حي هلال، تونس العاصمة. صورة لسيف كوساني

جاء في تقرير سبتمبر 2020 الذي أصدره المعهد بعنوان “خارطة الفقر في البلاد التونسية” أن تركز نسب عدد السكان الأكثر فقرا في تونس موجود خصوصا في مناطق الشمال الغربي والوسط الغربي، مثلما هو متعارف عليه تقليديا.

للإشارة تم انجاز التقرير بالتعاون بين المعهد الوطني للإحصاء والبنك الدولي، وتم من خلاله تحليل معطيات اقتصادية واجتماعية خاصة بكل منطقة جغرافية على حدة، واعتمد على معطيات قاعدة بيانات التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2014 والمسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر لسنة 2015.

تعميم الفقر من التخوم إلى السواحل

وقد سجلت معتمديات حاسي الفريد 53.5 % وجديلان% 53.1 والعيون% 50.1  أعلى نسب فقر بكامل مناطق الجمهورية، بما يعني أن أكثر من نصف سكان هذه المناطق يعيشون الخصاصة ولا يتوفر لهم الحد الأدنى من وسائل العيش الكريم.

إلا أن خارطة الفقر لا تتوقف عند مناطق الشمال الغربي والوسط الغربي بل تمتد للمناطق الساحلية المعروفة تاريخيا بمستوى اقتصادي مريح مقارنة بباقي مناطق الجمهورية، حيث سجلت معتمدية شربان من ولاية المهدية (وسط شرقي) 36.9 %، ومعتمدية سجنان من ولاية بنزرت (شمال شرقي) 39.9 %، وهي أعلى نسبة مسجلة في المناطق الساحلية.

القصرين من أكثر المناطق فقراً

هذا الأرقام تتراجع كثيرا في المناطق التي يعتبرها جزء كبير من التونسيين بأنها محظية وتتمتع بسياسات تمييزيّة عن باقي الجهات، حيث سجل معدل الفقر في صفاقس المدينة 2.5 % ومعتمدية دار شعبان الفهري 4.9 % وبنزرت الشمالية 5.3 %.

لا يمكن لأدوات أخرى من حقول بحثية أو أكاديمية أو سوسيولوجية أو اقتصادية أن تعبر عن الفشل السياسي للخطط التنموية (إن وجدت) للحكومات السابقة التي جاءت بها ثورة 2011 مثل الأرقام التي سبق وأن ذكرناها لمعدلات نسب الفقر في تونس.

فشل المنوال التنموي

كما أن أغلب الخبراء في الاقتصاد والمختصين في علم الاجتماع يقرون بفشل المنوال التنموي المعتمد في نظام الحكم في تونس منذ ما قبل الثورة وإلى اليوم. إذ يرون بأنه يعمّق الفروقات بين الجهات ويفتقد للنجاعة، مثلما يفتقد القائمون عليه من المسؤولين للكفاءة والمؤهلات التي لم تكن فقط عائقا أمام تخيل وابداع نموذج تنموي جديد ينهض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة وفقرا، بل كان يجعلهم يعجزون حتى عن إدارة مشاريع تنموية قديمة بمعايير الحوكمة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

هذا التوجّه أكّده عضو الهيئة المديرة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، منير حسين، الذي يرى أنّ الفقر في تونس هيكلي ومرتبط أساسا بمنوال التنمية.

وأكّد حسين لـ”نواة” أنّ “دوّامة الفقر لا تراجع فيها” وأنّها ستؤدّي إلى مزيد من الهشاشة خاصّة في ظلّ التمسّك بمنوال التّنمية ذاته الّذي أثبت قصوره. ويقول محدّثنا

المنوال الاقتصادي الحالي قائم على ضعف الأجور والتضخّم وارتفاع الأسعار ممّا يسهم في مزيد الضغط على الطّبقة المتوسّطة.

مزيد الضغط على الطبقة المتوسطة يعني مزيد التداين لتلبية حاجياتها الأساسية في السكن والأكل والصحة والتعليم، فما بالك بالترفيه واقتناء السلع الكماليّة! كما أن إغراق الطبقة المتوسطة في التداين يؤدي حتما لانزياحها في التصنيف للفئات الفقيرة وضعيفة الحال وفي أقصى تقدير تصنيفها ضمن الطبقة الوسطى الدنيا التي تقف على مسافة قريبة من عتبة الفقر.

. جبل جلود، تونس العاصمة. صورة لسيف كوساني

هذا دون الحديث عن الانقطاع المبكر عن التعليم الذي وصل حسب احصائيات وزارة التربية سنة 2015 لــ100 ألف سنويا، وارتفاع معدل البطالة الحالي ) 15.1(% (المعهد الوطني للإحصاء)، الذي من المتوقع أن يصل لــ21.9 %، وارتفاع أعداد المهاجرين غير النظاميين في السنوات الأخيرة ليصل عددهم لــ 7890 مهاجر غير نظامي سنة 2020 حسب احصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية  والاجتماعية.

تبعات كوفيد-19 تعمق الأزمة

ووفقًا لمنشورات وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي، فإن وباء كوفيد-19 سيؤدي في عام 2020 إلى تراجع الاستهلاك الأسري  بنسبة سالب -8 ٪. إضافة إلى ذلك، فإن الحجر الصحي في شهري مارس وأفريل وانخفاض الإنتاج سيؤديان إلى زيادة في معدل البطالة لتصل لــ 21.6٪ مقارنة بـ 15٪ في شهر جوان، أي ما يقارب 274500 عاطل جديد في عام 2020.

وحسب نفس المنشورات الحكومية، فإنه من المتوقع أن يرتفع معدل الفقر المالي إلى 19.2٪ مقابل 15.2٪ حاليًا. مما سيؤدي إلى انخفاض مستوى دخل حوالي 475.000 فرد ووضعهم تحت خط الفقر. كما عمّقت جائحة كوفيد-19 أزمة الفقر من خلال إحالة الآلاف من العمال على البطالة الفنيّة إثر غلق عديد المنشآت السياحية والصناعية بعد فرض الحجر الصحّي الشامل.

كل هذه العوامل تعتبر محركات جدلية لتغذية توسّع رقعة الفقر والتهميش في البلاد وإعادة انتاجها بشكل دوري كلما تعطلت عجلة التنمية وعجزت عن تقديم الحلول المناسبة لهذه المشكلات. إلى ذلك، اعتبر منير حسين أنّ الفقر لم يعد يُقاس فقط من خلال معدّل الأجر الأدنى للفرد، وارتفاع معدلات البطالة، وإنّما أصبح فقرا “متعدّد الأبعاد” يأخذ بعين الاعتبار النّفاذ للخدمات الأساسية والحقوق الاقتصاديّة والاجتماعية، خاصّة التعليم والصحّة.

في هذا السّياق، يُذكّر عضو الهيئة المديرة للمنتدى بضرورة استرجاع الدّولة لدورها في توزيع الثروة ومراجعة سياساتها القطاعيّة، خاصّة مع تنامي التهرّب الضريبي في القطاع الخاص. ويقول

لا توجد سياسة واضحة. هناك حلول وقتيّة مثل المِنح المسندة للمعوزين ولكنّها تبقى سياسات اجتماعيّة غير ناجعة. فالقضاء على الفقر يفترض حلولاً عمليّة في إطار اقتصاد عادل.

لن تكون الحلول الموجهة لمعالجة مشكلة الفقر بالسهلة أو البسيطة سواء في علاقة بمنوال التنمية المنشود القادر على تقليص خارطة الفقر أو المنهجية التي سيتم اعتمادها لإصلاح المنظومة الاجتماعية والاقتصادية التي أنتجت الفقر والتهميش لمدة عقود.

البعض يرى الحل في اتباع نماذج بلدان جنوب شرق آسيا “النمور الآسيوية” التي حققت نموا اقتصاديا مرتفعا جعلها تلتحق بقائمة الدول المتقدمة في بداية الألفية الثالثة والبعض الآخر يرى الحل في نماذج بعض دول قارتنا الأفريقية مثل روندا وأثيوبيا، ولكن تبقى هذه التجارب رهينة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي ولدت وتغذت فيه.

ولكن قبل التفكير في استلهام تجارب غيرها، تحتاج تونس للقضاء على الفقر والتقدم باقتصادها، إلى كسب الرهان ضد معضلتين: الفساد والاقتصاد الموازي، أحدهما يغذي الآخر ويزيد في مراكمة ثروات القلّة المستفيدة على حساب غالبيّة الشعب. مليارات الدينارات التي تذهب سنويا في جيوب الفساد والتهرب الضريبي بإمكانها تقديم الكثير من الحلول للفقراء وجحافل الشباب العاطل عن العمل.