بقلم فوزي الصدقاوي

في مساء يوم السبت 22 سبتمبر كان لا يزال المقر المركزي بتونس للحزب الديمقراطي التقدمي عند الساعة العاشرة ونصف ليلاً يستقبل ضيوفه قادمين من كل صوب لمساندة المضربين عن الطعام : السيد نجيب الشابي الأمين العام السابق للحزب والسيدة مي الجريبي الأمينة العامة الحالية للديمقراطي التقدمي وكان وفد بنزرت من النشطاء الحقوقيين والسياسيين قد حلّ ركبه ، وتقدمت أفراده بإتجاه المقر المركزي حين على نداء دعا الجميع إلى إنجاد لطفي حجي الذي حُجز عند مدخل نهج إيف نوهال المتفرع عن نهج مختار عطية ، فقد منعه رجال البوليس السياسي من أن يَمُرَ…

أسرع الجميع ، القادمون من بنزرت والمعتصمون في المقر من أبناء الديمقراطي التقدمي و شبابه ليسندوا صديقهم وليجتهدوا في إقناع المسؤول الأمني أن ما يفعله والعشرات من رجاله مخالف للقانون وأنه لايحق لأحدٍ ،كان من كان شأنه ، حتى لو كان البوليس السياسي ذاته،أن يمنع ضيفـاً من أن يدخل إلى مقر الحزب الديمقراطي التقدمي .

لم يكن المسؤول الأمني مستعدٌ لأن يجيب عن أي سؤال. فليس بإمكانه كما قال:

* أن أقدم لكم أي تفسير عن سبب منعنا للطفي حجي.
* إذاً ليس لكم الحق أن تمنعوا عن مقرنا زيارة أي أحد، مادام الأمر يُنفذ دون مستند قانوني هكذا أجاب الشباب.
* لا تُـتعبوا أنفسكم، أجاب كبير رجال الأمن، فصاحبكم لن يَمُرَ، وسنمنعه من الوصول إلى المقر
* بل سيمر وليس لكم الحق في منعه .

لن يمر………. بل سيمر ………ويبدأ العراك

إلتف رجال الأمن حول لطفي الحجي يطوّقونه ويَمنعونه من التقدم ، فيما تعالت أصوات المناضلين في وجه البوليس: أن« إرفعوا أيديَكم عن ضيوفنا » ولم تلبث أن تشابكت ،وإلتحمت الأجسام متدافعة ، عشرات من رجال الأمن بعضهم يَسند بعضاً في طوق متماسك . أما في الطرف المقابل فأبناء الديمقراطي التقدمي وأبناء بنزرت كل بحسب جهده يجتهدون في نزع صديقهم لطفي الحجي من قبضة أعوان الأمن .

لم يكن المجال يسمح بالنقاش ولا كان يتسع للبحث في دواعي المنع إن كانت وجيهة..أوحتى مبررة ، فرجال الأمن لديهم تعليمات فقط وهي تعليمات خاصة ككل مرة بلطفي الحجي وبعض أصدقاءه الآخرين من عائلة 18 أكتوبر ،أن لا يمر.. وأن الأمر للتنفيذ وليس للنظر فيما إذا كان هذا السلوك يَعقِله عاقل أو يستسيغه صاحب ذوق.

أما نشطاء المجتمع المدني من أبناء بنزرت ومن شباب الديمقراطي التقدمي ، فقد طفح كيلهم ولم تعد أسباب البحث جديرة بتضييع الوقت لسماعها ، فقياداتهم الذين أعلنوا الإضراب عن الطعام ربما أدركهم الإرهاق وأعياهم الإنهاك خلال الأيام القادمة ، ثم مقراتهم أكثرها صارت مهددة بالإخلاء ، ومربع الحرية في بلادهم كما يشتهي أبناء الديمقراطي التقدمي أن يسميه ، يوشك أن يتهدده الإجتياح ، فلم تعد المسألة تستدعي البحث في أسباب المنع ولا هي تستوجب التعقل ليتدبروا سبيلاً للتفاهم ورجال الأمن لأجل ضيف قطع ورفاقه عشرات الكلمترات حتى يشد أزرهم و أزر قياداتهم المضربة عن الطعام … لم تعد المشكلة في فهم الدواعي والمبررات…

فأن يَمُرّ أو لا يمُرّ … تلك هي المشكلة …

فأن يَمرّ..إن مَرّ.. فإنه سيمُر إلى المواطنة الحقة حيث يُعَـبٍرُ ويَنتظم .

وأن لايمر ..إن لم يمرّ ..فإنه سيبقى إلى الرعية أنسب وإلى السجين مسلوب الحقوق والإنسانية أقرب.

فـبضع أمتار فقط هي كل المسافة التي تفصل لطفي حجي و رفاقه عن باب مقرالديمقراطي التقدمي ، والنزاع ليس إختباراً للقوة ، ولا ليّ للأذرع ولا هو كسر للعظم وإنما هو فقط إختبارٌ للإرادات .

فأن نمر…يعني أن نَفـتَـك الميدان من إحتكار السلطة وحزبها .

وأن لا نمر…يعني أن نُحْشَرَ في الزاوية ونُـلقِي الخُطَبَ على الجدران.. و«أَنْ نُـشَهّدَ فِي قُـلّـةٍ »كما يقول أباؤنا .

وأن نمر … يعني ..أن تنتصر إرادة الحرية فينا .

وأن لا نمر…يعني…أن نخذل كل أحلام اليوم و آمال المستقبل.

وحين نكون على حدود مربع الحرية، كما يشتهي أبناء الديمقراطي التقدمي أن يسميه، وحين نكون عند نهج مختار عطية فأن نمر أو لا نمر، ليس لها من معنى آخر غير أن نكونَ أحراراً….وإلا فبئس أن لا نكون .

لم يكن العنف سيداً هذه المرة ، حين حمى وطيس المشادة ، إذ لم يكن هناك من تعليمات لدى رجال الأمن لإستعمال العنف ، كما جاء على لسان أحد الأعوان ، ولكن تدافع الجميع ، مناضلون في مواجهة أعوان البوليس السياسي ، رفع المناضلون النشيد الوطني و تعال صياحهم ، وتعالت معه شعارات كثيرة ، بعضها تندد بالنظام السياسي وتدعوا إلى سقوطه هو ومحطته الإنتخابية في 2009 و بعضها الأخر ، ينادي بالحرية مساراً والديمقراطية خياراً ، ويَدِينُ« البوليسية» جِهازاً.. ومِلّة «الطرابلسية» نِحلةً ومِنهَاجاً .

لم يكن بعض قيادات الديمقراطي التقدمي( عصام الشابي …رشيد خشانة.. مثلاً..) ليرضوا أن يصيح شبابهم منددين بــالطرابلسية .. فالأمر خروج عن مألوف شعاراتهم…لكنه في حينها كان مخرجاً…فمثل تلك الشعارات ترهب البوليس و تبعث في نفوسهم الفزع ، وتنهار بسماعها قواهم ، ولو بقي لرجال البوليس بعدها من حيلة ، فليس لهم إلا التراجع والبحث عن مخرج لتهدئة الخواطر والنفوس وإسكات أصواتهم ،ذلك أن « تبوهات السياسة» قد إهترأت بفعل جراءة المناضلين الأشاوس، وسقط وقارها ، وأدرك المناضلون أن قَـرْض« تابوهات الطرابلسية» يوفر لهم وضوح المعنى ويحقق لهم المغانم في الحال.

أُطلق أسر لطفي الحجي ، وتراجع رجال الأمن عن مطلوبهم، فقد كانت الرهينة سيد الموقف هذه المرة وإنقلبت« سطوة البوليس » إلى فرجة على عتبات جادة مختار عطية بعد أن إستوقفت الجلبة و العراك بضع مائات من المواطنييين كما إستوقفتهم تلك الشعارات وذاك النشيد الوطني وقد أثلج صدورهم أن يروا عصبة من التونسيين ، تعلو أصواتهم في وجه رجال الأمن بما أخفت صدورهم وتُخفي ، وكَتمته أنفاسهم وتَكتـم .

« نمـر..أو لا نمـر» هي آخر صيغ النضال واقعية، وأكثر أساليبها سلمية..وأكثر مهماتها وضوحاً وجديّة .« نَمـرُ أو لا نَمـر» هي الصيغة الأكثر تعبيراً عن حقيقة التناقض الحاد الذي بلغه الصراع بين السلطة والمعارضة وأدركها عموم التونسيين البسطاء ، وهي أيضاً الصيغة الأكثر تعبيراً عن المهمة التي على طلائع الإصلاح أن يستلهموا منها المعنى والدلالة، ويتأملون فيها الأهداف والمهمات القادمة .

«فـنمر أو لا نمر».. تلك هي المعضلة حقيقة.