لم تغادر تونس المراتب الحرجة في تصنيف مؤشرات الفساد في العالم، رغم عواصف التغيير التي شهدتها، وكان الفساد أهم الشرارات التي أطلقتها. ففي أحدث تقرير لها نشر في نهاية العام 2020، صنفت منظمة الشفافية الدولية تونس في المرتبة 69 في مؤشر الفساد .أينما يولي التونسيون وجوههم، ستفوح من تلك الجهة رائحة شبهات فساد، لكن الملفات الحاسمة تظهر للعيان في قطاعات مثل الصفقات العمومية والأموال المصادرة والتهرب الجبائي وتمويل الجمعيات، وهي خروقات كشفتها التقارير الرقابية لمحكمة المحاسبات، ومن جهة أخرى، تنتظر ملفات فساد من الحجم الثقيل الحسم منذ سنوات.

سعيّد ومكافحة الفساد بين الخطوات العمليّة والتعبير عن النّوايا

عبّر رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة عن ضرورة إجراء “صلح جزائي” مع المتورّطين في قضايا فساد مالي من خلال رفع التجميد عن أموالهم واستثمارها في مشاريع تنمويّة تُرصد لفائدة الجهات حسب قاعدة التمييز الإيجابي، بحيث تتمكّن المعتمديّات الأكثر فقرا وتهميشا من نيل أكبر حصّة من المشاريع التنمويّة. وأعاد قيس سعيّد طرح هذا المقترح لدى استقباله رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة يوم 28 جويلية 2021. وقد طرحت هذه المبادرة تحفّظات عدد من الملاحظين الّذين اعتبروا هذا الأمر “قانون مصالحة” جديد، يُكرّس التفصّي من المسؤولية الجزائيّة ومن المحاسبة أمام القانون.

في وقت سابق، أحدثت رئاسة الجمهورية لجنة خاصّة لاسترجاع الأموال المنهوبة الموجودة بالخارج، بتاريخ 13 نوفمبر 2020. وبعد أشهر من تركيز هذه اللجنة، قامت السلطات السويسرية بتحويل مبلغ مالي يُقدّر بحوالي 3 مليون دينار ونصف إلى حساب الدولة التونسية بالبنك المركزي بتاريخ 10 مارس 2021، وفق ما ورد ببلاغ رئاسة الجمهورية، في الوقت الّذي تنتهي فيه الآجال القانونية المتعلقة برفع التجميد على أموال بن علي وعائلته المودعة بالبنوك السويسرية، والتي تبلغ قيمتها الجمليّة 60 مليون يورو.

وقد تبدو نيّة الرئيس في محاربة الفساد واضحة من خلال رفض إستقبال عدد من الوزراء لأداء اليمين الدستورية نظرا لشبهات الفساد الّتي تحوم حول عدد منهم، وذلك إثر التحوير الوزاري الّذي اقترحه رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي، بتاريخ 31 جانفي 2021. ولكن تبقى النوايا تنتظر التفعيل خاصّة فيما يتعلّق بالتشريعات التي من شأنها تبييض الفاسدين. فقد صادق البرلمان المُجمَّد على مشروع قانون يتعلّق بالإنعاش الاقتصادي وتسوية مخالفات الصّرف، هو الآن مودع لدى رئيس الجمهورية للختم، حتّى يُصبح قانونا نافذا وساري المفعول. مشروع هذا القانون كان محلّ تخوّف عدد من نوّاب المعارضة ووالمنظمات  الّذين أطلقوا عليه تسمية “النعش الاقتصادي”، على اعتبار أنّه “سيكرس ثقافة الإفلات من العقاب والهروب من المحاسبة من خلال تسوية المهربين والمتهربين لمخالفات الصرف وتمكينهم من إبراء الذمة وحمايتهم من أي تتبع إداري أو قضائي بما يُعتبر مصالحة جديدة لا تخدم المصالح العليا للدولة“، وفق ما ورد ببيان نشرته منظّمة أنا يقظ.

التدابير الاستثنائية تطال هيئة مكافحة الفساد

حاصرت وزارة الداخليّة مقرّ الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد يوم 20 أوت وأمرت بإخلاء مقرّها، دون توضيح أسباب ذلك. كما تمّ وضع رئيسها السّابق شوقي الطّبيب تحت الإقامة الجبرية، بالإضافة إلى إنهاء مهامّ الكاتب العامّ للهيئة في التاريخ ذاته. وهو ما أثار مخاوف عدد من المنظّمات المختصّة في مكافحة الفساد من بينهم أنا يقظ الّتي أصدرت بيانا تتساءل فيه عن مصير الوثائق المودعة لدى الهيئة، من تصاريح بالمكاسب وشكاوى وتبليغات عن الفساد.

في السّنة الماضية، كانت هيئة مكافحة الفساد ورئيسها السّابق من أوّل الأطراف المندّدة بشُبهة تضارب المصالح التي طالت رئيس الحكومة الأسبق إلياس الفخفاخ. حيث تمّ إبرام صفقتَين بين الوكالة الوطنيّة للتصرّف في النفايات مع شركة فاليس التي يمتلك رئيس الحكومة أسهما فيها، دون أن يكون رئيس الحكومة قد صرّح بذلك لدى الهيئة وفق ما ينصّ عليه القانون المتعلّق بالتصريح بالمكاسب والمصالح ومكافحة الإثراء غير المشروع. وعلى إثر احتدام الأزمة السياسية التي أصبحت هيئة مكافحة الفساد طرفا فيها، قام رئيس الحكومة آنذاك إلياس الفخفاخ بإقالة شوقي الطّبيب من مهامّه، ليُقدّم لاحقا استقالته إلى رئيس الجمهورية.

رغم وعيد قيس سعيّد ونبرته المهدّدة لكلّ من “يتلاعب بمقدّرات الدّولة” منذ قرارات 25 جويلية ، ورغم زياراته الفجئيّة لمستودعات تخزين الخضراوات والحديد المُهرَّب، إلاّ أنّه لم يتّخذ خطوة جديّة في اتّجاه إعادة النّظر في الإطار التشريعي القائم ومحاولة سدّ الثغرات التي تشوبه، إمّا من خلال إصدار أوامر رئاسيّة في الغرض، أو إصدار مراسيم وقرارات شبيهة بتلك التي أصدرها في وقت سابق، والمتعلّقة بتجميد اختصاصات البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة، في الوقت الّذي تحتاج فيه البلاد إلى ممارسات شفّافة تؤكّد نزاهة القائمين على الدّولة وجدية تمشيهم.

الصفقات العمومية والجباية: جنة الفاسدين

في 2016، قدم شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد آنذاك، رقما مفزعا بخصوص قيمة الخسائر التي تتكبدها الدولة جراء الفساد في الصفقات العمومية والتي بلغت 2 مليار دينارا. وقال الطبيب “تتكبد الدولة خسائر تصل إلى 25% من مبالغ الصفقات العمومية نتيجة الفساد في التصرف في الشراءات العمومية”.

في 2020، هزت قضية تضارب المصالح في صفقة أبرمت بين الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات وبين شركة يملكها رئيس الحكومة الأسبق إلياس الفخفاخ، الرأي العام، وبلغت قيمة تلك الصفقة 44 مليون دينارا، وأدى ذلك إلى إسقاط حكومة الفخفاخ. وفي أوج الأزمة الصحية التي عاشتها تونس، كشفت هيئة مكافحة الفساد عن فساد في صفقة اقتناء 30 مليون كمامة غير طبية ومليوني كمامة لفائدة وزارات الصحة والصناعة والتجارة، تورط فيها وزير الصناعة الأسبق صالح بن يوسف والنائب جلال الزياتي الذي تحصلت شركته على صفقة تصنيع مليوني كمامة. لم يحسم في قضية صفقة الكمامات بعد، رغم أن تقرير الرقابة أثبت أواخر العام الماضي وجود تضارب مصالح .

في 2016، أحال كشف استعمال بنج منتهي الصلوحية في مستشفيات عمومية إلى أن الشركة المنتجة للمخدّر طلبت من تونس سحبه بسبب خلل في تركيبته التي أدت إلى وفايات حسب تصريحات سابقة للقاضي أحمد الرحموني، ولا علم منذ ذلك الحين بمآل تلك القضية. الأمر ذاته بالنسبة لصفقة الأسلحة الفاسدة التي قال محمد عبو الوزير المكلف بالوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد الأسبق إنه أحالها إلى القضاء في 2019 والتي يشتبه في تورط صلاح الدين قايد السبسي شقيق الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، فيها.

كان العامان 2020 و2021 حافلَيْن بقضايا الفساد في الصفقات العمومية. ففي 2020، كشف “مرصد رقابة” عن صفقة في الخطوط التونسية كلفتها خسارة قدرت بـ300 مليون دينار، بعد إبرام عقد لإصلاح محركات طائرات تورط فيها إلياس المنكبي المدير العام الاسبق للناقلة الوطنية ورئيس مجلس الإدارة السابق جمال الشريقي وعماد المهيري المدير العام السابق لشركة الخطوط الجوية الفنية، بعد أن ثبت دخول شركة صديق المنكبي في الصفقة المذكورة. وفي 2021، كشفت قضية ما يعرف بالقمح الفاسد في قبلاط، عن صفقة فساد تورط فيها مسؤولون، حيث تم اقتناء أكياس دون الخضوع إلى الصفقات العمومية وشراء مبيد فطري بقيمة تناهز مليون دينار رغم توفر كميات منها قربت مدة انتهاء صلاحيتها.

لا يمكن تحديد عدد الصفقات العمومية التي تفوح منها رائحة الفساد،  لكن بات معلوما أن تلك المنظومة هي مشتل خصب لتضارب المصالح والرشوة أيضا، يستفيد منها موظفون أو رجال أعمال يستغلون فرصا لتحقيق فائدة لهم تكبّد الدولة خسائر ضخمة، ويقدم تلك الفرص موظفون في إدارات أو منشآت عمومية، ولعل أبرز تلك الفرص الذهبية هي التهرب الجبائي. في 2020، نشرت محكمة المحاسبات معلومات صادمة في تقريرها الثاني الثلاثين، وهي أن الدولة “فرطت” بسبب تهرب أصحاب الشركات أساسا وتهاون موظفين تابعين لوزارة المالية، في ملايين الدينارات.

وصلت نسبة الاستخلاص 8.1 بالمائة فحسب بين 2013 و2019، ويذكر تقرير دائرة المحاسبات أن الدولة لم تستخلص  ديونا جبائية بقيمة 1400 مليون دينارا، بسبب تهرب ما يقارب 101.000 دافع ضرائب غير موجودين بمقرّاتهم المصرح بها أو لا تتوفر معلومات صحيحة ودقيقة حول مقراتهم. وتسبّب عدم قيام أعوان القباضة بأعمال تتبع المتهربين جبائيا في خسارة الدولة مبلغا يفوق مليار دينار وهي قيمة الديون الجبائية التي لم يدفعها مدينون بين 1988 و2019. وأدى عدم تفعيل تتبّعهم إلى سقوط ديون ضخمة. ويمثل أصحاب الشركات وأصحاب الأملاك المصادرة أيضا قرابة  %20من هؤلاء المتهربين.

تمويل الجمعيات، فوضى رقابية

في  الفترة الممتدة بين 2011 و 2020، أحدثت أكثر من 13 ألف جمعية جديدة، و بلغت أوجها في  العامين 2011 و2012، حيث أنشأت قرابة خمسة آلاف جمعية، ليرتفع بذلك عدد الجمعيات إلى 23320 جمعية سنة 2020 حسب تقرير محكمة المحاسبات. يذكر التقرير الذي راقب تنفيذ برامج جمعيات بين العامين 2015 و2019، أن قيمة تمويلات الجمعيات بلغت 184 مليون دينار في الفترة الممتدة بين 2010 و2019. وواجهت الجهات الرقابية في محكمة المحاسبات صعوبات في تحديد حجم التمويلات الحقيقي لتلك الجمعيات والجهات الممولة. والأخطر أن تلك المعلومات وفرها البنك المركزي وهو الجهة الأولى التي ينبغي أن تكون على علم بكل تفاصيل التحويلات المالية. ويقول التقرير :

“آلت مقارنة البيانات المتحصل عليها من البنك المركزي مع المعطيات التي أفضت إليها الأعمال الرقابية للمحكمة إلى الوقوف على عدم تضمنها تمويلات أجنبية قدرها 29,310 م.د تخص السداسي الثاني من سنة 2018 تعلّقت في حدود 2,816 م.د بفرع جمعية قطر الخيرية بالإضافة إلى تحويلات لفائدة 79 جمعية مبلغها الجملي 26,328 م.د تندرج في إطار البرامج المموّلة من الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة 2013-2019”.

وتبدو المعلومات التي تخص قيمة التمويلات الأجنبية متضاربة، حيث يبدو أن البنك المركزي لا يملك معلومات دقيقة عن تلك التمويلات، ويذكر  تقرير محكمة المحاسبات أن البنك المركزي أفاد بحصول أربع جمعيات على 12 مليون دينار خلال الفترة الممتدة بين 2012 و2019، في حين تذكر تلك الجمعيات ذاتها حصولها على 32,461  مليون دينار، بفارق يفوق 160%، لكن الأخطر هو مواصلة جمعيات صنفت “مشبوهة” في التمتع بالتمويل الأجنبي، حيث حصلت أربع جمعيات خيرية صنفتها الكتابة العامة للحكومة على مبلغ قيمته 27.7 مليون دينار.

يقرّ المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بالجمعيّات نظاما لتسليط العقوبات يبدأ بالتنبيه على الجمعية المخالفة لإصلاح الخطأ خلال مدة لا تزيد عن ثلاثين يوما، “مرورا بتعليق نشاطها لمدة لا تزيد عن ثلاثين يوما بقرار من رئيس المحكمة الابتدائية بتونس بمقتضى إذن على عريضة يقدمه الكاتب العام للحكومة وصولا إلى حل الجمعية في حال تماديها في المخالفة”.  حسب تقرير محكمة المحاسبات تلقت 62 جمعية تنبيها متكررا خلال الفترة الممتدّة بين 2014 و 2019، وذلك بعد ارتكابها المخالفة ذاتها أو مخالفات أخرى، دون المرور إلى الدرجة الموالية من العقوبات، وهو ما يعني إفلاتها من العقاب.

قضايا منسية

ترقد عشرات القضايا التي أحيلت على خلفية الفساد في رفوف المحاكم، ولكن يستحضر التونسيون أشهر تلك القضايا التي هزت الشارع بعضها  يعود إلى أكثر من ثماني سنوات مثل قضية الهبة الصينية التي يشتبه في تورط وزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام فيها.

تعود أطوار القضية إلى العام 2013، حيث كشفت المدونة ألفة الرياحي أن رفيق عبد السلام، وزير الخارجية آنذاك، قد استحوذ على هبة صينية قيمتها مليون دينار حولها لحسابه الخاص. وفتحت النيابة العمومية تحقيقا في تهم استغلال موظف عمومي لصفته من أجل تحقيق فائدة له وفتح حساب بنكي بطريقة مخالفة للقانون، ولم تحسم القضية إلى غاية هذا التاريخ رغم مرور أكثر من ثماني سنوات، شأنها شأن قضايا أخرى مثل قضية اللوالب القلبية منتهية الصلوحية، التي كشفها الصندوق الوطني للتأمين على المرض في 2016، وتورطت فيها 14 مصحة خاصة و49 طبيبا تسببوا في تضرر 107 مريضا، ولم يُكْشف عن مآل هذه القضية.

لم تكن قضية اللوالب القلبية منتهية الصلاحية الملف الوحيد الذي هدد صحة التونسيين وحياتهم مقابل تحقيق مجموعة من المسؤولين أرباحا كبيرة. ففي 2021، كشف معز بالحاج رحومة، رئيس لجنة الفلاحة بالبرلمان المجمد، أن أطنانا من القمح والأرز المسرطن إضافة إلى كميات من القهوة والحليب والخضر الفاسدة استوردت رغم مخالفة بعضها للمواصفات في حين تسبب سوء تخزين الأخرى في تلفها. وقال بلحاج رحومة إن 1200 طن من الأرز الحامل لنسبة مرتفعة من مادة “أفلاتوكسين” المسرطنة دخلت إلى ميناء حلق الوادي يومي 5 و25 جانفي الماضي، وعلّبت كميات منها من أجل طرحها للاستهلاك رغم تقرير اللجنة الذي يؤكد عدم صلاحيتها. في حين أتلفت 500 طن من البطاطا الفاسدة المورّدة من مصر. وأذنت النيابة العمومية بفتح تحقيق، ولكن لا أحد يعلم مآل تلك القضية والتي تتشابه مع ملف ما عرف بسفينة القمح المسرطن  القادمة من بلغاريا والتي رست في ميناء سوسة، والذي كشفته موظفة في وزارة الصحة في 2019، بعد أن رفضت التأشير على استلام الشحنة التي تحمل قمحا من أوكرانيا لصالح شركة معجّنات في سوسة.

لم يكشف عن مآل عشرات الملفات التي أحالتها هيئة مكافحة الفساد، والمنظمات غير الحكومية، إضافة إلى التقارير الرقابية لمحكمة المحاسبات رغم ثقلها، وحسب الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، تنظر الهيئة في 39 ألف ملف أحيل لها بسبب وجود شبهات فساد، في المقابل تعمل هيئات الرقابة بشكل منعزل عن الحكومات وتضرب أغلب توصياتها عرض الحائط، وهو ما جعل منظمة الشفافية الدولية ترجع ترتيب تونس المحرج في مؤشر مدركات الفساد إلى سياسة الإفلات من العقاب وغياب الإرادة السياسية للإصلاح الحقيقي وانتقائية فتح ملفات الفساد.