هذا النص تعريب حر للأصل الصادر بالفرنسية في 18 جانفي على موقع نـــواة

Lire la version française : la résistance démocratique est elle condamnée à tourner en rond

لا يبدو أن هناك ما يُعاب على تردّي المعنويات في أوضاع ما بعد الإنتخابات. ما تجدُر ملاحظته بالمقابل، و الحال هذه، هو أن مشاعر الإحباط في صفوف المقاومة الديموقراطية و حيرة أو ارتباك زعمائها قد تكون حالت دون الإنتباه إلى أن ” المبادرة الديموقراطية “ كانت بصدد ملأ الفراغ لحسابها و استقطاب اهتمام الإعلام حتى أن البعض من وجوه المعارضة الراديكالية أو المحسوبة عليها اندفعوا بحمية في ركبها.
ليس مهما هنا أن تكون مكاسب ” المبادرة الديموقراطية “ مشبعة و سياسية، كما تُفاخر به، أو مفرغة و إعلامية. المهمّ انه خُيل لها أن مكاسبها هذه تسوِّغ لها المجاهرة بالعدوان الإستئصالي الذي يسكن إرادة العديد من مؤسسيها. لا بل ها هي تجاهر به باسم المعارضة الديموقراطية و التقدمية التي تدعي تمثيلها بالكامل.
و اذ يعلم المرء أن الاستئصالية هي تحديدا عنوان سياسة الديكتاتورية التي يقولون بمعارضتها، و أن تبنّي الاستئصالية فلسفةً لبرنامجٍ انتخابي محسوب على المعارضة الديموقراطية لم يثر على ما يبدو حفيظة الناطقين الرسميين باسم هذه الأخيرة، بما شكّل عن قصد أو عن غير قصد تبريرا لنزعةِ الشقٍّ الداعي إلى الاكتفاء على الذات داخل حركة النهضة ، بل قل رسالة اقصاءٍ يُقرّبها من المصالحة بقدر ما يعزلها عن المعارضة ؛ وهو ما يزيد طين البلبلة بلّة، فانه يحق التساؤل : هل كُتب على المقاومة الديموقراطية أن تدور في حلقة مفرغة في مواجهة الدكتاتورية و الفتنة الاستئصالية ؟

1.المبادرة الديموقراطية : زيٌّ ديموقراطي لنزعة شمولية

كان القاضي مختار اليحياوي أول من فضح، دون تحديد المقصودين بكلامه، ما وصفها بعملية سطو(OPA) على الحركة الديموقراطية التونسية و لكنه أورد أقوالهم، مندّدًا بالذين “يحاولون دون جدوى، من خلالها إنعاش سياسة الاستئصال و الإقصاء كبرنامج مشترك، و الحال أنها في نهاية مطافها و لم يعد أحد يجهل النتائج المريعة التي قادت إليها “ (1)
المحامي محمد نجيب حسني بدوره خصّ المسألة بنصّ مواجهةٍ صريح العنوان و البيان : ” لا للتحريض على القتل”، طالب فيه المنظمات و الضمائر الديموقراطية و الوطنية، داخل البلاد و خارجها، بالتصدّي إلى عودة الاستئصالية من باب الدعاية السياسية. (2)
هذا الخطر له اليوم في تونس قُبّة اسمُها المبادرة الديموقراطية، ائتلف لتأسيسها أصدقاءُ و اتباع محمد الشرفي مع بعض يتامى الشيوعية حول حزب التجديد؛ وهو حزب اثبت مرارا و تكرارا انه مؤهل فعلا لتجديد قابليّته الجنينيّة إلى … الخنوع، بدءا من تذيُّـلِه في خدمة الحزب الشيوعي الفرنسي تحت الاستعمار، وصولا إلى تزكيته تعديل الدستور لفائدة بن علي و عائلته، مرورا بمساندته لـ….بن علي في انتخابات 89 ، 94 و 99

و لا محالة من أن التقاء الشيوعيين القدامى بالائيكيين الاستئصاليين على أرضية واحدة قد أوهم و ضلّل في مناخ و ظروف الانتخابات :
ـ لان راية المبادرة الديموقراطية خدعت و لا شك، و استطاعت أن توظف في خدمة حملتها الانتخابية مشاعر الحرمان و نفاذ صبر العديد من النقابيين و المناضلين الذين ملوا الانتظار…
ـ لأنها استطاعت أن تملأ المشهد السياسي و الإعلامي الذي فرّطت لها فيه المعارضةُ الراديكالية و دعاةُ مقاطعة الانتخابات لضعف حالهم و تمزق شتاتهم فضلا عن محاصرتهم و تكالب أجهزة القمع عليهم
ـ لان الانتهازية و بخاصة إغراء الاضواء الاعلامية سرعان ما طغت على مبادئ بعض رموز المعارضة من الذين وضعوا قدما في حملة المبادرة الديموقراطية الانتخابية و احتفظوا بالآخر في المعارضة الراديكالية؛ حتّى أن سهام بن سدرين ذهبت لحدّ إعلان و مباركة “انتصارٍ” للمعارضة التونسية مُفتيةً بانضمام حزب التجديد و المبادرة الديموقراطية إلى قوى ا لمقاومة الديموقراطية على خطّ القطيعة مع النظام (3) و كأنها الناطقة الرسمية بسم هذه القوى و الحال أننا لا نعرف لها مشروعيةً أخلاقية أو سياسية تؤسّس عليها نفوذ خطابها
ـ لأن ارتباك بعض أطراف المعارضة و تورّط البعض الآخر و حرص الجميع على حساباتهم التكتيكية منذ الاستحواذ المشبوه على قيادة المجلس الوطني للحريات، و بخاصة في ظروف الانتخابات، فسح المجال لارادة الهيمنة على المعارضة التونسية من قبل تيار يساري و حقوق ـانساني اقصائئ

باختصار : لأن “محاصيل” ضمانتِها لديموقراطية المهزلة الانتخابية عبر ضجيج مشاركتها فيها ضخّمت من شأن المبادرة الديموقراطية فيما غفت قوى المقاومة حزينة مقهورة، ها هم دعاة الاستئصال و أنصار الشرفي يستبيحون كل شئ

فلقد جاهر البيان النهائي للندوة الوطنية لمبادرتهم الديموقراطية بما يلي :
<< إن التجربة الثرية التي تخوضها المبادرة منذ بضعة أشهر مكنت من المساهمة في توضيح الرؤية تجاه ضرورة رفض أي وضع يتواجه فيه مداران أولهما النظام الحاكم و من يعمل معه من أحزاب و تنظيمات و غيرها و ثانيهما تنظيمات الإسلام السياسي و من يعمل معها من أحزاب و شخصيات و مجموعات. و جاءت المبادرة لترفض مثل هذا الوضع الذي يجعل الشعب و البلاد رهينة بين مشروعين استبداديين معاديين للحرية و المساواة و العدالة و الكرامة و من مكاسب المبادرة أن المعركة السياسية التي خاضتها بمناسبة الانتخابات جعلتها تبرز كمشروع جدي لقطب ديمقراطي بديل. >> (4)
المحامون في لجنة المحامين النائبين أمام المحكمة العسكرية بتونس صائفة 1992 كانوا يقظين، لم يفتهم ما في هذا البيان من تحريض و عدوان، حين غفل الكثيرون و يتغافل الآخرون، فاستحث محمد نجيب حسني باسمهم الهممَ الوطنية و الديموقراطية لاتخاذ موقف صارم(2). و بالفعل، فالموقف لا يمكن أن يكون إلاّ صارما إزاء “دق طبول الحرب” و إزاء الطبالين من الذين لم تشف غليلهم مشاركتُهم في التحريض و التهليل، بل و بالتخطيط و التنفيذ من مواقع الحكم الدكتاتوري في وزارة الشرفي، في سياسة قمع الاسلاميين الرهيبة، فظلوا و ما زالوا يلاحقونهم بعدائهم المرضي دون أدنى اعتبار لمئات المعذبين منهم منذ 14 سنة في غياهب سجون الدكتاتورية.
لا مكان في المعارضة “الديموقراطية و التقدمية” كما تُمارسها المبادرة الديموقراطية لأبشع تجليات هذه الدكتاتورية كما نشهدها بشكل مكثف في وضعية المساجين السياسيين ليس فقط في ظلام السجون بين مرض و عزل و تعذيب بل و حتى بعد إطلاق سراحهم،حيث تلاحقهم الهرسلة البوليسية و المُحرّمات الإدارية و المحاصرة الاجتماعية و المهنية، كما هو الحال الآن في وضعيّة عبد الله الزواري
.
هذا واقع ، كما يُذكّر بمأساويته نعيُ السجين السابق لطفي العيدودي ـ تقبل الله روحه برحمته الواسعة ـ الذي أودت بحياته تبعاتُ التعذيب عن سنّ لا يناهز الاربعين، تناسته المبادرة الديموقراطيةلـتعلن بالحاح ان “تنظيمات الإسلام السياسي و من يحوم حولها من أحزاب و شخصيات و جمعيات” إن هم إلاّ أعداء ” للحرية و المساواة و العدالة و الكرامة… ” هكذا يأتون بمنطق شمولي مذهل ليس على الاسلاميين فقط بمساجينهم و منفييهم و عائلاتهم الممزقة…، بل حتى على غير الاسلاميين ممّن “عمل” معهم!!

“معاديةٌ للحرية… ” المعارضةُ الديموقراطية التونسية التي تبنّت بإجماع شبه كامل قضية المساجين السياسيين ووضعت سن قانون عفو عام على راس مطالبها ؟ “معادون للحرية…” ؟!!!
صدري الخياري و مناهضو العولمة الامبريالية، المنصف المرزوقي و المؤتمر من اجل الجمهورية، مختار اليحياوي، محمد نجيب حسني و الموقعون على النداء من اجل مقاطعة انتخابات2004 ، و كل حساسيات الرأي العام الوطني و الديموقراطي، الذين لم يستكينوا للأوامر و النزعات الإقصائية معترفين للإسلاميين بمكانتهم كاملة في معارضة الدكتاتورية؛ بدون إقصاء و بلا محاباة ؟!!!

أتمنى أن أكون على خطأ و أن لا يصدق تقييمي هذا . غير أن لسان حالهم يقول بوضوح ان تونس المناضلة برمتها ، ما عدى مبادرتهم الديموقراطية بطبيعة الحال، معادية للحرية…!
و هكذا، إذ ينضاف الغرورُ إلى حمّى كراهيتهم، تَسقط الاقنعة عن مبادرتهم الديموقراطية لتتجلى حقيقةُ نزعتها الشمولية.

لأجل شرف تونس المناضلة يتعيّن على الوطنيين الشرفاء داخل المبادرة الديموقراطية معاكسةُ التطبيل و الطبّالين للحرب الاستئصالية، و الانتباهُ لما يباشره و يعِدّ له الناطقون باسمهم. فأنا لا أتخيل أن يوقّع على بيان العار هذا من كان وطنيا ، و ديموقراطيا و تقدميا.

2. << نحن أنفسنا كغيرنا >>

ضمن ردود الفعل على تبنّي الاقصاء و/أو الاستئصال خطّا سياسيا، نسمع أحيانا تعليقات تنزع عن الموضوع إشكاليته السياسية لتحِيله إلى متاهات التناحر الإيديولوجي. من ذلك أن بعض الآراء تأسف لانزلاق المبادرة الديموقراطية إلى منحدر الاقصائية إلا إنها سرعان ما تبرّره باعتباره حصيلة قسريَة لأدلجة النضال الديموقراطي ضد الدكتاتورية يتقاسم مسئوليتها الإسلاميون و شق معين من اليسار اللائكي.
ورغم كثرة الإعتراضات التي تثيرها وجهة النظر هذه ، أوّلها أنه تضع الظالم و المظلوم على قدم المساواة ، لنسلم فرضا بأن المسالة ايديولوجية، و حينئذ يتوجّب علينا الانتباه إلى أن الاستئصالية ليست إيديولوجية كسائر الايديولوجيات. إنها شمولية في جوهرها، إذا ما استهدفت دينا أو ثقافة أو عرقا…، او مذهبا فكريا أو روحيا، فإنها تعني دائما عنفا كليا يُمارس على حق الآخر في الوجود. ايديولوجية اذن، و لكن ايديولوجية فاشيةُ الطابع لا تتواجد إلا من خلال العنف المادي و الرمزي الذي تسلّطه على كل ما هو مغاير لها. إنها ممارسةٌ سياسية تعرِفُ بنفس العلامة الشمولية كل المنظومات المغلقة.

فكيف تخدعنا هذه السياسة، نحن الذين رأيناها تخطف الأعمار، تعذّب الأجساد، تشتّت العائلات، تقتل الشبيبة، تخنق الكفاءات…، بينما يبدع أعوانُها المختصون في “تجفيف المنابع” في إعادة صياغة ثقافتنا العربية و الإسلامية في شكل مُثيرات فلكلورية لفضول … السوّاح!
و كيف تغرّر بنا “المبادرة الديموقراطية” وهي بعلم الجميع مرتعٌ للاقصائيين و موقعُ نفوذٍ لمحمد الشرفي، قديسُ الاستئصاليين بنفسه. ذلك أن خطابها المعارض للنظام الدكتاتوري مهما تجذّر لا ينفي و لا يلغي شراكتَها له و تورّطها معه بل و حتى المزايدة عليه أحيانا بالتحريض و الدفع إلى المزيد من الاستئصال فسخا و تنكّرا لمرجعيّاتنا الهويّاتية بوصفها أولى مقوّمات سيادتنا الوطنية.

في ضوء هذة العلاقة التوافقية يتضح ان استئصال الاسلاميين ما هو في الأصل إلا آلية من آلياتِ سياسةٍ عامة تستهدف تمييع و مسخ هويتنا و روابطنا العربية و الاسلامية بما يتماشى مع سياسة التبعية للعدو و التفريط له في سيادتنا الوطنية. و عليه فان المسألة ليست ايديولوجية كما يقال. ليس المطروح أن تكون عربيا مسلما أو لائكيا، إسلاميا أو ديموقراطيا…، فلا معنى و لا فائدة ترجى من الانحباس في مثل هذه الثنائيات إلا لمن له مصلحة في إغراقنا في متاهاتها. المطروح هو أن نكون… أن نوجد كما نحن… وفقا لطبيعة الأشياء و أكبر الحقوق مشروعية. “نحن أنفسنا كغيرنا” يقول الفيلسوف. لا اكثر و لا اقل.

فنحن لسنا اكثر من غيرنا أرواحا محلقة في سماء التجريديات، و لا مسافرين بدون متاع و لا ارتباطات. إننا كغيرنا قوم نعيش تاريخنا في نسيج فضائنا الوطني و الاجتماعي و الثقافي، ضمن علاقات الإنتاج و موازين القوى السياسية فيه. و هذا الفضاء عربي و إسلامي لا لان القوميين العرب و الإسلاميين جعلوا من عروبة تونس و/أو إسلامها محور أيديولوجياتهم و سياساتهم(5) و إنما لان هذه الهوية العربية و الإسلامية هي حصيلةٌ حاصلة نحتتها على مدى القرون صيرورةُ تركيبتها التاريخية. انها نتاج تاريخنا المتواصل. و بهذا المنظور فإن هويتنا ، لكي تبقى حية في مواكبة تحولات الزمن و تحدياته، في حاجة أكيدة إلى الإبداع المجدد و التطوري الموكول لكفاءات فنانينا و علمائنا و فلاسفتنا و ساستنا و صحا فيينا و مربيينا الخ. لا مناص لنا من نقد الذات و إصلاح الحال. فالهوية ليست متاعا للتبادل و لا رهينة النزواتُ الذاتية هنا و الخيارات الايديولوجية هناك. هويتنا هي هويتنا، لا مفر من الأخذ بها، إصلاحا لما فسد فيها، إذ بدونها لا وجود لنا. و لا يكفي خطاب بورقيبة المغرور بتغرّبه، و لا خطاب اطفاله و لقطائه من بعده، و نفيهم و استهانتهم بمقومات هويتنا العربية و الاسلامية، لينال من حقيقتها الغامرة. حتى الاستئصال الدموي الذي سلطوه على الجناح اليوسفي في حركة التحرير الوطني لم يغير من الأمر شيئا.
خطاب النفي و التنكر لهويتنا يكفي فقط للدلالة على ان الاستئصاليين من دعاة الهوية “المختارة” او الهوية_فسيفساء قد ارتدوا و “فلبوا الفيستة”، كما نقول بلغتنا الدارجة. و هذا شأنهم و حقهم. ما لا يحق لهم بالمطلق هو أن يحوّلوا هويتهم المختارة او الفسيفسائية إلى ممارسة تعادي بالنفي و الفعل و الشتيمة هوية عموم الشعب و الحال انهم تافهون جدا على هامش الشعب.

عندما يطالب الاستئصاليون بـ”تنظيف” دستور البلاد من بندها الأول الذي ينص على عروبتها و إسلامها؛ أو عندما يحوّلون هنا أنشطة الدفاع عن حقوق الإنسان إلى عمل وشائي و تحريضي على قمع النساء المحجبات ، و إلى فبركة معاداة السامية لتعقّب و ملاحقة مناهضي الصهيونية هناك؛ أو عندما يشاركون بالشماتة و بالصمت المتواطئ إن لم يكن بالفعل الحثيث في العمل على التنكيل بأصوات و موارد المقاومة العربية و الإسلامية؛ أو يتحاملون بنفس شتيمة و عداء الجزار الصهيواامريكي على مقاومة اخواننا في فلسطين و العراق؛ او يخدموا بالسرّ و العلن مصالح العدوّ الصهيوني في التطبيع …، في كل هذه الحالات يتعدّى الاستئصاليون حدود حرية الفكر و التعبير. انهم يمارسون بالفعل و بالخطاب سياسة عدوانية تنسخ سياسة الدكتاتورية، و تنتهج منطق الوصاية و الاحتقار، ممّا يزيد من وطأة افعالهم و اقوالهم على وجدان الشعب استباحة و استهتارا بمشاعره الهوياتية و بقيمه المؤسِسة. كل هذا و هم يدعون معارضة الدكتاتورية باسم الشعب و لفائدته.

إن اضعف الإيمان بالشعب لا يملك إلا أن يقرّ بأننا لسنا اقلّ غيرةً من غيرنا على كرامتنا الوطنية، و لا اقل تمسكا بقيمنا و لا اقل استعدادا للدفاع عن هذه و تلك. إلا أنهم يتجنبون الموضوع معترضين و رافعين لشعارات “الحرية” و “الديموقراطية”، جاهلين أو متجاهلين أن الديموقراطية إنما هي حمايةٌ لحريات الفرد و لحقوق الاقليّات ضمن المجموعة الوطنية، و ليست الحرية تبولا على القيم الجامعة التي تجعل منا شعبا، و لا نيلا من تماسك و كرامة هذا الشعب، و لا تواطئا عليه مع أعدائه، بل إن العكس هو بالتحديد شرط الديموقراطية و جوهرها في كل مكان.

أوردت نشرة الأخبار على قناة فرنسية خلال الأشهر القليلة الماضية صورا عن برلمانيين أوربيين جاءوا لبر وكسل للاستماع إلى تقرير من الفرنسي جون كلود تريشاي رئيس البنك المركزي الأوروبي. ما أن بدأ هذا الأخير خطابه بالانجليزية حتى بادر البرلمانيون الفرنسيون ، يمينيون و يساريون ، بالوقوف مغادرين القاعة كالرجل الواحد ، غير آبهين بتوسّلات السيد تريشاي إليهم بالرجوع. لقد أثار حفيظتهم أن يتحدث مسؤول فرنسي رفيع بالانجليزية و الحال ان الفرنسية لغة رسمية في الاتحاد الأوروبي، الشئ الذي اعتبروه إهانة لا تُقبل فنطقت كرامتُهم الوطنية برفضها.
هذا هو المقصود : الكرامة الوطنية، الهوية الجماعية التي توحد و تدغدغ الوجدان المشترك، السيادة الوطنية… و كلها مشاعر طبيعية من أصل و في فطرة الشعوب عموما، و في وضعنا بشكل أخص لما نحن فيه من سحق و مذلة و إهانة تسلطها علينا الدكتاتورية من الداخل و الصهيوامبريالية من الخارج.
بدون سيادة وطنية، تحت الهيمنة و في التنكر للذات، ليست الديموقراطية إلاّ احتيالا استعماريا جديدا.
بدون مقاومة تستلهم وجدان الشعب و تعبر عن سيادته و كرامته الوطنية ليس “النضال” في سبيل الديموقراطية إلاّ مغالطة خادعة…، مجرّد معارضة لبن علي تنافسُه على قدر من النفوذ على الأقل فيما يسمى بـ”المجتمع المدني”.

حريّ إذن بالذين يسائلون الشعب التونسي عن “إرادتــه في الحياة” أو يمتعضون من “سلبيّتــه” أو يشتمون “جبنـه” أن يعيدوا النظر في الأمر : اوّلا بمسائلة أنفسهم عن سكوتهم الديبلوماسي إزاء عمليات الاقصاء و عدوان الاستئصاليين، من التحريض على النساء المحجبات إلي القدح في الاسلاميين والمتعاملين معهم مرورا بالانقلاب على القيادة الشرعبة للمجلس الوطني للحريات ؛ و ثانيا، بالإتعاض بأن الشعب ليس بهذا القدر من الغباء لينصت إلى معارضة و ليتحمس لديموقراطية تبدآن باحتقار قيمه و التنكّر لمرجعيّاته العربية و الاسلامية…
اـما يراد منا أن نكون الوحيدين في العالم الذين نقرن الديموقراطية بالتنكر للذات و بإهانة الشعب و بالتواطئ مع العدوّ ؟ أ يراد منا أن نكون الوحيدين الذين نسمّي “ديموقراطيين” من يسميهم الآخرون خونة و حركيين !!!؟؟

في أماكن أخرى، و بخاصة في فلسطين و لبنان، تنتظم المقاومة لتستجيب لإمرة المستحقات الوطنية التي تحسم، وحدها، التناقضات. هناك، تعلوا التطلعاتُ الى الحرية و السيادة و الكرامة الوطنية على الصراعات اسلامي/ لائكي، مسلم/مسيحي، سني/شيعي…، لتستوعبها في إطار وطني جامع تصبح فيه موارد غنية تغذي طاقات المقاومة.

من هنا أعود و أقول بقناعة يزيد من موضوعيتها أنني لست إسلاميا، بل مناهضا لفكر و لسياسات التنظيمات الأصولية، اقول إن المعادلة اسلامي/لائكي خديعة و ليست مشكلة حقيقية!
لا يهم أن نكون اسلاميين او لائكيين أو قوميين عرب أو إشتراكيين أو ليبيراليين أو ديموقراطيين إشتراكيين…! المهم أن نكون أنفسنا ، كما نحن ، أوفياء لشعبنا، كلنا حزم لاسترجاع حقوقه في المواطنة الديموقراطية في كنف الكرامة الوطنية. خارج هذا الاطار المبدئي، إطار مقاومة الدكتاتورية و سياساتها الموالية للامبريالية، لا مجال إلا للتصادم مع كل من يلعب بإمرة بن علي في ساحة مهازله التعددية و الانتخابية، مع كل من يشارك أو يقبل بسياساته الاستئصالية، مع كل من ينسخ أو يبارك تجند نظامه في خدمة التطبيع و مصالح العدوّ الصهيوني، اسلاميا كان أو لائيكيا …

الكلمة الفاصلة في نهاية الأمر تبقى لمستحقات المقاومة الديموقراطية و الوطنية في مواجهة الدكتاتورية التي يجب أن تعلو على الاعتبارات الحزبية و الإيديولوجية ، على أن يتحمل المُخِلون بهذه الاستحقاقات من دعاة الانتقاء الاقصائي مسؤؤلياتهم، و على أن يثابر الملتزمون حقا بنفس تلك الاستحقاقات على العمل في سبيلها بلا تنازل و لا رضوخ لابتزاز الاقصائيين. طبعا، مثل هذا الثبات على الموقف يتطلّب التحرّر من الانغلاق النخبوي للخروج من عالم المعارضة المؤسساتي، حيث يمسك المعارضون الواحد بلحية الآخر، إلى نور الحقيقة المحرِرة في عالم الواقع الإجتماعي و الشعبي أين تُستنهل الطاقةُ و القوةُ و المشروعية الوحيدة التي يُعتد بها، من خلال مشاركة الشعب معاناته و الإصغاء إلى مشاكله و تفهم تناقضاته… بكل ما يفترضه الالتحام بالشعب من صبر و تواضع و وفاء.

3ـ ليس مكتوبا على المقاومة الديموقراطية و الوطنية الدوران في حلقة مغلقة

المقاومة الوطنية و الديموقراطية تمتلك لهذا الغرض موارد ثمينة، متضمنة في “نداء” آكس (6) و من بعده في نداء مقاطعة إنتخابات 2004. فلماذا ينبغي علينا إعادة بناء ما هو قائم، و لو في شكله الجزئي، و كأن المقاومة الديموقراطية ليس لديها تاريخا تستقي منه و لا محنا تعتبر بها و لا مكاسبا تعتد بها ؟
هنا تكمن كبرى اشكالات “الحوار الوطني” : لقد اصبح الحوار دورانا في حلقة مفرغة. ليس فقط لأنه طرح منفصم عن تجربةالماضي ، بدون أي تقييم لمحصلاتها سلبا و ايجابا ، بل أيضا لانه أصبح مفرّا يُهرب إليه تجنّبا للحسم في تناقضات المعارضة و تمييعا لها. و بالتالي فانه لا مخرج من الأزمة، حصل الحوار أم لم يحصل، ما لم يحسم كلّ موقفه و ما لم يحدد كلّ موقعه من التناقضات الكبرى. الحزم و الوضوح : هذا ما تحتاجه المقاومة الديموقراطية و الوطنية لأنها تمتلك فيما عدى ذلك رؤية تحررية محترمة لكرامتنا الوطنية كما تضمنها النداآن المذكوران آنفا، و قوى و كفاءات لائيكية و تقدمية و ديموقراطية و إسلامية…، حاملة لشعاراتها. كل ما تحتاجه الان هو ان تنفصل عن المعارضة المؤسساتية و الحقوقية لتشهر ماهيتها كمقاومة سياسية للدكتاتورية و كثقل مضاد للاستئصالية بتكتلها أولا و مثابرتها ثانيا على خط وطني (معيار سيادة القرار و الهوية) و ديموقراطي (كل الحريات الديموقراطية لكل الشعب التونسي)


واــد بـلاد
17 فيفري 2005
Tounis ya bledi

(1) Moktar Yahyaoui, Besoin d’espoir

(2) لجنة المحامين النائبين أمام المحكمة العسكرية بتونس صائفة 1992:لا للتحريض على القتل

(3) L’opposition a gagné la bataille de la délégitimation contre Ben Ali

(4)البيـان الختامي للندوة السياسية للمبادرة الديمقراطية

(5) ان ادلجة الهوية (التيارات القومية العربية) و الدين (الاسلام السياسي) ليست مشروعة و لا مبررة، قي رايي الشخصي، إلا بقدر ما تعبر عن مناهضة مشروعة جدا : مقاومة الهيمنة الاستعمارية المباشرة و الغير مباشرة. و اذا كان لا بد من التصدي للطابع العنصري و الاصولي الشمولي الذي يشوّهها في بعض الطروحات الفاشية، وهو بالفعل ما تتصدى له قوى العروبة و الإسلام الديموقراطية و التقدمية، فانه لا بد من الاقرار ايضا بان العنصر الاساسي و المحدد في شبكة التناقضات هذه يبقى الهيمنة الصهيوامبريالية و نقيضها المتمثل بالمقاومة. و ليس ثمة الا متعام او قابل خانع لواقع الهيمنة من امثال تجار حقوق الانسان الابيض و من حاذاهم من المغتربين المملوكين لايديواوجيات الغرب المهيمن، للتشهير بما سمّاه أحدهم “الهيجان الشعوبي و الهوياتي” حيث لا يرى الاحرار الا تعلق الشعوب بحقها في تقرير مصيرها…

(6) اجتماع 23، 24 و 25 ماي 2003بـ La Baume-les-Aix (Aix-en-Provence)

“نداء”
نداء المقاومة الديموقراطية للشعب التونسي : من أجل مقاطعة نشيطة’’ لانتخابات’’ 24 أكتوبر 2004