حاوره: فوزي الصدقاوي

القيادي الإسلامي و الناطق الرسمي باسم حركة النهضة سابقاً ، المهندس علي لعريض هو من مواليد1955،صدر في حقه حكم بالإعدام سنة 1987 ، كما قضت المحكمة في حقه بالسجن لمدة خمسة عشر سنة خلال حملة التسعينات التي شنتها السلطات التونسية ضد حركة النهضة ، أمضى خلالها إثنى عشر سنة في عُزلة إنفرادية وقضى من محكوميته تلك أربعة عشرة سنة قبل أن يُطلاق سراحه سنة2004 . هو الآن عضو في هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات، لكنه ممنوع من الحضور و المشاركة في التظاهرات السياسية القليلة في تونس التي غالباً هي أيضاً ما يُمنع عقدها. عليه جبر إقامة في تونس العاصمة حصراً وممنوع عليه مغادرتها إلا بإذنٍ من السلطات الأمنية، وهو في الغالب، إذنٌ لا يُمنح. لا تتوقف السلطات الأمنية عن تهديده بإرجاعه إلى السجن إن هو لم يُقلع عن محاولاته المشاركة في فعاليات سياسية وحقوقية وثقافية عامة، إن قدر لتلك الفعليات أن يُخلى بينها وبين الناس.
ولأن الجدال الفكري والسياسي حول الحركة الإسلامية في تونس والقضايا الحافة بها لاتزال تثير لدى السياسيين والمفكرين والحقوقيين إشكاليات هي اليوم بينهم محل تأملات عميقة ، طرحنا على السيد علي العريض عدداً من الأسئلة تلخصت في محورين :

محور سياسي عام يتعلق بالحركة الإسلامية في تونس بين مقاصد وجودها و مكاسب تصفيتها .

ومحور نظري يتعلق بالرؤية التي يقترحها الإسلاميون في إستلهام القضايا المعاصرة للمرأة.

وقد آثر السيد علي لعريض بعد الإطلاع على الأسئلة أن يوافينا بالإجابة عنها كتابياً .فكان هذا نص إفاداته .

بسم الله الرحمان الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قبل الإجابة عن الأسئلة ذات الطابع الفكري والشرعيّ أود الإشارة إلى أنه مهما كانت أهمية المسائل النظرية وهي هامة- فإن قضيتنا الأساسية في تونس اليوم هي النضال من أجل الإصلاح الديمقراطيّ ففي مراحل النضال الديمقراطي قد يكون التركيز على الاختلافات الفكرية نوعا من الترف إلا ما كان منها تقوية للنضال وتوسيعا لآفاقه كما ألفت الانتباه إلى أني لست مختصا في علوم الدين وإنما أنا مسلم يُلم بطرف من دينه ويعيش واقع بلاده ويسعى لفهم تحديات عصره.

– كثير من “الديمقراطيين” كانوا يعتقدون أن تصفية الحركة الإسلامية قد توفر لهم توازن الساحة السياسية،في ظل ما كانت الساحة التونسية قد عرفته من استقطاب سياسي بين حركة النهضة والسلطة ، لكن كثيرون أيضاً اليوم أدركوا أنه بضرب الحركة الإسلامية خسر الجميع ؟ فماذا خسر التونسيون فعلاً بغياب الحركة الإسلامية في تقديركم ؟

أكبر خسارة في تقديري هي أن مجتمعنا قد افتقد حراكا ثقافيا وسياسيا كان استمراره وتأطيره سيدفع بلادنا أشواطا كبيرة في مسار الديمقراطية باعتباره سيفضي إلى اتفاق طوعي حول الأرضية المشتركة وسيرسي تقاليد سياسية تكرس التعددية والوطنية والواقعية وسيساهم في التعبئة العامة لتحقيق رهانات البلاد ويحاصر عوامل الفرقة أو التصدع واللااستقرار كما سيزيد الثقة في المسار ووضوحه ويدعم الشعور العام بتساوي الفرص والمشاركة الاجتماعية والسياسية وبصفة عامة فانه سيعيد للعمل السياسي معناه النبيل.

كما خسرنا حركة تربوية وسطية كانت تؤطر وتوجه جموعا من المواطنين لا سيما منهم الشباب وكان يمكن لو بقيت أن تحاصر الجريمة وانحدار القيم وهي من اكبر المخاطر وعوامل التخلف في كل مجال تستشري فيه.
إلى ذلك فان الحركة الإسلامية قد عرفت -وما تزال- بجهودها في تجديد الفكر الإسلامي وجعلت من أول أهدافها دعم محاولات وجهود التجديد وعيا منها بالمسافة التي تفصل الواقع المتطور أبدا والفكر الإسلامي الساعي إلى ملاحقته واستيعاب تعقيداته لا سيما وقد تكاثر الخلط بين مصادر الدين الإسلامي الأصلية القران والسّنة وبين تجارب المسلمين التاريخية وجهودهم الفكرية التي هي ثروة كبرى ورصيد يتعاظم بالإضافة إليه والتفاعل معه دون التقيد به إذ لكل إنتاج تأثر بخصائص عصره وحاجاته وتلك سنة الحياة.إلى ذلك وزيادة على ما تعانيه شريحة كبيرة من مجتمعنا, المساجين وعائلاتهم, المضيق عنهم بعد الإفراج عنهم وعائلاتهم, المهجرون وعائلاتهم, إلى ذلك فقد كان وجود طرف سياسي مثل الحركة الإسلامية يمثل عاملا رئيسيا مع بقية الأطراف لتخفيف هيمنة طرف على كل شؤون المجتمع وللضغط باتجاه التحرر والعدالة الاجتماعية وبضرب حركة النهضة ، ازداد اختلال التوازن بين السلطة والمعارضة وسهل محاصرة من تبقى والتراجع عن الخطوات التحررية.فكان ضرب الحركة الطلابية ومصادرة الصحافة والإعلام ومحاصرة كل قوى المجتمع المدني وضرب استقلالية هيئاته النقابية منها والحقوقية والسياسية .

وكان يمكن أن تكون بلادنا في مقدمة الدول العربية التي تتوفق إلى استيعاب وتاطير تياراتها الاجتماعية الإسلامية والقومية واليسارية والعلمانية الليبرالية ليتجه التنافس بخطى حثيثة نحو البرامج وتلك أهم مكاسب الديمقراطية وتذوب تدريجيا بعض الخلافات التي يخشى منها كسر المجتمع أو إحداث تصدعات مدمرة فيه, وهي تخوفات افهمها وأتفهمها ولكن علاجها يكون بالحرية واستحثاث الخطى بهذا الاتجاه بحكمة.

– شنت السلطة التونسية ضد حركة النهضة حملة تصفية واستئصال إستمرت إلى حد اليوم ستة عشر سنة ، ماذا كسبتْ السلطة و ماذا خسِرْتم؟

بالمعايير الوطنية لم يربح احد فقد خسرت البلاد كما أسلفت الحديث وخسرت كل الأطراف السياسية المعارضة وخسرنا كلنا ثقة الشعب أو كثير منه في العمل السياسي والشعارات السياسية وما أعظمها من خسارة وما أخطرها وما أعسر عمل السلطة والمعارضة وكل الهيئات والمثقفين في مثل هذه المراحل. أما بالمعيار النفعي أو الانتهازي فقد ربح من له مصلحة في الاستئصال أو في الانغلاق السياسي أو في تجاوز القانون حيثما كان موقعه.

– ما الذي يستدعي وجود حركة إسلامية في تونس، فالتونسيون مسلمون جميعهم وربما لن تضيف الحركة الإسلامية للإسلام في تونس، كما يرى بعضهم، غير شيء من السياسة وكثير من الشغب ؟

أولا: إن التيارات الفكرية والاجتماعية يفرزها المجتمع كتعبير عن حاجاته ومشاكله وطموحاته ويغذيها ويوفر لها أسباب النماء والبقاء طالما كانت ملبية لحاجاته وقضاياه أما إذا فقدت علاقتها بمتطلبات المجتمع المادية والمعنوية فإنها تؤول إلى تاريخ وتراث. والحركة الإسلامية المعاصرة ظهرت في البلدان العربية كحركة ثقافية سياسية اجتماعية وكرد فعل على الاستبداد السياسي وعلى نسيان الإسلام أو استنقاصه أو حتى التحرش به حسب البلدان, الإسلام الذي صار إسلام موظفين في الدولة وظهرت أيضا كرد فعل على التغريب الذي توغلت فيه حكومات أو قادة دول “وكرد فعل ضد علمنة كثيفة وتصفية إسلامية لم تكن تتجاسر دائما على البوح بحقيقتها” وكرد فعل على التفاوت الاجتماعي الخ. فكل هذه العوامل كان لها تأثير في ظهور الحركات الإسلامية وطالما استمرت هذه العوامل فستستمر الحركات الإسلامية وقد تولد حركات متنوعة لا سيما إذا استمر الانغلاق والإقصاء.

ثانيا: بلادنا تعترضها تحديات حقيقية لا ينكرها احد تقريبا التحدي التنموي في ظل رأسمالية بلا حدود وعولمة مستعرة وبلا ضوابط والتحدي الديمقراطي حيث يتطلع التونسيون ككل شعوب الدنيا إلى حكم رشيد يحترم قيم الحرية وحقوق الإنسان والتعددية وحرية الإعلام والتفكير والتنظم واستقلال القضاء وتحدي الهوية المتمثل في الارتقاء بقيمنا وثقافتنا الوطنية بما يحقق لأجيالنا الشعور بالاطمئنان والانسجام بين مقومات هويتنا العربية الإسلامية وقيم العصر ومتطلباته وهذا تحد فكري عميق يتطلب اجتهادا وتجديدا وأمانة لان من المخاطر الكبرى أن يسود أجيالنا الانفصام والتناقض بين الأصل والعصر فهذا موقع انكسار خطير لا قدر الله.

هذه التحديات الثلاثة تحتاج إلى كل الجهود والمقترحات والمبادرات لتستفيد من بعضها وتثري بعضها بعضا والتيار النهضوي كغيره من المكونات يقدم مقترحاته وحلوله وبالتالي فوجوده ووجود غيره ضروري لتتفاعل الحلول والمقترحات لمصلحة المجتمع كله.

إنّ التيار الإسلامي ابن شرعي للمجتمع التونسي وحراكه في كل جهاته وفئاته فما معنى التساؤل عن حق وجوده. إن السؤال الذي يستحق الإجابة عنه حقّا هو لماذا يقصى الإسلاميون من حقهم في العمل السياسي والثقافي والاجتماعي في كثير من الدول العربية ومنها تونس. فرغم تأكيد حركة النهضة باستمرار أنها تقدم مقارباتها وفهمها للإسلام ولقضايا البلاد وعلاجها ولا تدعي أنها تحتكر الدين أو فهمه أو النطق باسمه ورغم تأكيدها المستمر أن التونسيين بحاجة إلى الإحساس بالاطمئنان في تدينهم وبالحرية في اختيار ما يناسب ظروفهم وعصرهم في فهم دينهم دون مضايقة لهم في أداء شعائرهم وسائر ما له صلة بهويتهم سلوكا ومظهرا واحتفالا رغم تأكيدها كل هذا فإنها طوال مسيرتها تتعرض للإقصاء وكل أنواع المحن كما تتعرض لرفض بعض الأطراف الاعتراف بحقها في العمل والمشاركة في تطوير البلاد وخدمة شعبها. وإذا كنت أفهم مواقف بعض المترددين في دعم حقوق الحركة كطرف وطنيّ بالبلاد تأثرا بحملات التشويه التي تكال ضدها من كل جانب وعدم قدرتها على نشر أطروحاتها ومزيد بلورتها والرد على تلك الحملات في ظروف الحصار والفرقة والمحن وتأثرا بما حصل لتجارب إسلامية أخفقت أو أثارت عداء دول عظمى… فإن الكثيرين من الذين يقصون حركة النهضة ويتحالفون مع قمعها واستئصالها ينطلقون غالبا من هذه الاعتبارات أو من بعضها : إما أنهم يعتبرون أطروحاتهم هي المعبر الشرعي والوحيد عن مقومات شعبنا وخصائصه وطموحاته أي أنهم يحتكرون فهمها وتمثيلها -أو يستنقصونها- فيلجؤون إلى إقصاء هذا الطرف الذي يخالفهم الرأي والتقدير وخنق صوته وإما أنهم حرصا على مصالحهم ومواقعهم يعادون كل طرح ينشر روح التطوير والتغيير والإنصاف لاسيما إذا تشكل في حزب أو حركة يناضل من اجل الحرية والتنمية العادلة.

فهذه تقريبا الاعتبارات التي ينطلق منها أو من بعضها اغلب من يقصون تيار النهضة أو غيرها من الأحزاب الوطنية من حقوق المواطنة وحقوق العمل السياسي والثقافي والاجتماعي وكما ترى فان مشكلتهم الحقيقية هي مع مبادئ الديمقراطية أو مع الهوية العربية الإسلامية أو مع العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص.

نعم إن على النهضويين -كما على غيرهم- أن يوضحوا أطروحاتهم ومقارباتهم وأن يجددوا فيها وأن يعتبروا من تجاربهم وتجارب غيرهم وأن يصدروا تقييماتهم ونقدهم الذاتي وقد فعلوا ومازالوا يفعلون ذلك رغم ظروفهم ومحنتهم التي لا تعرف النهاية.

المرجعية العلمانية( اليعقوبية) للسلطة التونسية تضع الظاهرة الدينية تحت تصرف السياسي ، إما بطريق الاحتواء( التدين التقليدي و الطرق الصوفية وبعض خطوط الدعوة والتبليغ و تيار السلفية التقليدية) أوبطريق التصفية( حركة النهضة وحزب التحرير و السلفية الجهادية والتيار الشيعي على خط الإمام) ، وفي الحالتين فإن إمكانية التخاطب مع سلطة هكذا مرجعيتها الإيديولوجية وهكذا نهجها السياسي، سواء معكم كحركة النهضة أو مع غيركم من الحركات الإسلامية ، إما أنها ستصبغ علاقة السلطة بالحركة الإسلامية بطابع التوتر الدائم ومواجهتها بنهج الإستئصال أو أنها إن إستطاعت، ستحوّل الحركة الإسلامية إلى رصيد تكتيكي للسلطة؟ فكيف ترون على ضوء تجربة الربع قرن التي عاشتها الحركة ،حدود العلاقة الممكنة و الصحية بنظركم مع السلطة
؟

1- إذا كانت السجون لم تُفرغ من الإسلاميين منذ الثمانينات إلا لفترات قليلة هي بالذات تلك التي شهدت فيها البلاد انتعاشة في مجال الحريات غذت الأمل في أن يستوعب النظام تواجد كل التيارات على الساحة ويؤطرها بدل سجن بعضها وضرب بعضها ببعض.

وإذا كانت كل حملة على الاتجاه الإسلامي-وهي لا تكاد تنقطع منذ الثمانينات- مصحوبة أو متبوعة بتوغل البلاد في الانغلاق ومحاصرة الأحزاب والجمعيات لا سيما منها المستقلة واضمحلال الحياة السياسية حتى غدت حالة التيار الإسلامي بالبلاد هي مقياس لحالة الديمقراطية والحريات تقريبا.

إذا كان ذلك كذلك فان مثل هذه السياسات فشلت في اجتثاث التيارات والأحزاب طالما كانت شرعيتها مكتسبة من الشعب منه تتغذى وعن قضاياه وطموحاته أو بعضها تعبر.

2-لا غرابة أبدا أن يظهر في كل شعب عربي مسلم أربع تيارات، مهما بلغ عدد التنظيمات الحزبية، يؤكد كل تيار منها على خاصية قد يزيد فيها عن غيره فيوسم بها على وجه التغليب لا على وجه الاحتكار فتجد التيار الإسلامي والتيار القومي والتيار اليساري والتيار الليبرالي فلماذا يصرون على استئصال التيار الإسلامي واستهدافه دون سواه أو أكثر من غيره بينما وجود هذه التيارات الأربعة إفراز طبيعي لحراك المجتمع. وحوارها وتنافسها يؤوّج ( optimise) نتائج هذا الحراك وثماره الوطنية.

3-لا أظن ولا أريد أن يكون قدر بلادنا تأبيد هذا الصراع والتنافي أو التآكل بل الوطنية تقتضي الإقرار بحق الاختلاف وتعدد المقاربات والتعايش و التعاون وهذا هو مقياس التحضر والوحدة الوطنية والحصانة أمام غوائل الدهر والوفاء لتاريخنا والفعل في حاضرنا والتفاؤل بمستقبلنا وإلا ذهبت ريحنا بما فعلته أيدينا وذكته أيدي الأعداء.

ولذلك فأنا أتطلع إلى اليوم الذي يتغلب فيه العقل على العاطفة ومصالح البلاد على المنافع الخاصة وقيم التعايش والمشاركة على الأنانية والاحتكار واحترام بعضنا بعضا ليحترمناالآخرون. كما إني على ثقة بان شعبنا لا يضيق بالتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي يفرزها لأنها علامة صحة تفاعله وحراكه الخاص ولا يعجز عن تأطيرها في صعيد وطني واحد مهما تعددت مواردها الفكرية بل إن الحرية وما يصحبها من حوارات ومنافسات هي التي تدفع كل طرف إلى مزيد من المراجعات وإلى مزيد من الوسطية والوطنية . والحرية هي التي تؤدي إلى توسيع المشتركات وتضييق التباينات واتجاهها إلى أن تكون حول البرامج لا حول مقومات المجتمع وأسسه وعلاج هذه التخوفات يكون بالتوغل في الحرية لا بمصادرتها وفي أحوال الشعوب عبرة.

4- التيار النهضوي تيار وطني ليس اقل وضوحا من غيره ينمو فكريا وسياسيا باطراد يجدد نفسه وتجدده المحن والظروف وتجاربه وتجارب الآخرين لا يستنكف عن تعديل مقارباته واستخلاص العبرة من أخطائه وأخطاء غيره. ليس هو بتيار منطو على نفسه أو متجه إلى الماضي ولا هو تيار يعادي ابتداء أو يكفّر أو يبحث عن الصّدام ولا هو يطرح أماني تتجاوز احتمال الواقع. جماع ما يطرحه يمكن تلخيصه في مبادئ كبرى هي:

-  احترام الهوية العربية الإسلامية لشعبنا باعتبارها روحه وأخلاقه ومزاجه وحصانة له وعامل استنهاض وتعبئة في معارك دعم الاستقلال والبناء والتنمية وعامل اطمئنان.

– ديمقراطية جوهرها احترام الإرادة العامة وضمان الحريات والتعددية واستقلال القضاء وحرية الإعلام والنقد -الوليد الشرعي للديمقراطية-.

-  تنمية اقتصادية تشمل كل الجهات والفئات والمجالات وتحترم حقوق الأجيال القادمة والبيئة… وعدالة اجتماعية بسياسات تحاصر عوامل الصراع والتهميش والإقصاء لأي فئة أو جهة وتقاوم الأثرة والمحسوبية وتتصدى للرشوة وانحدار القيم وضمن هذه المبادئ العناوين يمكنه أن يقدم تفاصيل مقارباته التي تلتقي في كثير منها مع غيره فعلام الإقصاء .

مطلوب من مناضليه مزيد بلورة رؤاهم والوعي بتحديات الحاضر والمستقبل وتشابكها ومزيد الإلمام بمنجزات البلاد ومكاسبها والحفاظ عليها ودعمها ولكن كل هذا مطلوب منه ومن غيره فعلام الاستثناء. إن القضية في البلاد ليست قضية التيار النهضوي وحده وإنما هي قضية الإصلاح الديمقراطي الذي عانت بلادنا بغيابه محنا وتآكلا داخليا وأضاعت وقاتا ثمينة ولا تزال.

لقد طالبت حركة النهضة -وأطراف عديدة أخرى- بحوار جديّ لا يستثني أحدا حول أمهات القضايا بالبلاد قضايا الحريات والإصلاح السياسي وقضايا الإسلاميين ولكنها جوبهت حتى الآن بالرفض واستمرار ذات السياسة سياسة الصدّ والإقصاء والحصار.

إن النضال بكل الوسائل السلمية المشروعة اختيار استراتيجي لم يتخل عنه النهضويون والأطراف الوطنية من اجل تعديل ميزان القوى لصالح المجتمع والضغط لتحقيق الإصلاح الديمقراطي كما إن الحوار داخل الحركة ومع غيرها خيار وسياسة عامة تضبطها مصلحة البلاد في انتقال ديمقراطي حقيقي.

– بمناسبة النقاش الدائر حول قضايا المرأة في منتدى الحوار لهيئة 18 أكتوبر أكدتم في مداخلتكم على المساواة بين المرأة والرجل هل من مزيد التوضيح لهذه المسالة من الناحية النظرية ؟

المرأة في دين الله عز وجل كالرجل ، كائن إنساني قائم بذاته فهي موضع للتكليف، والخطاب موجه إليها مباشرة وهي مسؤولة عن كل أفعالها كالرجل تماما. والدخول في دين الله قرار فردي لا نيابة فيه من احد على احد و قد أخذت البيعة كما الرجل وهي مكلفة بذات العبادات كما يتعين عليها من عملها الجزاء ذاته. وليست الأسرة وحدة حساب ولا المجموعة بل وحدة الحساب هي الفرد رجلا كان أو امرأة فالناس سواسية في حساب الله عز وجل. ثم إن المساواة بين الناس صادرة عن خلق بعضهم من بعض والذكورة والأنوثة لا يختارها الإنسان فلا تفاضل بهما. فالمساواة تامة في القيمة الإنسانية وهي مساواة لا تمنع تنوع الأدوار وتكاملها وتغيرها من مرحلة إلى أخرى تبعا لتطور الأجيال. وقد أوضح هذه المعاني علماء ومفكرون كثر منهم الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ راشد الغنوشي والشيخ حسن الترابي وأما الأدلة من آيات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة جدا. وإذا تساوت المرأة والرجل عند الله تعالى فلا تصح أن تكون غير مساوية له عند البشر وإنما يحصل ذلك إفرازا للواقع لا لقيم الإسلام و تعاليمه.

ومن ناحية أخرى فان الإسلام دين الفطرة وقد قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في معرض حديثه عن المساواة بين الناس كافة -وليس بين الرجل و المرأة فقط ( ( قررنا أن الإسلام دين قوامه الفطرة فكل ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين الناس فالإسلام يرى فيه المساواة. وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت المواهب البشرية فيه فالإسلام يعطي ذلك التفاوت حقه بمقدار ما يستحقه. إن المساواة معتبرة من أصول الشريعة الإسلامية في نواحي الاجتماع لكن ذلك معلول لوجود أسبابها الحقة وانتفاء موانعها الحقة ))
وقال أيضا (( وبناء على الأصل الأصيل وهو أن الإسلام دين الفطرة فكل ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين المسلمين فالتشريع يفرض فيه التساوي بينهم وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه …)) والفطرة يكاد يكون معناها العقل السويّ. فالمساواة في التشريع أصل لا يتخلف إلا عند وجود مانع فلا يحتاج إثبات التساوي في التشريع بين الأفراد أو الأصناف إلى البحث عن موجب المساواة أما بعض الحالات الاستثنائية فهي العوارض التي إذا تحققت تقتضي إلغاء حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة في الإلغاء أو لظهور مفسدة عند إجراء المساواة وقد أوضح الشيخ ابن عاشور كيفية اعتبار هذه الموانع فقال ( ( فحقيق بالمشرعين وولاة الأمور أن يراعوا هذه الموانع فيعملوا آثارها في المساواة بعد تحقق ثبوتها فإذا اضمحلت اضمحل أعمالها لاسيما ما كان تعلقه بالجبلة ضعيفا وعلى مصلحي الأمة أن يسعوا جد السعي لإزالة ما عسى أن يكون منها ناشئا على تقاليد قديمة أو عوائد ذميمة حتى اشتبهت بالجبلة بطول عهدها في أصحابها..)) .
ويدل كلامهم أن المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات أصل ومقصد من مقاصد الإسلام وأنها تمثل الاتجاه العام في التشريع وان المساواة لا تتخلف إلا إذا تعارضت مع العدل الذي هو أيضا مقصد عام بل إن مقصد العدل يتضمن مقصد المساواة ولعل هذا ما يفسر جزئيا عدم شيوع مصطلح المساواة في الثقافة الإسلامية خلافا لقيمة ومصطلح العدل . فلك أن تقول أن المساواة أصل لا يتخلف إلا إذا تعارض مع العدل وبمقدار تحقيق العدل ومقدار دوامه وإذا زالت الموانع رجعت الأمور إلى أصلها.

إن الإسلام يحرم الظلم ويوجب رفعه سواء نتج الظلم عن عدم المساواة و هو واضح أو عن المساواة وهو الاستثناء للأصل وأحكام الحقوق مبنية على الحقيقة في الواقع لا على الوهم أو مجرد الانسجام الظاهري مع الوحي. ولذلك تلغي عند علماء الإسلام أحكام التصرفات التي تعود على مقاصد الإسلام بالأبطال وضرب العلامة محمد الطاهر بن عاشور مثالا لذلك الآية 231 من سورة البقرة (..ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزؤا). فهذا الذي راجع امرأته استعمل ما أبيح له ولكنه لم يستعمله في المقصود منه بل على العكس من ذلك سمّي فعله هزؤا بآيات الله . وأضاف ( ( ولاشك أن الفطرة لا تطمئن لغير الحقائق والمعاني دون الأوهام و الصور …انتهى كلامه)) .

فكل ظلم أو ضرر تتعرض له امرأة أو رجل توجب قيم الإسلام ومقاصده إزالته واتخاذ الحلول التي تعيد الحقوق إلى أصحابها وقد يقتضي ذلك اجتهادات جديدة في التنزيل أو حتى في فهم م تجدد. ورحم الله ابن القيم الجوزية إذ قال ((فكل ما خرج من العدل إلى الظلم ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الرحمة إلى ضدها فليس من الإسلام في شيء . فهو عدل كله ورحمة كله. فكل ما ثبت انه عدل ورحمة فهو من الإسلام وان لم يرد في نص مخصوص إذ المدار على عدم المخالفة )).وينسب للشيخ الفاضل بن عاشور رحمه الله قوله(( كل ما قضى العقل السويّ بمصلحته هو من الشرع)) .
وبين الجانب النظري والواقع جدلية يبذل كل الوسع حتى يكون اتجاهها تحقيق أفضل الممكن والرقي المطرد. فالساعي إلى الإصلاح في أي مجال يفعل ما يستطيع لا ما يريد.
بقي أن أشير بعد تعرضي إلى ما فهمته من روح الإسلام في هذه المسائل إلى:

أولا : إن العدل كقيمة ومقصد مركوز في الوعي والثقافة الإسلاميين فالآيات والأحاديث الشريفة الحاثة عليه بالنص أو بالمعنى تفوق الحصر ورصيدنا كمسلمين يعبق بهذه الكلمة الجامعة وبعدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كعلامة في التاريخ الإنساني كله ومع ذلك فان هذه القيمة تتطور في بعض أبعادها تبعا لتطور الحضارة وقيمها.
أما قيمة المساواة بين سائر البشر فلم تكتمل إلا مع العصر الحديث الذي بلور المشترك بين كل البشر وهو الكرامة التي يولد عليها كل إنسان وهذا سمو بالإنسان دفعت من اجله البشرية ثمنا باهظا من الثورات الاجتماعية والفكرية والتجارب والحروب.

ثانيا: إن القيم الرفيعة تشق طريقها وتعم بناء على وجه الخير والجاذبية فيها بقطع النظر عن أصلها.
وكما أشار إلى ذلك هشام جعيط لا يمكن تفنيد وجاهة القيم الأساسية للحداثة متذرعين بعدم استعدادنا أو بفوضى قد تجلبها أو بسبب مساسها ببعض المواد التاريخية المساهمة في تركيبة الهوية.
((وهذه القيم الكبرى تجد معتمدا وضمانا في تراثنا الديني كما أن الحداثة استوحتها من التراث المسيحي إلى حد كبير)) وكان الشيخ راشد الغنوشي وبعد أن أشار إلى أن الديانات جاءت لمصلحة الناس إقامة للعدل ودفعا للتظالم وبسطا للتراحم بينهم باعتبارهم عائلة واحدة متساوين لا يتمايزون إلا بأعمالهم وخلقهم خلص إلى (( أن شرائع حقوق الإنسان مهما اختلفت مرجعياتها لا يمكن إلا أن تكون في لقاء حميم مع الديانات وبالخصوص مع الدين الذي يقدم نفسه خلاصتها وختامها: دين الإسلام)) . وحقوق الإنسان الأساسية قبلت عالميا أو في طريقها إلى ذلك وهو دليل توق البشرية وكدحها نحو المثال.

ثالثا: الحرية والعدل والمساواة… مقاصد وقيم رفيعة أصلية كل واحدة منها تتسع باستمرار عبر حقب التاريخ أي أنها تكتسح مساحات ومجالات جديدة في حياة الفرد والمجتمع لم تكن دخلتها من قبل وتترسخ في أخرى كانت فيها مجرد ظل أو “إحسان” لا حقّا أصيلا. فالحرية مثلا يزداد اتساعها في علاقة الحاكم والمحكوم وفي العلاقات والمواقف الفردية في المجتمع وحتى في العلاقات الأسرية وقس عليه مسار قيمة المساواة وقيمة العدل.

إلى ذلك يجدر التنبيه إلى أن المساواة المطلوبة والمأمولة ليست مساواة في المنزلة الإنسانية المطلقة فقط وهي المساواة التي تتكرر في كثير من الأدبيات عند الحديث عن المرأة والرجل أو عن الغنى والفقر وإنما وبنفس الحرص المساواة في المنزلة الاجتماعية المحسوسة.
ومازال البعض يجادل في الشطر الأول من المساواة وتعثر اخرون في شطرها الثاني. ومن أهم أسباب ذلك ضعف التأمل في العلاقات الاجتماعية وحراكها ومواقع العدل فيها ومفاصل الظلم أو الاستغلال وآليات التأثير فيها ومن الاسباب ايضا تغليب النظر في تناسق الهندسة الداخلية للآراء المجردة مع غفلة أو ربما قصور عن النظر في مدى التطابق بين تلك الآراء والواقع المتزايد التركيب والتعقيد والتغيّر باطراد.

– منذ ثلاثينات القرن الماضي يستمر الجدل حول مسألة تعدد الزوجات دون أن يُحسم القول في بابها، فكيف قرأتم المسألة، وكيف فهمتم الخلاف حولها ؟

في الفكر الإسلامي وفي حدود اطلاعي توجد آراء في هذه المسالة تتفق تقريبا على جواز التعدد ولكنها تختلف حول شروطه وبالخصوص حول ضبط التعدد أو منعه وقد يحق تلخيصها على الجملة كما يلي:

1- رأي يؤكد على الإباحة الأصلية لحق التعدد وعلى شرط العدل بينهن – وفي مضمون العدل تفاصيل- ولكنه لا يرى لجهة الحق في منع احد من التعدد. فشرط العدل هنا يرد كحق يوعظ به الرجل وبتبعات الإخلال به أمام الله تعالى.

2- رأي يؤكد على شروط العدل بين الزوجات ويربط بالتالي السماح لرجل بالتعدد بشروط الاطمئنان على توفر العدل فيه. فهذا الرأي يضيق في جواز التعدد وربما يوجد له آلية لدراسة حالة الطالب للتعدد من جهة العدل بالخصوص ويمكن اعتبار الشيخ محمد عبده من أصحاب هذا الرأي وان كان لا يكتفي بشروط العدل بل يتجاوزه للتركيز على المشاكل التي تحصل بين العائلات مما يمكن القول معه انه يضيق إلى أقصى مدى في السماح بالتعدد دون الوصول ربما إلى منعه بصفة عامة.

3- رأي يعتبر -بعد تأكيده ضرورة الإقرار بإباحة الشرع للتعدد- إن من حق وليّ الهيئة الاجتماعية أي وليّ الأمر أن يمنعه إذا رأى سوء استعماله وبالتالي كثرة أضراره وممن ينسب لهم هذا الرأي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

4- علال الفاسي الذي يمكن القول أن موقفه هو توقيف العمل بتعدد الزوجات. وبما أن في رأيه بعض التأرجح في درجات المنع فإني أورد بعضا من كلامه. فقد قال في كتابه “مقاصد الشريعة ومكارمها” ( ( وذكر السيد رشيد رضا أن الأستاذ محمد عبده اعتبر هذه القاعدة [ يقصد قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ] في منع تعدد الزوجات إذا كان التعدد مثار المفاسد في الأزواج والأولاد وعشائر الزوجين وقد أخذنا نحن مبدأ توقيف العمل بتعدد الزوجات في العصر الحاضر بناء على أمر إرشاد المسلمين أن يواصلوا ما بدأه الشرع من تقييد التعدد كلما خافوا عدم العدل ولم نحمل العدل المذكور في الآية على العدل في القسم بين الزوجات كما حمله عامة الفقهاء وهو الذي ملك مناط تفكيرهم حتى المصلحين منهم مثل الشيخ محمد عبده وإنما حملناه على العدل العام وهو ما يدفع الإضرار بالطائفة الإسلامية وعليه فيكون اجتهادنا في هذه المسالة مبنيا على القاعدة الأولى [ من قواعد تقييد المصلحة وهي تقديم الضرر الخاص على الضرر العام] ولا شك أن منع الأفراد من تعديد النساء إضرار بهم لأنه منع لهم من إرضاء حاجاتهم وعاداتهم ولكنه [ يقصد التعددّ ] إضرار في العصر الحاضر بالمسلمين عموما لما يحدثه من مشاكل لا تحصى كما أنه إضرار بالإسلام نفسه لأن تطور المرأة وصل إلى درجة لا تقبل معه مثل ذلك النظام الذي كان سائدا في ببعض عهود الحضارة وتحميلها ذلك يؤدي بها إلى الطعن في الدين أو الالتجاء إلى المطالبة بتشريعات منافية للدين وقد أمرنا الشارع أن نبشر لا أن ننفر وقد تبين من تقييد الزواج بأربع في العصر النبوي… أن قصد الشارع دفع الضرر على النساء عموما لا على المتزوجات منهن, وإقامة العدل في علاقة الرجال بالنساء في المجتمع لا في الأسرة فقط وحينما قال سبحانه (فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) أرشدنا إلى التبصر في كل وقت بما يناسبه فان كان التعدد غير مضر بالدين ولا بالمجتمع الإسلامي أقررناه وإلا أوقفنا العمل به دفعا للضرر العام…))
وقال في موقع أخر (( والفرق بين نظرنا ونظر الشيخ محمد عبده من وجهتين : أولا وهو الأهم إننا نعتبر توقيف العمل بتعدد الزوجات عاما ولا يرفع إلا إذا زال السبب الذي ذكرناه للتوقيف بينما يرمي الشيخ عبده إلى اعتبار قضية كل أسرة على حدة … وحجتنا أن التقييد بأربع كان عاما وبناء على سبب عام. وثانيا أننا نعتبر دفع الضرر العام بينما يعتبر عبده دفع الضرر العائلي ومن وجهة الدليل نستعمل أمر الإرشاد الذي نعتبره أصلا من أصول الشريعة ومن وسائل تطورها ولا نظن أحدا سبقنا إليه بهذا المعنى ))

وأضاف في موقع آخر (( ومن الأمثلة لأمر الإرشاد في نظرنا قوله تعالى في تعدد الزوجات بعد أن حصره في أربع ” فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة ” فقد ارشد الشارع إلى الاكتفاء بالواحدة عند الخوف من عدم العدل وهو على ما نرى أمر للأمة جمعاء ليستكملوا ما قصد إليه الشارع من إبطال التعدد مطلقا ))
ويمكن إضافة رأي بعض الباحثين المحدثين الذين يلتقون تقريبا مع رأي الشيخ علال الفاسي بصيغة أو أخرى.

وأنا أوردت هذه الآراء وكل رأي يؤخذ منه ويردّ للفت الانتباه إلى:

أولا: ثراء الفكر الإسلامي وتراكم مدوناته وتوسعها المطرد بإضافة الخالف للسالف واعتمادهم في اجتهاداتهم على المقاصد وعلى النظر في مآلات الأفعال في الواقع الذي يعالجونه وحتى ابعد من ذلك لا الوقوف على ظاهر النصوص وحدها. قال عز الدين ابن عبد السلام ( ( كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل )) وقال الشاطبي (( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على الفعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل))

ثانيا: إن العالم منهم رغم كونه محكوما بظروف بيئته فانه لا يقدم آراءه مطلقة منغلقة على نفسها طاردة لكل إضافة إليها وإنما هي منفتحة على الزيادة دائما. كانت هذه الآراء قبل قرن وبعضها قبل نصف قرن. فأين منها بعض الآراء التي تطل علينا اليوم في أكثر من منبرقاطعة لا تعرف النسبية، منقبضة طاردة لغيرها لا تعرف التعايش، ضعيفة الوصل بالحاضر بله المستقبل، مطلقة، كأنها النهايات.

– في القضايا الحقوقية المتعلقة بالمرأة لم يعد كافٍ القول أن الإسلام ساوى بين المرأة والرجل كما لم يعد القبول بولاية المرأة كما تأكد بعض الأدبيات الإسلامية المعاصرة فتحاً عظيماً ، اليوم نظراءكم السياسيين يدعونكم للقبول بالمساواة بين المرأة والرجل في الميراث وهي من القضايا التي تُعدُ في علم الأصول من الأحكام قطعية الدلالة قطعية الثبوت ، فكيف تفهمون هذه المسائل؟

إن معرفة حكمة المواريث غير ممكن باجتزاء مناب المرأة والرجل فقط لان الأمر يتعلق بنظام كامل للمواريث يشمل عددا كبيرا من الورثة هو بدوره جزء من نظام إعادة توزيع الثروة الذي هو بدوره فرع من نظام اجتماعي عام كما له علاقة وثيقة بالجوانب الوجدانية للمسلم من حيث اطمئنانه إلى طاعة الله تعالى ومن حيث الحرص على الكسب والادخار تأمينا لورثته. والنظرة التجزيئية الانتقائية تجانب الصواب في هذا المجال الحساس ذي الأبعاد التعبدية والاجتماعية.

1-وفي تقديري فإن كل المسائل التي لها علاقة بالدين الإسلامي في نصوصه ومقاصده يجب تناولها عند طرحها بمنهجية علمية وواقعية تعتمد على أهل الاختصاص في علوم الدين والاجتماع والاقتصاد والقانون الخ. حتى يتيسر الوصول إلى حلول تربطنا بالأصل وتعالج قضايانا في هذا العصر فالتونسي يبحث على مثل هذه الحلول التي تحترم دينه وخصائصه وتستجيب لمقتضيات عصره وهذا هو معنى الأصالة فهي التجذر في الأصل والعصر.

2- لاشك أن وضع المرأة الاجتماعي قد تغير كثيرا فهي تعمل باجر وتساهم في نفقات العائلة ومقتنياتها وهذا الوضع يختلف كثيرا عما كان سائدا في عهود سالفة من وضوح واستقرار في تقسيم الأدوار والمسؤوليات والممتلكات وهذا الوضع استوجب ويستوجب قوانين واجتهادات تحايث تطور المجتمع وتكرس منظورا يحقق العدالة الاجتماعية للمرأة وينصفها وفي هذا الإطار يمكن إدراج قانون الاشتراك في الملكية بين الزوجين في تونس وغيره من المبادرات الممكنة بل إن الإنصاف يقتضي كذلك تثمين جهود المرأة في شؤون المنزل والتنشئة فهو يساوي قيمة العمل المأجور. وبمعنى أخر فان ما يحصل عليه الرجل من اجر أو دخل ما كان ليكون ويستمر لولا تحمل المرأة في غالب الأحوال-حتى المرأة العاملة- الشطر الآخر من العمل اللازم للعائلة وهو شؤون المنزل والتنشئة, فتأمل درجة التداخل والشراكة في موارد الأسرة وفي القيام على شؤونها وحجم ما تقتضيه من تعامل بالمعروف والإحسان ومن تضحيات متبادلة وكذلك من قوانين عادلة.

3- إن النظم الاجتماعية تقاس بنتائجها وبما تعود به على الناس من الإنسانية والكرامة والاطمئنان. والعلاقات الأسرية جزء من النظام الاجتماعي فكل رؤية لا تراعي حقائق الواقع ومختلف المسؤوليات شرعية كانت أو قانونية وقاعدة “السلطة بالمسؤولية” لا يتقبلها المجتمع و بالتالي لا تناسبه. كما أن كل رؤية تتخلف عن مراعاة تغير البنى الاجتماعية والعقليات ولا تتجاوب معها تحال على التقاعد والتراث.

– عودة اللباس الإسلامي (الخمار) إلى مظاهر الحياة اليومية في تونس أزعج السلطات التونسية وهي اليوم( منذ بداية السنة الدراسية الجديدة2006-2007) تهيأت لمكافحته بكل قوة وفي جميع المواقع بالمعاهد والجامعات والمؤسسات العمومية وفي الطريق العام أيضاً ، كيف تفسرون الهوس التي تعيشه السلطة التونسية إزاء مظاهر الحياة الخاصة وكيف تجدون بحسب رأيكم سلطة تشغل نفسها بوضع ضوابط محددة للباس الإسلامي ،فتهتم بغطاء الرأس إن كان مشدود بدبوس أو هو معقود من أطرافه وإن كان شعر الرأس مغطاً كله أم أن شعر الناصية بائن..!!

هذه القضية ما كان لها أن تكون لو ساد التعقل فاللباس شأن شخصي تدخل في تحديده عند كل شخص قيمه وعاداته وسنه وذوقه واغلب هذه العناصر متغيرة في الزمان والمكان بل وحتى متقلبة. وبصفة عامة إن اللباس يفترض فيه مراعاة الآداب العامة والأمن العام وفيما عدا هذين الاعتبارين فكل مواطن حرّ في لباسه سواء لبسه اعتقادا أو وراثة أو مجاراة . وفي تونس تغير لباسنا مرات عدة فما نلبسه اليوم رجالا ونساء كثيرا منه مقتبس ولكن لطول عهدنا به صار جزءا من مزاجنا وثقافتنا وأعرافنا أو هو آيل إلى ذلك. والجديد دائما يغلب القديم وان طالت مقاومته أو يفرض عليه التكيف. وارتداء الخمار لا مساس له بالأمن العام ولا بالآداب العامة بل هو أكثر الألبسة احتراما لكل ذلك فلماذا المنع والتعسف في المنع أليس في ذلك اعتداء على الحرية الشخصية أولا وعلى حرية المعتقد ثانيا.
وفي فهمي للدين الإسلامي انه لم يحدد ألبسة بعينها للمسلمين والمسلمات فالرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم كانوا رجالا ونساء يلبسون لباس قومهم وعصرهم وإنما حدد الإسلام قيما ومقاصد وشروطا- لعلماء الاسلام فيها تفصيل- وآدابا تشمل السلوك والهيئة وكل مسلم ومسلمة يقترب منها أو يبتعد عنها تبعا لقناعاته وهمته وأحواله فالإسلام يريد من أتباعه رجالا ونساء :

-  حسن السمت والمقصد والبعد عن الخيلاء والإسراف.

-  التحشم والبعد عن الشّبهات والإثارة دعما لوقاية المجتمع وسلامته.

-  الاندماج في المجتمع لئلا يظهر الفرد استثناء أو نشازا فالاندماج هنا نوع من التحشم والحضور العادي غير المثير.

-  الجمال والطهر في الباطن والظاهر غير المتعارض مع ما سبق.

وفي ضوء ظروفه يسعى المسلم أو المسلمة أن يقترب من هذه المقاصد والشروط والآداب على قدر الوسع، ولكل نفس ما نوت وما كسبت وعليها ما اكتسبت. وفي الخير الحسنة بعشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء, وأما في المعاصي فان الجزاء على قدر الذنب وعلى قدر انتفاء العذر وهذا المبدأ هو الناظم لفلسفة الجزاء في الإسلام في الدنيا والآخرة والله يغفر لمن يشاء وهو الغفور الرحيم.
ومن المخجل أن تصير في تونس قضايا من نوع هل يحق للمرأة وضع غطاء فوق شعرها ؟ وإن نعم فكيف؟
فهل يطوى هذا الملف وأمثاله نهائيا وهل تفتح الأبواب والنوافذ ليتنفس المجتمع والمواطن ملئ رئتيه وهل ينتصر التحلي بالموضوعية. والوسطية ولن يحصل التنميط في ظل الحرية, ولا الفوضى والتفرقة في ظل العدل, لن تضيع عروبتنا ولا إسلامنا ولا خصوصياتنا الوطنية لأنها روح الشعب وضميره ومزاجه وإنما ستثرى وتتجلى وتزداد حصانتها أمام أعاصير التفلت ومضايق التزمت.

– أثار البيان الذي أصدرته هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات، ردود أفعال متباينة في أوساط الإسلاميين وغير الإسلاميين، فما تعليقكم على تلك الردود ؟

لم اطلع على كل الردود. استفيد مما نشر في بعض المقالات من نقد وتقييم وتثمين ونصح وليس معنى ذلك اقتناعي بأي رد مهما غالى أو تعالى ، إن إحلالا الإيديولوجيا محل العلم أو الواقع يقود إلى خطاء التحليل والتعليل ، كما أن التشكيك أو التركيز المشحون على ما يقسّم أو يفرّق وتضخيمه بدل مد الجسور وتوسيع المشتركات لايقدم شيئاً لقضايا بلادنا. هذا البيان ينتظر أن تتبعه نصوص أخرى تتعلق بأسس النظام الديمقراطي وغيرها من المسائل فليس من الحكمة تحميله أكثر مما يتحمل فليس هو كل شيء ، فهيئة 18اكتوبر للحقوق والحريات عملت ومازالت تعمل من اجل المطالب الاساسية التي تاسست عليها وكذلك في مجال الحوار الفكري وكل ذلك في ظروف صعبة جدا لان خيار السلطة هو إفشال هذا العمل المشترك بكل السبل .هذه التجربة الصامدة عمل وطني يستحق دعم كل المناضلين لانها تجسد قدرة بلادنا على احتضان كل مكوناتها في تنافس على خدمتها لا احتراب معه ولا ظلم ، لو تستجيب السلطة لتطلعات الشعب للديمقراطية.

– السيد علي لعريض ، نشكر تفضلكم الإجابة على أسئلتنا ونرجو أن تُرفع التضيقات عنكم وعن غيركم من التونسيين لتعودوا جميعاً لإحياء العمل السياسي في تونس.