المستقيل من كتلة قلب تونس حاتم المليكي على إذاعة موزاييك أف.أم بتاريخ 12 مارس 2020 أنّ الأحزاب السياسية “ليست سجنا” وأنّ نيّة الاستقالة من الكتلة لا تعني بالضّرورة الانضمام إلى كتلة أخرى أو تشكيل حزب آخر . على إثر هذا تكوّنت الكتلة الوطنيّة برئاسة حاتم المليكي بصفة رسميّة يوم 14 أفريل 2020، وتضمّ 9 نوّاب مستقيلين من كتلة قلب تونس.

مقترحات غير دستورية

ينصّ كلّ من الفصل 39 من القانون الانتخابي والفصل 45 من النّظام الداخلي في صيغته الأصليّة على ما يلي:

إذا استقال عضو مجلس نواب الشّعب من الحزب أو القائمة أو الائتلاف الانتخابي الّذي ترشح تحت اسمه أو الكتلة الّتي انضمّ إليها، فإنّه يفقد آليّا عضويّته في اللجان النيابيّة وأيّ مسؤولية في المجلس تولاّها تبعا لانتمائه ذاك. ويؤول الشّغور في كل ذلك إلى الجهة الّتي استقال منها.

وهو ما يفتح للنّائب إمكانيّة الانضمام إلى كتلة نيابيّة جديدة أو تكوين كتلة أو حزب جديد كما حدث مع كتلة الحرّة والائتلاف الوطني في البرلمان السّابق. ولكنّ مقترح التّعديل الّتي صادقت عليه لجنة النظام الداخلي ينصّ على ما يلي:

إذا استقال عضو مجلس نواب الشعب من الحزب أو القائمة أو الائتلاف الانتخابي الذي ترشح تحت اسمه أو الكتلة التي انضمّ إليها، فإنه يفقد آليا عضويته في المجلس. ويؤول الشغور في كل ذلك إلى الجهة التي استقال منها. ويستثنى من أحكام الفقرة الأولى النواب المستقلون والمنتمون لكتل الائتلافات البرلمانية.

ووفق ما ذكرته منظّمة البوصلة فإنّ الفقرة الأولى من هذا المقترح -والتي تنصّ على إلغاء العضوية من البرلمان للنوّاب المستقيلين- تقدّم بها نواب كتلة حركة النهضة وتمت المصادقة عليها بأغلبيّة الحاضرين (9 نوّاب من قلب تونس وائتلاف الكرامة والنهضة) مع تحفّظ نائبَيْن عن الكتلة الديمقراطيّة وكتلة الإصلاح. أمّا الفقرة الثانية التي تستثني النوّاب المترشّحين على قائمات مستقلّة من أحكام الفقرة الأولى فقد اقترحتها كتلة الإصلاح الوطني الّتي تضمّ نوّابا مستقلّين وآخرين تحصّلوا على عدد مقاعد في البرلمان بقائمات حزبيّة لا تخوّل لهم تكوين كتلة حزبيّة.

ويُعدّ هذا المقترح خرقا للفصل 35 من الدستور الّذي ينصّ على حريّة تكوين الأحزاب. كما يتعارض مع أحكام المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب الّذي ينصّ في فصله الأول على “حرية تأسيس الأحزاب السياسية والانضمام إليها والنشاط في إطارها و[…]تكريس حرية التنظيم السياسي ودعم التعددية السياسية وتطويرها وإلى ترسيخ مبدأ الشفافية في تسيير الأحزاب السياسية”. وينصّ الفصل 20 من النظام الدّاخلي للبرلمان على أنّ النائب يصبح نائبا عن الشّعب بأكمله بداية من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعيّة.

ومن ناحية أخرى، لا بدّ من احترام التسلسل الهرمي للقواعد القانونيّة. فالنظام الدّاخلي للبرلمان يُسيّر هياكله داخليّا وينظّم العلاقة بين الكتل والنوّاب المستقلّين. ومقترح التعديل المعروض يمسّ القانون الانتخابي الّذي يستمدّ جوهره من روح الدستور وحريّة العمل السياسي. و لا يتم هذا إلا عبر تغيير أحكام القانون الانتخابي، وهو ما يفرض وجود محكمة دستوريّة تحسم بشأنه في حال تمّ الطعن في دستوريّته.

تعديلات على المقاس

وإزاء الجدل القانوني الّذي أحدثه مقترح هذا التعديل، قامت كتلة ائتلاف الكرامة بإيداع مقترح قانون يشمل 3 تعديلات على القانون الانتخابي، من بينها مقترح تعديل للفصل 39 منه يستنسخ مقترح التعديل نفسه الّذي تمّ التصويت عليه داخل اللجنة، والمتعلق بتنقيح الفصل 45 من النظام الداخلي. ووفق وثيقة شرح الأسباب المرفقة مع نصّ المبادرة التشريعيّة، فإنّ الهدف من التعديل هو القطع مع السياحة الحزبيّة. ويُذكر أنّ ائتلاف الكرامة كان من بين المُصوّتين على هذا التعديل لمّا عُرض على لجنة النظام الداخلي.

هي ليست المرّة الأولى الّتي يحاول فيها النوّاب الانقلاب على قواعد اللعبة السياسيّة أثناء خوضها. ففي جوان 2019، وقبل خوض الانتخابات الرئاسية والتشريعيّة ببضعة أشهر، قامت حكومة الوحدة الوطنيّة التي يترأسها يوسف الشاهد بإيداع مجموعة من مقترحات التّعديل على القانون الانتخابي تشمل إدراج عتبة 3% في احتساب عدد المقاعد للفائزين في الانتخابات التشريعيّة وحذف إقصاء التجمعيّين من عضوية مكاتب الاقتراع ورفض ترشّحات من ثبُت قيامه أو استفادته من الإشهار السياسي ومن يقوم بخطاب مُعادٍ للديمقراطيّة، بالإضافة إلى اشتراط بطاقة عدد 3 خالية من السوابق العدليّة. وهي في ظاهرها تعديلات لتنقية المناخ السّياسي وفي باطنها إقصاء للخصوم السياسيّين المترشّحين للانتخابات الرئاسيّة وعلى رأسهم نبيل القروي وألفة الترّاس وعبير موسي. وإلى الآن لم يتمّ ختم هذه التعديلات بعد المصادقة عليها في الجلسة العامّة.

كما قام نوّاب كتلة حركة النهضة بتقديم مقترح تعديل على القانون الانتخابي في فيفري 2020 يتعلّق بإدراج عتبة 5% في احتساب نتائج الانتخابات التشريعيّة، وذلك تحسُّبا لإجراء انتخابات سابقة لأوانها، ممّا قد يضمن لها حصد عدد أكبر من الأصوات ونسف وجود الأحزاب الصغيرة من المشهد النيابي.