بقلم الأستاذ فتحي نصري
” يبدو أن القانون الإجتماعي قد أخذ مجراه حينما لم يقع تدارك مقدماته ، ولم يستمع فيه الى النداءات والنصائح ”
الدكتور عبد المجيد النجار
كتب برهان بسيس في جريدة الصباح ليوم الأحد 7 يناير2007 تحت عنوان ” الممكن و المؤجل في أسرار ما حدث ” ليقنعنا أن التعتيم الإعلامي الذي رافق المواجهات المسلحة التي شهدتها بعض المناطق التونسية كان مقصودا و ضروريا و مهما لعملية التحقيق و الاستقصاء الأمني اللاحق للامتدادات الممكنة لهذه العصابة الإجرامية كما جاء في مقال برهان بسيس، و طبعا و كعادة إعلاميي السلطة عزف الجميع على نفس الأوتار بضرورة الالتفاف حول” صانع التغيير” و عدم إبداء الشماتة و الحفاظ على المكاسب التي تحققت ، و ذهب الدكتور خالد شوكات أبعد من ذلك فيما أسماه ” بيان بشأن المواجهات الأخيرة في تونس ” ليعيدنا إلى خطاب الزمرة الفاسدة التي حكمت تونس في الأمتار الأخيرة للعهد البورقيبي و عرائس الصحافة التي كانت تطبل و تزمر و تهتف بإنجازات ” المجاهد الأكبر ” و العزف على لحن ” الوطن يعلو و لا يعلى عليه ” و كان الحال وقتها كما يقول المثل الشعبي ” العجوز هازها الواد و هي تقول العام صابة “.
نعم ما حدث في الأيام الأخيرة قد يبدو صغيرا و بسيطا لكنه حدث ، ما وقع قد يبدو منعزلا و محدودا لكنه وقع، و السؤال الجوهري الذي يجب أن يطرح : هل نحاول التكتم و التعتيم على ما حدث أم نحاول البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك و استشراف ما يمكن أن تؤول إليه الأمور إذا لم يتم معالجة الأسباب؟ و الغريب أن من يحاول إقناعنا بضرورة و واجب الالتفاف حول ” صانع التغيير ” يكذب الرواية الرسمية لرجال ” صانع التغيير ” حول ما حدث، فالبيانات الرسمية تتحدث عن مجموعة من المجرمين و تجار المخدرات، فيما ذهب بسيس و شوكات إلى كون الأمر يتعلق بمجموعة إرهابية متطرفة فأيهم نصدق ” صانع التغيير ” أم صحافة ” صانع التغيير ” ؟ .
و حتى لا تتحول هذه الأحداث البسيطة و المحدودة إلى أحداث يصعب التحكم فيها و معالجتها و السيطرة عليها، و حتى لا يتحول هذا الجنين المشوه إلى وحش مخيف، و حتى لا تتحول هذه القطرة إلى كرة ثلج تكبر كلما تدحرجت، يجب البحث عن أسباب و مبررات و ظروف ولادة و نشأة هذا الجنين، فالعنف ثقافة قبل أن يكون جريمة، و هو يولد فكرة ليتحول إلى واقع إذا توفرت مبرراته على أرض الواقع، و من المعلوم بالضرورة أن العنف نتاج و ليس سببا، و لكل نتيجة بداية، و لكل بداية سبب، و إن كانت للعنف أسباب عديدة و متنوعة بتنوع أشكاله و تنوع التربة التي ينشأ فيها و يتغذى منها ، و طبيعة الجسم الذي يمارسه، فإن أخطره العنف العابر للقارات الذي تمارسه الإمبراطورية الجديدة بغلاف خارجي ” نشر الديمقراطية ” و لب داخلي التمكين للمشروع الديني ” الصهيومسيحي ” و السيطرة على مقدرات العالم.
ان ما حدث في تونس نواقيس خطر داهم، و علامات على أن ثمار السياسة المنتهجة لنظام السابع من نوفمبر بدأت تنضج، و أن موسم الحصاد قد بدأ، فقد ذكر الأستاذ صلاح الدين الجورشي أن هؤلاء الشباب الذين اشتبكوا مع قوات الأمن و الجيش هم بين 20 و 25 سنة، و هذه ليست مفارقة أو محض صدفة أن يكون هؤلاء الشباب قد نشأوا و كبروا في ظل سياسة و ثقافة نظام 7 نوفمبر، فالعامل ” السوسيوثقافي ” أهم العوامل المكونة للشخصية.، وسواء كانت العمليات الأخيرة تنسب لجماعات السلفية الجهادية أو لعصابات الإجرام وأباطرة المخدرات فإن الحصاد واحد وهو العنف الأعمى
عندما أطلق الحزب الحاكم في تونس خطته التي عرفت ” بخطة تجفيف المنابع ” في مستهل العشرية الأخيرة من القرن الماضي كان سن هؤلاء الشباب لا يتجاوز سبع سنوات و هو السن المفترض لبداية تأثير العالم الخارجي في شخصية الطفل ، أي أن هؤلاء المسلحين كبروا و نشأوا ضمن مناخ تطبيق خطة تجفيف المنابع فكانوا نتاجا طبيعيا لهذه الخطة و حصادا مرا خطط له الحزب الحاكم و اليسار المتطرف المتحالف معه.
قد تكون أسباب ظاهرة العمل المسلح التي انطلقت شرارته منذ مدة سابقة لهذه المواجهات المسلحة- تفجيرات حربة- عديدة و تتجاوز في بعضها الحالة التونسية باعتبار أن الظاهرة بدأت تغزو عديد البلدان العربية كردة فعل على ما تتعرض له المنطقة العربية و الإسلامية من استباحة و غزو و نهب دولي، فإن الاستجابة لهذه الظاهرة من طرف بعض الشباب التونسي يجد أسبابه في الوضع الداخلي السياسي/ الاجتماعي المحتقن و في الثقافة التي حاول الحزب الحاكم عبر خطة تجفيف المنابع نشرها.
ان المتأمل في ” خطة تجفيف المنابع ” (التي كشفت عنها جريدة الفجر التونسية في إبانها) يجدها تحدد المشكلة الرئيسية في ” احتلال التيار الإسلامي لموقع القوة السياسية الثانية في البلاد و تنامي حجمه خاصة داخل قطاعات الشباب ” فكانت الأهداف سواء الرئيسية أو الفرعية للخطة و الواردة في الفقرة الثالثة منها تنصب حول اجتثات الحركة الإسلامية عبر النشاطات و الحلول المقترحة الواردة في الفقرة الخامسة من الخطة، و قد اعتبرت الخطة أن الحركة الإسلامية تمثل خطرا على الحزب الحاكم و ليس على المجتمع التونسي ، لذلك قرر التجمع الدستوري محاربة الحركة أمنيا و ملاحقة أعضائها و المتعاطفين معها قضائيا و التضييق عليهم في رزقهم، و لم يكتف الحزب الحاكم بخنق الحركة الإسلامية و تهجيرها بل تخطى ذلك إلى محاربة الدين الإسلامي عبر إجبار الشباب على هجر المساجد و الاعتقال لمجرد الشبهة و غربلة الأمن و الجيش من العناصر المتدينة، و محاربة الخمار و إجبار الفتيات على خلعه و منعهن من التعليم، باختصار محاربة مظاهر التدين في البلاد و محاولة طمس الهوية الإسلامية ، بل وصلت الحماقة برجال السلطة إلى حد تدنيس المصحف الكريم و دوسه بالأقدام في تحد سافر لمقدسات الشعب التونسي ، و في المقابل تشجيع ثقافة التفسخ و العري مما شجع على انتشار الجريمة و تفشي المخدرات في المعاهد و الكليات، و على المستوى السياسي بلغ الاحتقان و التصحر ذروته رغم الدعوات العديدة لقوى المعارضة الحقيقية للحوار و المصالحة الوطنية، ذلك أن مؤسسة أخذ القرار بدأت تتوزع على عدة رؤوس خاصة بعد تأكد مرض الرئيس.
في هذا المناخ نشأ هؤلاء الشباب ، لم يجدوا من يؤطرهم التأطير الصحيح و يجنبهم ويلات الوقوع في براثن العنف المضاد و المدمر، فكانت ردة فعلهم على هذه السياسة اختيار الطريق الأسهل و هو مجابهة عنف الحزب الحاكم بالعنف و السلاح، فهؤلاء لم يتربوا على فقه الموازنات و تغليب مصلحة الوطن و تجنيبه حمامات الدم،لم يجدوا من يخبرهم أن الصبر على الظلم أسمى من إشعال نار الفتنة،هؤلاء الشباب هم الحصاد المر لخطة ” تجفيف المنابع ”
يمكن للدكاترة أبو خولة و خالد شوكات و لكل الحاقدين على الحركة الإسلامية أن يقارنوا بين ردة فعل الحركة الاسلامية عند كشف ” خطة تجفيف المنابع “و الهجمة الشرسة التي تعرضت لها ، وبين ما حصل في الدول المجاورة ، فقد كانت الحركة في أوجها و أبناؤها يعدون بالآلاف لكنها لم تجنح للعنف و لم تحمل سلاحا واحدا و خيرت خوض معركة الحريات بالشكل السلمي،لأن أبناءها تربوا على رفض العنف كخيار مبدئي مهما كانت المسوغات ، فمن كان يظن أن المعالجة الأمنية في تونس هي التي أدت إلى الأمن و الاستقرار فهو مخطىء لأن الحركة الإسلامية اختارت أن تكون الضحية حقنا للدماء و الفتنة،و اختارت السجون على الجبال،و اختارت الصبر على السلاح، و اختارت الشهادة تحت التعذيب على سفك دم قد يسقط بغير حق، لذلك فإن العقلية الأمنية المركبة للدولة غير قادرة على إخماد الفتنة، كما أن التغني بنجاعة الأمن التونسي في كشف الخلية النائمة و قتل أفرادها لن يقضي على دوامة العنف،لأن قتل الشخص حامل السلاح لا يؤدي إلى وأد ثقافة العنف مادامت الأسباب قائمة.
ان المعالجة الحقيقية يجب أن تمتد إلى أسباب المشكلة، فقافلة العنف قد تضم فاقدا للحرية ، و فاقدا لحقه في الشغل و التمتع بخيرات بلاده و هو يرى البلاد تتحول إلى إقطاعيات خاصة لسكان القصر، و فاقدا لحقه في التعليم، و فاقدا لحقه في العبادة بكل أمن و طمأنينة، و فاقدة لحقها في ارتداء ما تراه لباسا شرعيا،و فاقدا لتوجيهات أبيه المعتقل منذ 15 سنة بسبب آرائه السياسية السلمية،و فاقدا للمواطنة الحقة…
موسم الحصاد المر مازال في بدايته و دائرة العنف الأعمى مازالت محدودة، و المعالجة الحكيمة و الشاملة هي العلاج الوحيد للقضاء على الفتنة في المهد، و لا خيار أمام الجميع سوى الاستماع لصوت العقل و تغليب المصلحة الوطنية ، ليس بالالتفاف حول ” صانع التغيير ” كما يزعم الدكتور خالد شوكات، بل بالالتفاف حول المطالب الحقيقية للشعب التونسي و إطلاق الحريات ، و إرساء الديمقراطية ، و سن عفو تشريعي عام، و إعادة الاعتبار لدور الأحزاب و الجمعيات الحقوقية و المنظمات المدنية، و تخليق الحياة السياسية، و خلق فرص تشغيل لأصحاب الشهادات الجامعية،و اعتبار الهوية العربية الإسلامية فوق أي اعتبار.
وأخيرا أود تذكير ” الصحفي ” السلامي الحسني كاتب مقال ” وجهة نظر ” والمنشور بالوسط التونسية أن ما يدعو اليه هو فعلا ” الدولة الدينية ” فالحقل الديني أوسع من اختزاله في ” مؤسسسة الفتوى ” ومن غير الممكن سيطرة الدولة على هذا الحقل تحت أي مسوغ ، وما يدعو اليه من ” اخضاع جميع القوانين قبل دخولها حيز التنفيذ لضرورة توافقها مع أصول الشريعة الاسلامية عبر مؤسسات دستورية قائمة ” هو دعوة صريحة لصنع كهنوت يراقب ويراجع ارادة الشعب المجسدة في السلطة التشريعية ، فحتى الحركة الاسلامية التي يرفض وجودها عبرت وبشكل علني أنها ستحترم ارادة الشعب اذا اختار حزبا شيوعيا عبر صناديق الاقتراع ، ومن هذا المنطلق فان الحركة الاسلامية التونسية ليست حزبا دينيا ولا تطرح نفسها كذلك ، وهي ليست وصية على الدين ، فهي حركة سياسية تستند في برامجها للمرجعية الاسلامية ، واذا اختارها الشعب لبرامجها مارست حقها التشريعي وفق تصورها للقانون الأصلح ، واذا رفض الشعب مشروعها مارست حقها في المعارضة السلمية وفق القانون ، لذلك فان الدعوات المتتالية من الأوصياء على الديمقراطية وأدعياء حقوق الانسان بمنع الحركة الاسلامية من العمل السياسي القانوني هي نوع من العنف ودعوة صريحة للفتنة ومحاولة دفع بعض الشباب الى دهاليز العمل السري ، والدهلزة أقرب الطرق المؤدية الى تبني العنف والعمل المسلح ، فكفانا ما زرعه الحزب الحاكم واليسار المتطرف عبر ” خطة تجفيف المنابع ” لأن الحصاد سيكون مرا ، والسنن الاجتماعية كعقارب الساعة تدور وفق ضبطها .
iThere are no comments
Add yours