بطريقة تشبه تعيين رئيس الحكومة المُعفى من مهامّه بمقتضى التدابير الاستثنائية هشام المشيشي، رجل الرّئيس الّذي عيّنه في 25 جويلية 2020، استقبل رئيس الجمهورية يوم 29 سبتمبر 2021 أستاذة التعليم العالي نجلاء بودن ليُكلّفها بتشكيل الحكومة، والتعويل عليها بالخصوص في فتح ملفّات الفساد والقضاء على ما وصفه بـ”الفوضى” في مؤسّسات الدّولة. “هي شخصيّة مغمورة ولا أحد يعرفها وليس لنا أيّ فكرة عنها”، يتحدّث بدر الدّين القمّودي لنواة، وهو عضو حركة الشّعب، الدّاعمة لقيس سعيّد في مختلف القرارات والتدابير الّتي اتّخذها منذ المنعرج 80.

ربّما كان خيار قيس سعيّد مُفاجئا للعديد من أنصاره ومعارضيه. فمنذ اتّخاذه التدابير الاستثنائية، تمّ تداول عدد من الأسماء في الكواليس لتولّي رئاسة الحكومة، مثل وزير الداخلية المقرب منه توفيق شرف الدّين، ونزار يعيش وزير الماليّة في حكومة إلياس الفخفاخ، وحكيم بن حمّودة وزير الماليّة الأسبق، وحتى نادية عكاشة مديرة الديوان الرئاسي. ولكنّ خيار الرئيس خالف كلّ التوقّعات من خلال تعيين شخصيّة أكاديميّة لم تخرج من أروقة وزارة التعليم العالي، ولكنّها اكتفت بمراكمة تجربة أكاديميّة وإداريّة مكّنتها من نيل ثقة الرّئيس.

السّيرة الأكاديميّة للمكلّفة بتشكيل الحكومة

السيرة الذّاتيّة الّتي تداولتها صفحات الميديا الاجتماعيّة تكشف عن مسار أكاديمي ثريّ للمكلّفة بتشكيل الحكومة، فهي أستاذة تعليم عالٍ، حاملة لدكتوراه دولة في الهندسة المدنية، وأستاذة زائرة بقسم الجيوفيزياء التطبيقية بجامعة باريس 6 منذ جويلية 1999 إلى غاية سبتمبر 2002. وكانت عضوا في المعهد الأوروبي لبحوث هندسة الزلازل، وفي مجموعة شمال إفريقيا لدراسات الزلازل والتسونامي، بالإضافة إلى عضويّة اللجنة الاستشارية للدراسات الهندسية بمنطقة شمال أفريقيا.

وأشرفت نجلاء بودن على لجنة تربّصات بالمدرسة الوطنية للمهندسين بتونس بمقتضى الأمر الحكومي عدد 860 لسنة 2004. ثمّ بدأت مسارها المهني بوزارة التّعليم العالي بتولّيها منصب مستشارة بديوان وزير التعليم العالي والبحث العلمي في الفترة الممتدّة من أوت 2006 إلى أكتوبر 2007، ثمّ مكلّفة بمأمورية بالوزارة ذاتها، إلى حين تعيينها على رأس وحدة التصرّف حسب الأهداف لإنجاز مشروع إصلاح التعليم العالي ودعم تشغيليّة خرّيجي البحث العلمي منذ 20 سبتمبر 2016، بمقتضى الأمر الحكومي عدد 1270 لسنة 2016 الصادر بتاريخ 21 نوفمبر 2016.

وتمّ تعيين نجلاء بودن بمجلس إدارة مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة “الكريديف” بصفتها ممثّلة عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من 2 أفريل 2007 إلى غاية 5 ماي 2010. لم تكن لها مساهمات في إنجاز البحوث والدراسات حول المرأة، ولكنّها كانت مُعيَّنة بصفتها ممثّلة عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ضمن مجلس إدارة الكريديف. وتتمثّل مهامّ مجلس الإدارة بالخصوص في إسناد الخطط الوظيفيّة والترقيات وتحديد القائمات الماليّة وأنشطة المركز، وفق ما ذكرته مريم الشّايبي، المكلّفة بالإعلام بالكريديف لنواة.

“هي سيّدة مخلصة وجديّة وكلّ من عمل معها يشهد بكفاءتها ومهنيّتها. هي لم تكن في حملة قيس سعيّد وليس لها ولاءات حزبيّة أو صلة قرابة مع أيّ كان، وكانت تؤدّي عملها بشكل جيّد، وهي تشتغل بالوزارة منذ 2006 ومازالت إلى الآن تمارس عملها هناك”، هكذا وصف شهاب بودن وزير التعليم العالي السابق المكلّفة بتشكيل الحكومة نجلاء بودن. واعتبر أنّ بإمكان سعيّد النّفاذ بسهولة إلى الإدارة واختيار الكفاءات الموجودة ضمنها. ولرفع أيّ لبس حول تطابق اللّقبَين نفى الوزير السابق أيّ صلة قرابة بينه وبين رئيسة الحكومة المُكلّفة. “هو فقط تشابه في الأسماء، ولا قرابة تجمع بيننا”.

التصرّف حسب الأهداف وتواصل معضلة البطالة

تولّت نجلاء بودن مهمّة رئيسة وحدة تصرف حسب الأهداف لإنجاز مشروع إصلاح التعليم العالي بهدف دعم تشغيلية خريجي التعليم العالي والبحث العلمي والمعروف بتسمية PromEsSe. ويهدف هذا المشروع إلى “تعزيز توظيف خريجي التعليم العالي من أجل ضمان إدماجهم بكيفية أفضل في سوق الشغل وتعزيز إدارة التعليم العالي، وهو مشروع مُموَّل من البنك الدّولي.

هذا المشروع الّذي يحمل تسمية “مشروع التعليم العالي من أجل التشغيل” تمّ تقديمه منذ 3 فيفري 2016 من البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وهو مموّل في جزء منه من ميزانية الدولة بقيمة 6%، في حين يستأثر البنك المذكور بتمويل المشروع بنسبة 94%، بما قيمته 70 مليون دولار أمريكي، أي ما يُعادل 142.100 مليون دينار. وكانت مدّة تنفيذ المشروع تمتدّ على 5 سنوات، ولكن تمّ التمديد في إنجازه على أن ينتهي في 31 ديسمبر 2022، وتمّ الشروع في تنفيذه رسميّا في 30 نوفمبر 2016.

وحسب معطيات البنك الدّولي، فإنّ نسبة تقدّم إنجاز هذا المشروع مرضيّة إلى حدّ ما، حيث بلغ عدد الطّلبة المعنيّين بمشروع التعليم العالي من أجل التشغيل 10866 طالبا في 9 أوت 2021، في حين أنّ الهدف المرجوّ هو استفادة 14000 طالبا من المشروع بحلول 31 ديسمبر 2021. ووفق الوثيقة ذاتها، فإنّ عدد الأنشطة التي تهدف إلى تحسين مهارات التوظيف في الجامعات بلغت 426 نشاطا، فيما تمّ تحديد العدد الجملي للأنشطة بـ450 نشاطا مع نهاية سنة 2021. ومن المُنتظر أن يُمضي عشر مؤسسات جامعية عقود أداء مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في 31 ديسمبر 2021. ولكن إلى اليوم لم يتمّ إجراء أيّ تعاقد، ممّا يعني أنّ البرنامج متعثّر في أهدافه، خاصّة وأنّه مموّل في جزء منه من ميزانيّة الدّولة، وفي جزء كبير من البنك الدّولي للإنشاء والتعمير. وعلى الدّولة أن تُسدّد أقساطه في هذا الظّرف الاقتصادي الصّعب.

ويبدو أنّ هذه الأرقام لم تُغيّر شيئا من واقع التشغيل في تونس. فقد خاض عدد من الحاصلين على شهادة الدّكتوراه في 29 جوان 2020 إضرابا مفتوحا أمام وزارة التعليم العالي للمطالبة بإدماجهم في التدريس ضمن الجامعات العموميّة. ولم يكن قانون 38 لسنة 2020 المتعلّق بانتداب من طالت بطالتهم أكثر من عشر سنوات في الوظيفة العموميّة حلاّ لامتصاص خرّيجي الجامعات طالبي الشّغل. وغضّت حكومة المشيشي المنتهية مهامّها الطرّف عن الأمر الحكومي الّذي وعدت به خرّيجي الجامعات والمتعلّق بإحداث خلايا بحث تطبيقي وتطوير داخل الوزارات والبلديّات والمؤسّسات الاقتصاديّة ولم يصدر بعد.

ربّما يكون تعيين نجلاء بودن رسالة طمأنة للشركاء الدّوليين والمانحين. فهي أوّل امرأة تُعيَّن رئيسة حكومة في العالم العربي، وهي رئيسة وحدة التصرّف حسب الأهداف لبرنامج دعم تشغيلية خرّيجي التعليم العالي المُموّل من البنك الدّولي. فهل يمكن الاكتفاء بالبعد الرمزي في ظرف بهذه الدقة على جميع المستويات خاصة منها الجانب الاقتصادي ؟