على الساعة العاشرة صباحا من كل يوم، يتجمع الأساتذة في مشرب الكلية لتناول القهوة وتجاذب أطراف الحديث، بينما يقف أستاذ مساعد يدخن سيجارته ويرتشف قهوته وحيدا ويحدث أن يتبادل بعض العبارات مع النادل أو بعض الطلبة.
طيلة سنوات، تواصل هذا المشهد دون تغيير، تقدم الأساتذة في الرتب والمنافع، تبادلوا المسؤوليات، فتحوا لأنفسهم أبوابا للبحث وللعمل وتعاونوا على خلق فرص كثيرة في الداخل والخارج. وبقي الأستاذ المساعد أستاذا مساعدا، لا هو حاول الاندماج في المجموعة المحظوظة ولا هم التفتوا له لحثه على اللحاق بركبهم.
هل هو خطأ الأستاذ إن لم يسع إلى استكمال بحث الدكتوراه ولم يحاول التقرب من أصحاب المعالي الأساتذة؟ أم أن ذلك نابع عن قصور منه في الجهد أو الكفاءة؟ وما الذي يقر بهذا الأستاذ من نادل المشرب وبعض الطلبة وما الذي يبعده عن زملائه أو الطلبة الآخرين؟
ماهو القاسم المشترك بين كل المواطنين الذين رأوا في أستاذ جامعي مساعد رمزا لهم فانتخبوه؟ وماهو القاسم المشترك بين كل الذين صوتوا للرئيس ترامب والحال أنه ليس أكثر المترشحين دفاعا على طبقاتهم؟ وماهو العامل الجامع بين كل الأوكرانيين الذين وجدوا ضالتهم في ممثل فكاهي يتقمص دور أستاذ تاريخ؟ الأكيد أن العالم يعيش ظاهرة جديدة تغير السائد في الانتخابات والحياة السياسية.
هل تفسر نظرية الصراع هذه الظاهرة؟
موجة الشعبوية السياسية التي طالت عديد الدول تعتمد أساسا على خطاب يغذي التفرقة بين أبناء المجتمع، بناء على ثنائية ”نحن وهم“ ليخلق نوعا جديدا من الصراع تتشكل على أساسه أنماط العمل السياسي.
لم تخرج الحركات الشعبوية عن نظرية الصراع التي تعتمد في قوانين التاريخ الماركسية على تضارب المصالح بين الطبقات الاجتماعية أو التصورات المتقدمة لصراع الطبقات التي تلعب فيها الثقافة دورا هاما وفق مفهوم ”البنية الفوقية“ لغرامشي وفكرة الهيمنة لثقافية لبورديو.
إلا أن مظاهر الانقسام الجديدة التي تعرفها المجتمعات لم تعد تستجيب لهذا التقسيم الأولي المبني على الطبقات، حيث أن قسم الناس من مختلف الطبقات بين كتلة الـ”نحن“ وكتلة ”الهم“، لنجد ضمن من يدافع ومن يناهض أناسا متشابهين من وجهة نظر الانتماء الطبقي.
هذا ما حدا بالعديد من المفكرين إلى التساؤل حول مآل النخبة في هذا الخضم، منهم من قال بوجود حركة لاستبدال النخب بأخرى اعتمادا على فكرة أن كل منظومة تصنع نخبتها، وهناك من تحدث على وجود هوة بين النخب المترفهة أو الحالمة والعامة المسحوقة، وهناك من اتهم النخب بالانتهازية واستغلال الفرص على حساب القضايا الأساسية للعدل والمساواة. هناك أيضا من تحدث عن تخلي المثقف العضوي عن دوره أو ربما استبعد عن دوره نظرا لتعطل المصعد الاجتماعي.
كل هذه التحاليل تملك البعض من الحقيقة مثلما يصف العميان فيلا، لكن نظرية الصراع بين الطبقات لا تكفي وحدها لتوصيف الظواهر الجديدة ووجب النظر إلى نوع جديد من الصراع يحدد طبيعته تحديد نوع القطيعة التي يعيشها المجتمع.
تحديد خط القطيعة
أظهرت نتائج الدور الأول لانتخابات سنة 2019 أن الناخب التونسي أراد معاقبة منظومة الحكم لعجزها عن إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية حيث أن المترشحَين (قيس سعيد ونبيل القروي) كانا من خارج منظومة الحكم القائمة وجاءا بخطاب سياسي يقطع مع ما سبق. تقدم نبيل القروي ببرنامج انتخابي يضع المسألة الاجتماعية ووضعية الفقر في تونس في الصدارة .بينما اتخذ سعيد من شعار ”الشعب يريد“ رمزا لحملته الانتخابية متعهدا بالعمل على تحويل ”الإحباط إلى الرجاء والأمل، والاستثمار في الثروات وأهمها الثروة البشرية ممثلة في الشباب“ فمثل الملجأ لتيارات مختلفة من ”شباب الثورة والإسلاميين واليساريين والمهمشين من أحزابهم“.
انتخابات 2019 ليست أول محاولة يطلب فيها الشعب القطيعة مع منظومة فشلت في تحقيق مطالبه. الثورة نفسها كانت اتفاقا شبه جماعي على وصول نظام حكم بن علي إلى منتهاه، ثم كانت انتخابات 2011محاولة أخرى أجهضها الإسلام السياسي عندما قدم عرضا سياسيا مبنيا على القطيعة الهووية، أي بمنطق ”الإسلام هو الحل لتحقيق العدالة الاجتماعية“. كذلك كانت انتخابات 2014 محاولة للقطيعة مع الإسلام السياسي أجهضها الباجي قائد السبسي عندما انقلب مرتين، مرة حين حمل شعار ”دولة الاستقلال هي الحل“ فعاد بالبلاد إلى النقطة الصفر حيث وجب التقدم بها إلى فكرة جديدة، ومرة أخرى حين كرّس التوافق مع النهضة أين وجب إثبات القطيعة. وحده ضجيج الخلفية للقصبة 1والقصبة 2 بقي متواصلا حتى تمظهر في سنة 2019.
إن القطيعة الحقيقية التي يبحث عنها الشعب ليست في منظومة الطبقات الاجتماعية، بل في ضرورة إنهاء حالة عدم المساواة أمام الفرص وفي آليات تقسيم الموارد داخل كل طبقة وبين المنتفعين بامتيازات المنظومات القائمة والمقصيين منها. وإذا أردنا استعارة مفهوم ماكس فيبر لفهم حركة التاريخ فإن الصراع ليس ضد طبقة معينة، بل هو ضد ”أنماط“ جديدة من الهيمنة نعبر عليها بـ”منظومة الامتيازات“.
ضجيج الخلفية المتواصل منذ سنوات هو الذي أتى بقيس سعيد إلى الحكم وهو الذي يفسر ارتفاع شعبيته رغم كل الفشل ”الذي تم تحقيقه“، لأن المواطن التونسي المهمش يرى فيه صورته، أي صورة تونسي الوسط الذي يجد نفسه خارج منظومة المنافع والامتيازات، عن حق أو بدونه.
خط القطيعة بين أصحاب الفرص والمهمشين
يعمل كمال وعماد في نفس المؤسسة الحكومية بعد أن زاولا نفس التعليم في نفس الجامعة ونجحا في نفس المناظرة. نجح كمال بفضل شبكة العلاقات التي بناها داخل المؤسسة في التحصل على مهمة رئيس مصلحة ثم كاهية مدير، ورغم أن القانون لا يخول له الحصول على سيارة وظيفية إلا أنه فلح في وضع يديه على سيارة المصلحة دون اعتراض من أعرافه. يشارك كمال كذلك في أغلب التظاهرات التي تنظمها المؤسسة ويتقلد منصب عضو بالهيئة المديرة للودادية وحدث أن شارك مرتين في رحلات عمل إلى الخارج.
أما عماد فمازال يأمل أن يكلّف بمهمة رئيس مصلحة عند أول شغور، ومازال يتنقل إلى العمل بوسائل النقل العمومي وكثيرا ما يقاطع الجلسة العامة للودادية أو يمكث في المشرب لينتقد قلة الأنشطة وغياب تقرير مفصل عن النشاط السنوي.
هذان النموذجان لمواطنين من نفس الطبقة والظروف الاجتماعية يعبران على نوع القطيعة الموجودة، بين من انخرط في ”منظومة الامتيازات“ ومن وضعته هذه المنظومة جانبا. ليس مهما إن كان الانخراط أو الإقصاء بسبب المعني بالأمر أو بسبب الموروث أو السياقات. في المحصلة، ينتفع كمال بالمنظومة القائمة ويدافع عنها لا إراديا، حتى لو آمن في قرارة نفسه أن هذه المنظومة هشة وغير عادلة. بينما يعارض عماد الوضع ويشعر بالغبن بصفة مسترسلة فيعارض وينتقد ويتعلق بفكرة ترضي غروره: أن المنظومة هي سبب فشله وليس قدراته ومجهوداته الشخصية.
قراءة جديدة في الميكانيزمات المجتمعية
إن القراءة الأفقية للوضع تؤدي إلى هذا النموذج المبسط:
نستنتج من هذا النموذج ما يلي:
- إن القطيعة الحقيقية التي تحرك الصراع اليوم ليست بين طبقات الفقراء والأغنياء، بل بين مجموعة الامتيازات داخل كل طبقة والمقصيين من الامتيازات أي المهمشين وهو ما يفسر تشبث كل من تحصل على امتياز ما على إبقاء الحال على ما هو عليه مهما كان حجم الامتياز ضئيلا أو تافها.
- إن تعطل المصعد الاجتماعي داخل الأطر التقليدية والمنظمة خلق أنواعا جديدة من التفاعلات الاجتماعية قوامها ”الاقتصاد غير المنظم“ بكل أشكاله وخلق أنواعا جديدة من التسلق الاجتماعي التي لا تعترف بالضوابط التقليدية، بل تستنتج قواعدها الخاصة المبنية أساسا على شراء الاحترام والمنافع بالمال أو بالمنفعية المتبادلة.
- نقصد بالامتيازات لا فقط المنافع المادية بل كذلك كل ما من شأنه أن يشكل اعترافا مجتمعيا للشخص أو خلقا لفرص غير متاحة للجميع.
- إن أبناء مجموعة ”خارج منظومة الامتيازات“ ليسو فقراء كلهم، بل فيهم الموظف والأستاذ والتاجر والطبيب ورجل الأعمال، كل ما في الأمر أن هؤلاء لا يستطيعون الولوج للامتيازات، مثل التاجر الغني الذي لا يجد من يحميه من تجاوزات الموظفين، يقف في الصف لاستخراج وثيقة ادارية ويدفع رشوة لاسترجاع رخصة السياقة عوض أن يهاتف ”سي فلان“.
- إن حالة الانسداد التي يعرفها المجتمع خلقت أنواعا جديدة من التراشح بين منظومة الامتيازات والمهمشين. هذا التراشح يؤدي إلى بعض محاولات الولوج للمنظومة بطرق غير تقليدية مثل المهربين الذي يترشحون لمجلس النواب ولمناصب أخرى أو رجال أعمال السوق الموازية الذين يشترون الجاه عبر تمويل السياسة أو الرياضة.
- إن ديناميكية التراشح هي سبب استفحال الانتهازية كوسيلة لمحاولات الولوج لمجموعة الامتيازات وتتخذ هذه العملية عديد الأشكال مثل التزلف والتملق لأصحاب النفوذ وشراء الذمم والتلون السياسي.
- تصمد المنظومة طالما كان حجم المجموعة ”أ“ أكثر تأثيرا من المجموعة ”ب“ وتحصل القطيعة السياسية عندما تتغلب المجموعة ”ب“ فتؤدي إلى توترات لا تسفر بالضرورة على تحولات هيكلية أو في أنظمة الحكم وهو ما يسبب حالة الحلقة المفرغة والإحساس الجماعي بالإحباط.
منظومة الامتيازات المتمترسة
يُجمع التونسيين ثلاثة عشر سنة بعد انطلاق الثورة أن الأوضاع ازدادت سوءا. ضاعت أهداف الثورة في غياهب انتقال سياسي كثير الارتدادات وأصبحت تونس بلد الفرص المهدورة.
لا يمكن أن يكون ذلك ناتجا عن حمق جماعي كما لا يمكن الانصياع لنظريات المؤامرة التي لا تعبر إلا على أخطاء تفكير (Biais cognitifs)عميقة. إن القاعدة تقول ”لا يمكن تغيير أي وضعية إذا كان حجم الخاسرين بسبب التغيير أكبر من حجم الرابحين“ أي بمعنى آخر إن كل مقاومة التغيير الحاصلة مردها أن حجم تأثير أصحاب الامتيازات، من كل الطبقات، أكبر من حجم تأثير مجموعة ”خارج منظومة الامتيازات“.
تربح مجموعة ”خارج منظومة الامتيازات“ الانتخابات لأنها أكثر عددا، لكنها تفشل في الحكم وفي التغيير لأنها لا تملك خبرة الحكم ولا تملك الهيكلة اللازمة ولا أدوات الرقابة على المنظومة المتمترسة.
منظومة الامتيازات ليست جديدة، بل تجد جذورها التاريخية في ”التساكر“ (أي الرخص) التي اقرها بايات الدولة المرادية (1631 و1702) والنظام شبه الإقطاعي في الدولة الحسينية ونظام الحزب الواحد في دولة بورقيبة ونظام العائلة في دولة بن علي. هذه المنظومة تمترست بنظام مؤسساتي يحميها، قوامه الدور المتفاقم للدولة في تنظيم الحياة العامة والاقتصاد (وهو دور تنظيمي رقابي وليس تنموي خدماتي) ومنظومة قانونية تقوم على مبدأ المنع كقاعدة والحرية كاستثناء وعلاقات منفعية بين كل التنظيمات والأجهزة.
لذلك لا يمكن لأي مغامرة سياسية جديدة أن تغير الأوضاع إن لم تمتلئ بأسباب القطع الفكري والمؤسساتي مع منظومة الفرص القائمة.
الدال والمدلول في مقاومة الفساد
شكل شعار ”مقاومة الفساد“ أبرز شعار سياسي تم تداوله منذ 2011، حملت جل الأحزاب السياسية رايته في خطاباتها وكان ذريعة يوسف الشاهد لإطلاق يده على خصومه وهاهو اليوم يمثل حجر الأساس في سياسة الرئيس قيس سعيد.
إن اعتبار مقاومة الفساد هدفا بعينه يمثل قصورا فكريا كبيرا في تصور سياسات عامة متكاملة وهو اختزال ساذج للعملية السياسية. إذ أن مقاومة الفساد وسيلة وليست غاية. مقاومة الفساد هو وسيلة من وسائل أخرى عدة تستعملها أي منظومة حكم ناجعة والتوقف في الشعارات السياسية عند حدود مقاومة الفساد لا يصنع إلا سياسات عقيمة وهو يضرب الأشخاص والمصالح عوض استهداف النظم والمؤسسات.
لم ينجح أي من السياسيين في خزعبلات مقاومة الفساد والمؤكد أن ذلك لن ينجح في المستقبل طالما لم يكن مرتبطا بسياسة تنموية أشمل. لماذا إذن يواصل جزء كبير من الشعب في الاعتقاد في وجاهة هذا الشعار؟
أولا لأنه شعار شعبوي بامتياز يتماهى مع نظريات المؤامرة ويخدم عقلية ”الآخر هو المخطئ“، حتى لو كان في سلوك كل فرد فينا جزء من الفساد المعلن والمخفي. ثانيا، لأن مقاومة الفساد ومشتقاتها، من قبيل مقاومة الاحتكار ومقاومة الاقتصاد الموازي، شعارات تخفي فكرة أعمق وهي فكرة الإحساس بالإقصاء. بلغة أوضح، يريد المواطن التونسي أن يعتقد أن كل شخص (أو مجموعة) حقق نجاحا ما فذلك لأنه فاسد وأن فشله هو الشخصي في تحقيق نفس الانجازات سببه أنه غير فاسد لا لأنه تعوزه الكفاءة أو المجهود.
شعار مقاومة الفساد يخفي إذن ضغائن شخصية لا علاقة لها بإرادة حقيقية لتكريس دولة العدل والنزاهة بل هي إيذان بحرب الكل ضد الكل في موجة تشفي شعبوية لن تتوقف إلا بتحطيم كل مقومات المبادرة الخاصة والحرية الاقتصادية.
المسؤولية وأبواب الإصلاح
رافق فشل كل مرحلة من مراحل التطور في تونس موجة من النزوح من الريف إلى المدينة ومن الداخل إلى السواحل في ظاهرة تحدث عنها يوفال هراري بما أسميه خطوات الإنسان التي تعكس فوارق التطور. كان شعار أبناء الحواضر التونسية أمام هذه الظواهر الديمغرافية أن ”البلاد امتلأت بالنزوح“.
لا أحد فكر في أن الوافد يأتي مكرها لأنه جاع ولأن الدولة لم تعرف كيف تصون له كرامته على أرضه. بنفس المنهجية فإننا لا يمكن أن نواصل التماهي مع أفكار ”نخبة الكافيار“ التي ترمي بالمسؤولية كاملة على شرائح المجتمع الممتلئة كراهية والرافضة لبذل المجهود اللازم لتحقيق النجاح وكأننا بـ”الهمية“ متلازمة أصابت الطرفين.
إنه خطأ المنظومة قبل كل شيء. هذه المنظومة التي حرصت على حماية نفسها ضد كل أنواع التجديد فرفضت مبدأ ”تكافؤ الفرص أمام الجهد والكفاءة“ وأوقفت المصعد الاجتماعي وأفشلت التعليم والتكوين وقتلت روح المبادرة اقتصاديا وفنيا وهاهي اليوم تدفع ثمن جمودها عملا بقانون داروين الطبيعي العادل أن من لا يرتقي مآله الفناء.
على هذه المنظومة أن تقر بفشلها الذريع في تطوير نفسها في صيرورة اندماجية مفتوحة وعادلة، تنهي مع أنواع الانغلاق والكارتالات وحلقات النفعية وإرادة الرقابة والتحكم وتفتح الباب على حق المواطن أينما كان في الحلم وتحقيق ذاته.
على منظومة الإمتيازات أن تعي بأنها حية تأكل نفسها، وأنه بقدر الجهد المبذول للمحافظة على الامتيازات بقدر غرقها في بحيرة الرمل المتحرك التي سيعود عليها بالوبال قبل غيرها لأن الامتيازات ستتقلص وحجم الحقد الاجتماعي سيزيد ولن يخرج أي كان من هذه الوضعية سليما.
المسؤولية التاريخية لليسار
ثلاثة عشر سنة بعد القطيعة الكبرى مع دولة الاستقلال، آلت بنا الانقسامات الأيديولوجية والهووية والفكرية إلى حرب الكل ضد الكل في تراشق مستمر بين شعارات ”نحن – الآخرون“ و”الوطنيين الصادقين – الخونة والعملاء“. أصبح التراشق بالاتهامات جزأً من لعبة سياسوية تستغل ضعف الذوات البشرية وأحاسيس الغبن و”الحڤرة“ والاقصاء.
تأجج الاتهامات وتنامي مشاعر الكره لم يمس شريحة واحدة من المجتمع بل كان عاما، وكأن الفقير والغني يتساويان في الإحساس بالغين، وكأن المثقف والأمي معنيان بنفس الطريقة بحالة التهميش والاقصاء.
إن حالة القطيعة هذه تمثل فرصة لليسار للعب دور تاريخي وذلك لأن منظومة الفكر اليساري هي الأكثر نضجا فيما يخص الهيكلة الاندماجية للمجتمع ولوسائل الإنتاج مقابل إصرار الرأسمالية على خطيئتها الكبرى في ترسيخ ثقافة الاستغلال من خلال التلاعب بـ”الفائض“ الذي يعاد توزيعه بشكل مجحف.
إن النسخ المعدلة من الرأسمالية الاجتماعية لا تعدو أن تكون تكريسا لمنظومة الامتيازات عبر تركيز شبكة دعم اجتماعي قوية تعزز إنتاج رأس المال، وتشويها لقواعد العيش المشترك عبر تحويل السعي نحو الثراء إلى ضرورة أخلاقية لا غنى عنها.
وعليه فإن تحلي الفكر اليساري بما يلزم من العقلانية يمكن أن يكون سبيلا لإنهاء القطيعة بين أبناء الشعب الواحد ونقصد بالعقلانية إعادة النظر في دور الدولة لخلق التوازن بين المبادرة الخاصة ومسؤولية الدولة.
إن الفكر اليساري، لا اليسار التونسي في شكله الحالي، قادر على العمل على ”المشترك“ بين التونسيين وإعادة تشكيل النظام المؤسساتي من أجل بلوغ منوال اندماجي يكرس إمكانية النفاذ بين الطبقات عبر المصعد الاجتماعي والمكافأة المبنية على الاستحقاق (méritocratie).
iThere are no comments
Add yours