ستيفاني وليامز، رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ورئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد

منذ أول حوار ليبي بغدامس 2014 إلى منتدى الحوار في تونس2020، تعددت مسارات التفاوض بين الليبيين وعرفت العديد من الانتكاسات خصوصا مع بداية عملية طوفان الكرامة التي شنها خليفة حفتر في 04 أفريل 2019 على طرابلس، عشرة أيام تقريبا قبل انعقاد المؤتمر الوطني الليبي الذي كان من المفترض أن يعدّ للانتخابات البرلمانية والرئاسية وينظم عملية الاستفتاء على فصول الدستور. مما أدى لإفشال المؤتمر وتأجيل الحوار تحت ضغط فوهات البنادق.

مسارات التفاوض

استُؤنف الحوار الليبي من جديد في برلين 19 جانفي 2020 على وقع دعوات أممية وجهتها المستشارة الألمانية أنجيلا مركل لمجموعة من الدول (الجزائر والصين ومصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وتركيا وجمهورية الكونغو والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وممثلين عن الأمم المتحدة). وبالرغم من مناخ عدم التفاؤل الذي حفّ بمجريات مؤتمر برلين وبنتائجه المتوقعة، إلا أنه كان قادحا لما أتى بعده من لقاءات ومفاوضات بين الليبيين أنفسهم والدول الراعية للحوار.

المحطة التالية بعد مؤتمر برلين كانت مدينة مونترو السويسرية حيث توصّلت الوفود الليبية المتفاوضة في بداية شهر سبتمبر المنقضي، وبعد مشاورات مثمرة، لتوافق حول إنجاز الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مدة لا تتجاوز ثمانية عشر شهرا. جاءت بعدها مفاوضات مصر بين لجان عسكرية ليبية حول وقف إطلاق النار نهاية شهر سبتمبر، الذي استتبع فيما بعد في جنيف بسويسرا، وتحت رعاية أممية، بحوار اللجنة العسكرية الليبية المشتركة الذي أثمر اتفاق وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر المنقضي. بالتوازي مع ذلك، جرت مفاوضات بوزنيقة المغربية بين وفد البرلمان الليبي بطبرق ووفد المجلس الأعلى للدولة بطرابلس في  6سبتمبر الماضي وأثمرت اتفاق حول المعايير التي سيتم من خلالها اختيار شاغلي المناصب السيادية المنصوص عليها في المادة 15 من “الاتفاق السياسي” المبرم بالصخيرات المغربية في 2015.

كل هذه المسارات التفاوضية التي توجت باتفاق وقف إطلاق النار في جنيف بسويسرا سيكون “خراجها” في تونس إذا ما أثمر منتدى الحوار السياسي الليبي، الذي بدأ التمهيد له من خلال الحوارات عن بعد، اتفاقات تحدّد الترتيبات الأمنية والعسكرية للمرحلة الانتقالية، وتوافق على الحكومة التي ستقود المرحلة القادمة وتشرف على إعداد وإنجاز الانتخابات البرلمانية والرئاسية والاستفتاء على فصول الدستور المحوّرة.

موقع تونس من الحوار الليبي

بذلت تونس جهودا لدفع مسار التسوية السياسية والخروج باتفاق ينهي الأزمة والتقاتل بين الليبيين. وكان الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي  قد دفع بمبادرة دبلوماسية لإجراء هذه الحوارات الليبية-الليبية في تونس. فقام باستقبال رئيس حكومة الوفاق فايز السراج والمشير خليفة حفتر في شهري أوت وسبتمبر 2017، لاحتواء الأزمة والتمهيد لمفاوضات شهر أكتوبر من نفس السنة، التي تعثرت في نهاية الأمر بسبب الخلاف حول تعديل بنود اتفاقية الصخيرات (المغرب 2017)، وخصوصا البند المتعلق بتمتع حكومة الوفاق بصلاحيات تعيين قائد أعلى لقوات الدفاع.

لم تقع متابعة هذه الجهود دبلوماسيا كما يجب، وانغمس السبسي في أزمة الانشقاقات التي ضربت حزبه نداء تونس في مقتل، وخصوصا الخلاف بين ابنه حافظ قايد السبسي ورئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد. ورجعت المبادرة للأمم المتحدة ودول الجوار والإقليم المنغمسين أكثر من تونس في المسألة الليبية (مصر، الجزائر، تركيا، فرنسا، الإمارات، قطر..).

بعد تشابك المسارات الإقليمية والدولية التي تسعى لتمهيد الطريق لاتفاق ليبي شامل ينهي تسع سنوات من الاقتتال والدمار، ترسي سفينة المفاوضات الليبية في تونس التي لم تسعى إليها بالقدر الذي يجعلها جديرة باحتضانها. فبخلاف الدعوات التي ألقاها قيس سعيد خلال لقائه بالمبعوثة الأممية بالنيابة ستيفاني وليامز لأجل احتضان الحوار الليبي في تونس، لم نشهد للدبلوماسية التونسية حضورا مهما وفعالا في الملف الليبي منذ وصول سعيد للسلطة. فقد فشلت جهوده لجمع القبائل الليبية لإيجاد حل للأزمة الليبية وأضاع فرصة مشاركة تونس في مؤتمر برلين بسبب سياسة الحياد القاحلة التي تبدع حلولا عملية ووازنة، ولا تحمل أوراق لعب مؤثرة.

رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد

إلا أنه، و للمفارقة الساخرة، ربما كان هذا الحياد السلبي هو الذي أعطى الثقة في بلادنا لتحتضن آخر جولات المفاوضات بين الليبيين، بما أنها تعترف بالشرعية الدولية كإطار للحل السلمي ولا تملك نفوذا أو تأثيرا على أي طرف ليبي من أطراف الصراع ولا مصلحه سياسية أو اقتصادية استراتيجية واضحة لها في ليبيا سوى عودة العلاقات التجارية مثلما كان سالف عهدها خلال فترة السلم، وربما الفوز ببعض صفقات إعادة البناء والحصول على نصيب جيد من تصدير اليد العاملة، على خلاف تركيا ومصر مثلا اللذان يستحوذان حاليا، وقبل حتى حصول أي اتفاق سلام وتحول ديمقراطي، على حصص هامة من السوق الليبية للطاقة والبنية التحتية.

بناء على ما سبق، لا ينتظر من الدبلوماسية التونسية لعب دور كبير من حيث التأثير في مسار المفاوضات للتوصل لتسوية سياسية شاملة أو التدخل النوعي عند حدوث عراقيل أو أعطاب في المشاورات بين طرفي النزاع الليبيين. الموقف الدبلوماسي التونسي سيقتصر تحديدا على “ضمان أفضل الظروف لإنجاح منتدى الحوار السياسي الليبي”، حسب نص الخارجية التونسية. بمعنى أنه سيقتصر على القالب التنظيمي والاعداد اللوجيستي للحوار ولن يكون لتونس دور من داخل المفاوضات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ربما هذا هو المطلوب في المرحلة الحالية، لأنه إذا غابت إرادة التوافق بين الليبيين على المرحلة القادمة فلن تقدر دولة بحجم بلادنا أو حتى بحجم دول الجوار على فرضها.

السيناريوهات المنتظرة من حوار تونس

العديد من المآلات تنتظر منتدى الحوار الليبي في تونس لعدّة عوامل أهمها العدد المرتفع للمفاوضين (75 شخص) من اتجاهات سياسية وحزبية وقبلية وعسكرية ومناطقية مختلف، وعدم حصولهم على إجماع من قبل طرفي الصراع. فداخل معسكر كل طرف هنالك من يرى أن تمثيلية الطرف الآخر أكثر من تمثيليته في المفاوضات، وإن قبلوا بالأسماء الموجودة فعلى مضض ومن الممكن أن تتسبب في عرقلة أو تعطيل المفاوضات. علاوة على وجود بعض الانتقادات من روسيا وتركيا لجهود الأمم المتحدة في ليبيا، واعتبارهما لمنتدى الحوار في تونس تجربة جديدة كتجارب التفاوض السابقة.

السيناريوهات المتوقعة لمنتدى الحوار الليبي في تونس متعددة بحكم تعدد المحاور التي سيتم التفاوض حولها، وتصل حد التناقض أحيانا، إلا أنه يمكننا حصرها في ثلاثة سيناريوهات:

1)    السيناريو الأول: تسير المفاوضات بين الليبيين بشكل طبيعي ومثمر، ويتم تذليل الصعاب التي تعترض المتفاوضين خصوصا في علاقة بالترتيبات الأمنية والعسكرية، وإبعاد المليشيات والمجموعات العسكرية عن العاصمة طرابلس ودمجها في القوات الأمنية، واختيار سرت والجفرة كمنطقة منزوعة السلاح ومقرا للحكومة الجديدة، بحضور أو حماية أممية، وتتولى إدارة المرحلة الانتقالية والإشراف على الانتخابات وتعديل فصول الدستور ومن ثمة الاستفتاء حولها. ويتم تتويج جلسات الحوار باتفاق تسوية سياسية شامل ودائم يضع حدا لسنوات من العنف والاقتتال، وينتقل بليبيا من مرحلة العسكرة والفوضى إلى مرحلة السياسة والعمل المدني.

2)    السيناريو الثاني: فشل جزئي في مسارات التفاوض وعدم التوصل إلى اتفاق كلي حول مجمل النقاط المطروحة للنقاش، والتوافق على بعض المحاور على أمل إيجاد فضاء جديد للحوار في المستقبل لاستكمال بقية النقاط، وهو ما يفضي في النهاية لاتفاق أعرج لن تكون هناك ضمانة لقدرته على المحافظة على تواصل حالة الاستقرار والسلم التي حظي بها الليبيون بعد اتفاق وقف إطلاق النار أو انهيار الاتفاق تماما إذا ما عاد الصراع والتقاتل بين الليبيين.

3)    السيناريو الثالث: عدم التوصل لاتفاق حول المحاور الرئيسية للمفاوضات على مستوى تطبيقاتها العملية على أرض الواقع سواء تعلق الأمر بالوزارات السيادية أو الترتيبات الأمنية أو المقر المتوقع للحكومة الانتقالية الجديدة، وذلك لتعنّت ليبي– ليبي أو لتدخل أحد اللاعبين الخارجيين في مسارات التفاوض، وهو ما سيؤدي بالضرورة لفشل المفاوضات وانهيار اتفاق وقف إطلاق النار وعودة الاقتتال بمبادرة من أحد طرفي النزاع سواء من خلال عملية عسكرية جديدة يشنها قائد قوات شرق ليبيا خليفة حفتر للسيطرة نهائيا على طرابلس أو قيام المجموعات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق بغطاء ودعم تركي باقتحام عسكري لمدينة سرت من بوابتها الغربية. والوجهة هذه المرة ستكون بنغازي-طبرق.