في العام 1659، زار الرحالة الفرنسي جون دو تيفينو قصر باردو ودوّن في دفتر رحلته وصفا رائعا للقصر.

باردو تتألف من ثلاثة أدوار غير بعيدة عن تونس فيها عدد كبير من النوافير والأحواض المحفورة في الرخام المستورد وقاعة مفتوحة على الهواء الطلق تتوسطه فسقـية وبلاط أرضي من الرخام الأبيض والأسود كما هو الشأن في جميع الغرف الأخرى المزخرفة بالذهب واللازورد والنقش على الجبس.

ماذا لو خطر لـجون دو تيفينو العودة بعد أكثر من  350 عاما، فيمرّ قرب الأبواب الحديدية الثلاثة في جنبات المبنى الذي يؤوي قصرَي مجلس نواب الشعب ومتحف باردو؟ قد يدوّن في دفتره بخيبة كبيرة “لا شيء يمكن أن أكتبه سوى أنه لا يمكن للمارّ قرب المبنى الذي يأوي قصري باردو أن يميّز بين لوني  البدلات الخضراء للجنود الذين يحرسون المبنى وبين لون الدهن العشبي الذي يصبغ تلك الأبواب، حتى أصبح اللونان متماهيان”.

صورة لطارق العبيدي

صمت القصور

يسود صمت مريب المسؤولين التابعين لوزارة الثقافة بخصوص مآل إغلاق متحف باردو. يقول حبيب بن يونس الذي تقلد منصب مدير متحف باردو سابقا لمدة عشر سنوات في تصريح لـنواة إنه على السلطات أن تصارح التونسيين وتطمئن المختصين بخصوص حالة المبنى التاريخي للمتحف من جهة، والفسيفساء وبقية القطع الأثرية الأخرى. ويضيف:

يجب على المسؤولين أن يقدموا لنا توضيحا مُفصّلا عن حالة القطع الأثرية في المتحف إضافة إلى المبنى التاريخي وهو معلم من معالم البايات. فالمبنى مثلا يحتاج متابعة وصيانة خاصة، وفي العادة يقوم فريق الصيانة قبل ما يعرف بـ”غسّالة النوادر” بتنظيف سطح المبنى التاريخي وتفقّد أنابيب تصريف مياه الأمطار. كما يجب تفقّد تلك الأنابيب حتى لا تسكنها العصافير التي يمكن أن تلوّث فضلاتها لوحات أثرية. ويعمل فريق الصيانة على تفقد القرميد قطعةً قطعةً للتأكد من عدم سقوطها بفعل الأمطار. تهدف كل تلك العملية إلى تجنب تسرّب المياه داخل المتحف. أما المبنى الثاني للمتحف، فلا أحد يضمن دخول فئران أو عصافير داخل ذلك المبنى من عدمه بعد مرور سنة.

ويقول  المسؤول السابق إنّ المتحف فتح أبوابه لمختصّين مرة واحدة بعد 25 جويلية، ورصدوا فيه مشاكل لا أحد يعلم درجة خطورتها. ولكنّ المعلوم أن القطع الأثرية البرونزية التي تعرف ب”مجموعة المهدية” تستوجب متابعة أسبوعية لمستوى الرطوبة، وهو ما يعني أنها لم تحظَ بالمتابعة اللازمة مدة أشهر. ينبه حبيب بن يونس إلى أنه على المسؤولين في وزارتي السياحة والثقافة أن يلقوا بالا إلى موقف الرأي العام الدولي، خاصة أنّ متحف باردو هو أقدم متحف في إفريقيا والعالم العربي.

في المقابل، تقول فاطمة آت إيغيل، مديرة المتحف الوطني بباردو، في تصريح لموقع نواة إن المتحف أغلق أبوابه للزوار فحسب وأن المختصين في الصيانة يمارسون عملهم بصفة دورية وفق برامج الصيانة المعهودة. وتضيف آيت إيغيل

في الحقيقة،  لقد اقتنصنا، بصفتنا مختصين في الآثار والتراث، قرار إغلاق باب المتحف الذي يشترك فيه مجلس النواب مع متحف باردو لنبدأ أشغالا كبيرة في قاعة قرطاج وهي المركز الأساسي والتي كانت مبرمجة منذ العام 2007. علميا، نحن مستفيدون جدا من إغلاق المتحف حتى نقوم بأشغال صيانة سقف أكبر قاعات المتحف والذي لا يمكن عمليا أن تنتهي في أحسن الظروف إذا كان المتحف مفتوحا للعموم.

تنفي مديرة متحف باردو أن تكون تونس قد تكبدت خسارة كبيرة بسبب إغلاق المتحف وتذكّر بأنه بعد العملية الارهابية التي استهدفته أغلق أمام الزوار، كما أنه طيلة فترة انتشار الوباء لم تفتح أبوابه أمام الزائرين حسب قولها. وتقول آيت إيغل :

في الأوقات العادية، لا يمكن القيام بالأشغال التي تمت برمجتها مع وزراء ثقافة سابقين، وبعد 25 جويلية تشاورنا نحن المختصون فيما بيننا من أجل استغلال غلق أبواب المتحف وعرضنا الأمر على وزيرة الثقافة وهي بدورها مختصة ووافقت على الفور بدء كل الأشغال.  بدأنا بأشغال ترميم سقف قاعة قرطاج حتى لا تتسرب المياه عبره وهي أشغال بدأت في الواقع منذ سنة 2009، وأغلق جزء من المتحف لكن اضطررنا في العام 2012 إلى فتح كل أجنحة المتحف.

لم تقدم فاطمة آيت إيغل تاريخا واضحا لفتح المتحف، فهو مرتبط أساسا بانتهاء الأشغال الكبرى التي قد تستمر سنوات، فترميم إحدى قاعات المتحف مثلا دام ثلاث سنوات حسب قولها ، وتضيف “لا يوجد تاريخ محدد لفتح أبواب المتحف كما أن تواصل إغلاقه من عدمه مرتبط أساسا بتقدم الأشغال التي قد تدوم عاما كاملا وقد تصل إلى عامين”.

تؤكد مديرة متحف باردو أن قرار بقاء متحف باردو مغلقا أمام الزائرين اتخذ بالتشاور بين جهات مختلفة مضيفة أنها  خيرت مواصلة إغلاقه خاصة أنه في العام 2021، لم يكن هناك عدد كاف من الزوار بسبب كوفيد آنذاك، كما أن مردودية الزيارات ضعيفة مقارنة بالاستفادة من غلقه للقيام بأشغال كبرى حسب رأيها. تقول فاطمة أيت إيغل

 تعلم وزارة السياحة وضعية المتحف جيدا وقرار إدخال الزوار من عدمه تتخذه إدارة المتحف بالتشاور مع معهد التراث والوزارة المشرفة، وفي الظرف الاستثنائي الذي حتم بقاء المتحف مغلقا تفهمنا تشاركنا الباب ذاته مع موقع سيادة، لكنها كانت بالنسبة لنا كمختصين فرصة ذهبية للقيام بأشغال ترميم. حين تنتهي الأشغال، سنقدم توصياتنا بجاهزية المتحف لاستقبال الزوار وهناك تقف مهمتنا لأن رأينا علمي لا سياسي.

بلغ عدد زوار متحف باردو في العام 2020، 17940 زائرا وهو رقم ضعيف مقارنة بالعام الذي سبقه والذي بلغ 119904 زائرا حسب آخر  معطيات لوزارة السياحة، ويعود ذلك إلى انتشار وباء كوفيد واتخاذ إجراءات للتضييق على التنقل في تونس وفي بقية دول العالم، لمدة تقارب السنة والنصف .

أبواب موصدة أمام طلبة الآثار

لا تبدو الصورة واضحة لإقبال، وهي طالبة  بالسنة الثانية اختصاص حفظ الآثار الحجرية في المعهد العالي لمهن التراث، حول زيارتها الميدانية لمتحف باردو، بحكم اختصاصها الدراسي. وتقول في تصريح لـنواة في هذا الصّدد:

زيارة متحف باردو مهمة جدا بالنسبة لاختصاصنا، حيث توجد أكبر مجموعة فسيفساء في العالم، إضافة إلى التماثيل والقطع الأثرية الأخرى. ولا نعلم إلى حدّ هذه اللحظة ما إذا كان متحف باردو سيكون ضمن برنامج زياراتنا المعتادة هذه السنة أم لا.

يمكن لطلبة المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس اختصاص الأركيولوجيا أن يواجهوا مشاكل بيداغوجية هذا العام بسبب إغلاق متحف باردو، وهو ما يؤكده إلياس الغرددو، رئيس قسم الآثار بالمعهد المذكور في تصريح لـنواة :

تعوّدنا على برمجة زيارة إلى متحف باردو في السداسي الثاني من كل سنة، وتلك الزيارة هي مهمة جدا بالنسبة لطلبة السنة الأولى الذين يدرسون مادة “علم المتاحف” خاصة في علاقة بالإطلاع على الفسيفساء. وقد أصبح متحف باردو أهمّ وجهة للطلبة منذ أكثر من عامين خاصة بعد إغلاق متحف قرطاج من أجل الصيانة. لذلك قد نلتجأ إلى عرض افتراضي في القسم عن طريق استعمال صور من الأنترنات وزيارات متاحف أخرى.

إنقاذ الموسم السياحي بمتحف أثري مغلق !

يروي حبيب بن يونس، المدير الأسبق لمتحف باردو، لموقع نواة طرفة أحزنته عن  سياح فرنسيين توجهوا، منذ بضعة أشهر، نحو المتحف لزيارته، بعد أن نصحتهم صديقتهم الفرنسية بذلك. لكنّهم ارتعبوا من مشهد الجنود الذين يحرسون المكان وظنوا أن تونس تعيش أمرا جللا. فإلى حد هذه اللحظة، لا أحد يعلم متى سيفتح متحف باردو أبوابه لزواره أو للباحثين على الأقل، بعد أن ضربت وزيرة الثقافة بدورها طوقا على الموظفين والأعوان، بالعودة إلى القانون عدد 12 للعام 1983، الّذي يُلزم كلّ عون عموميّ بكتمان السرّ المهني في ما يصل إلى علمه من معلومات خلال ممارسة وظيفته، حتى لا يدلي بمعلومات قد يؤدي إفشاؤها إلى الطرد.

تتخبط الدولة التونسية في سياسات غامضة لحفظ تراث البلاد وتثمينه. ووضع المسؤولون، بوعي أو دونه، مخزونا ثمينا من تاريخ تونس ضمن مخاطرة الزمن والطبيعة التي لا تُعرف عواقبها، في الوقت الذي يتمّ الترويج فيه لوهم تثمين التراث. في المقابل، تكفي زيارة موقع وزارة السياحة التونسية على الأنترنات حتى تطّلع على تعريف باهت لمدينة تونس تتصدره صورة  قبيحة لساعة ساحة الحبيب بورقيبة، دون ذكر متحف باردو أو قرطاج، وتتبيّن الجهل والتقصير في التعريف بالمخزون الثقافي للبلاد.

من المفارقات أنّ تونس تراهن منذ أواخر العام الماضي على ما يسميه المسؤولون بإنقاذ الموسم السياحي للعام 2022، في حين يتطلع مهنيّو القطاع إلى التخلّي عن مفهوم السياحة التقليدي الذي راهنت عليه تونس زمن بن علي والمرتكز أساسا على صورتين نمطيّتين ساذجتين هما البحر والجمل، وتتبنى  الجامعة التونسية للنزل البحث عن رؤية جديدة للسياحة التونسية في تصريح صحفي لرئيسة الجامعة درة ميلاد.

في ديسمبر الماضي، روّج  وزير السياحة محمد المعز بلحسين لتنظيم المؤتمر الدولي الحادي عشر للسياحة ولاستقبال وفد من وكالات أسفار ألمانية من أجل إعادة السياحة التونسية إلى نفس مستواها قبل 2019. وخططت وزارة السياحة أيضا إلى تحديد “جملة من الأهداف لتدعيم السياحة على المستوى الوطني” من خلال المراهنة على تحقيق نسبة ستين في المائة لسنة 2022 ممّا حققه القطاع في العام 2019. كل ذلك الطموح، سبقه إغلاق دام مدة ثلاث سنوات لمتحف قرطاج الذي يمثل قبلة جيدة للسياح، وقد تطول مدة إغلاقه ثلاثة أعوام أخرى، وتبعه  إغلاق متحف باردو  وهو وجهة لا تزال وكالات الأسفار التونسية تراهن عليها وتضعه ضمن الوجهات لجذب السياح. ففي موقع “تريب أدفايزر” العالمي، تضع  وكالة “كومباس ترافل” في تونس متحف باردو ضمن المزارات السياحة التي يمكن زيارتها في 2022، وبالاتصال بالوكالة المذكورة، أكدت موظفة أن زيارة  متحف باردو مبرمجة ضمن مسار يسمى “مسار المدينة”.

رحلة في الزّمن عبر المتحف

يمتد متحف باردو على مساحة تقارب العشرين ألف متر مربع. وما إن تطأ قدما أيّ زائر بوابة مبنى المتحف، حتى تبدأ رحلته العجيبة عبر الزمن. فلا يمكن تخيّل نشاط الإنسان قبل أربعين ألف سنة، إذا لم يقف الزائر أمام معلم “هارمايون” المتكون من أربعة آلاف قطعة من الصوان والعظام والكلس والحجارة والقواقع، الذي يمثّل أول آثار نشاط الإنسان في العصر الحجري القديم السفلي،  كما يمكن أن يكون من أقدم المعالم الدينية التي عرفتها البشرية. ويقف الزائر منبهرا أمام “نبتون” إله البحر حامي مدينة سوسة، الذي شهر رمحه المسنّن بيمناه في لوحة من أروع اللوحات الفسيفسائية وأندرها وهي  “فسيفساء سوسة” التي تركّزت في بهو المتحف، وهي أكبر اللوحات الفسيفسائية في العالم جعلت متحف باردو يحتل المرتبة الثانية ضمن فن الفسيفساء.

لا يمكن لأي زائر في العالم أن يخطط لرحلة أروع من رحلة محطاتها تبدأ من العصر الحجري وصولا إلى الفترة الإسلامية الوسيطة. ففي تلك الرحلة يمكنه أن يلقي نذرا في سرّه للإله القرطاجي “بعل حمون” الجالس على عرشه، يطوق رأسه تاج من ريش، وبيده اليسرى صولجان واليمنى رفعها للبركة، فيعرف طقوس النذور، من خلال هذا الشاهد الذي يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد. كما يمكن للمتجوّل داخل متحف باردو أن يحيي بإجلال كبير الإمبراطور الروماني “كركلا” الذي منح حق المواطنة لجميع سكان الإمبراطورية الرومانية الأحرار من خلال المرسوم 212 الذي عرف  “بمرسوم كركلا”.

يمكن لزائر متحف باردو أن يصادف إمبراطور قرطاج “غوردان الأول” الذي حكم عشرين يوما فقط بعد تتويجه في العام 236 ميلادي، وأن تعترضه أقدم نقش فسيفسائي للشاعر الروماني الشهير “فيرجيل” صاحب أسطورة ملحمة “الإلياذة” التي تصور هروب أنياس الطروادي من محرقة طروادة نحو إيطاليا وأصبح أبا للرومان. وتظهر في المجسم مخطوطة للملحمة الأسطورية كتبت بحروف واضحة.

من الصعب اختزال الحديث عن الكنوز التي يأوي جزء منها مبنيي المتحف، أحدهما حديث والآخر هو قصر من قصور العهد الحفصي اتخذه البايات الحسينيون مقرا لهم. ففي العام 1574، شُيّد قصر باردو الذي يحتوي على معلمين أحدهما مبنى مجلس النواب والآخر متحف باردو، وفي السابع من شهر ماي 2022، يكون قد مر 134 عاما على تحول أحد قصور البايات إلى “متحف باردو” الذي أمر بتأسيسه علي باشا باي في العام 1882، وهو تجسيد لتوجه الوزير خير الدين باشا في العام 1876، الذي قرر تقنين جمع القطع الأثرية، حتى وصل الأمر بحجز المجموعة الخاصة من الآثار التي كان يملكها الوزير محمد خزندار. بعد قرابة قرن ونصف من ذلك، قررت رئاسة الجمهورية الحكم على الأباطرة والآلهة القرطاجية والرومانية وآلاف القطع الأثرية النادرة إضافة إلى القصر الذي يؤويهم، بعزلة قد تحكم عليهم بالفناء بعد صمود دام آلاف السنين.