تطرح قائمة المناشدة التي أمضتها ” نخبة” من المجتمع التونسي لتطالب طويل العمر بمواصلة قيادة البلاد إلى آخر نفس من أنفاسه الزكية قضية في العمق .

هل نحن فعلا أمام آخر شطحات الدكتاتور للبقاء في الرئاسة إلى الممات بعد إلغائه الرئاسة مدى الحياة ؟ هل نحن أمام مناورة من مجموعة داخل النظام لقطع الطريق أمام ما هو أدهى من التأبيد التوريث أي ترشيح الحرم المصون ؟

هل نحن أمام إعداد ذكي للطريق أمام المنقذ الذي سيبرز علينا صباح يوم سعيد فنتلقاه بالترحاب وكل شيء أفضل من بقاء بن علي وعصابته في السلطة إلى الأبد …الشيء الذي يعني أن طبخ البدائل قد تقدم أكثر مما نتصور.

فرضيات سيردّ عليها المستقبل ، لكن بالانتظار يجب التوقف عند القضية الأخرى التي تطرحها عريضة المناشدة ففيها – وفي الردود الضعيفة التي تلتها – زبدة الأمراض التي مكنت عصابة حق عام من امتلاك تونس أكثر من عقدين من الزمان وربما امتلاكها لكثير من العقود القادمة.

إذن السيدات والسادة الممضين على عريضة المناشدة يتوسلون للربان الكبير بمواصلة قيادة الباخرة التي بدونه قد تتهشم على صخور الشاطئ أو تغرق بكل ركابها في اليمّ.

من أين أتت لهم هذه القناعة ؟ من خبرتهم الطويلة بالرجل …من معرفتهم بكم عانى وهو يعلن الحرب على التعذيب وتجاوزات البوليس التي وجدها عند استلامه للحكم …لإعجابهم بخطاب الرجل الشهير لما أعلن في بداية عهده طلاق زوجته وزجّ أخوتها في السجن عند اكتشاف فسادهم وتنبيهه الواضح لكل أعوان الدولة انه لن يقبل برائحة الفساد فما بالك بالفساد …للحرية التي عرفتها تونس في عهده…لحبه للحوار حتى مع أشرس خصومه …لتصرفه دوما كأب الشعب وممثل الدولة و فوق خصومات الأشخاص والأحزاب والموفق الكبير بين كل الأطراف …للسهر المتواصل لكي تصبح المؤسسات مسئولة حرة فعالة تخضع لتقييم داخلي وخارجي صارم والهدف أقصى الفعالية في خدمة الشعب …لتواضعه وسهره على أن لا تزين صوره أي مكان ، هو الذي وضع العلم في كل إدارة بدل صورة بورقيبة…للمكانة التي وضع فيها بلادنا عندما جعلها أول دولة عربية وإفريقية في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتطور الهادئ المتوازن !!!!!

كلهم يعرفون الحقيقة، فما الدافع إذن لإمضاء وثيقة ستحسب عليهم وستلاحقهم أحياء وأموات بالتهكم والازدراء ؟ طبعا الآفتان في كل مجتمع خاضع للاستبداد : الخوف والطمع.

مؤكد أن من بين الممضين من وضعوا أمامه الورقة وهددوه فلم يجد مناصا من الإمضاء . مؤكد أن من بينهم من رآها فرصة لبعض الفتات فلم يتردّد لا يهمه شرفه الشخصي أو مصلحة الوطن.

تصوّر لحظة أن الأغلبية الساحقة من التونسيين برئت فجأة من المرضين المشينين، سيدا وزهري الفكر والروح ، هل يمكن أن يتواصل حكم كالذي ابتلينا به يوما واحدا ؟

ثمة أيضا المرض الثالث وهذا تستشفه من بيان حزب سياسي يطالب بن علي “بالوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه عند اعتلائه سدة الحكم عام 1987 برفض الرئاسة مدى الحياة”

هل هذه المناشدة الأخرى ناجمة عن معرفة بصدق الرجل …بنزاهته…باستجابته في السابق لنداء العقل والضمير ؟ ألا يعلم من وراء هذا النداء أننا أمام رجل لم يوفي يوما بوعد ، أمام رجل كذاب ، يكذب كما يتنفس ويتنفس كما يكذب . على من يدجّلون إذن ؟

نحن هنا أمام مرض من نوع آخر : الواقعية السياسية لا بمعنى تشخيص الواقع كما هو ( أننا أمام رجل لم يفي يوما ولن يفي يوما بوعد …أننا أمام دكتاتورية عصابات حق عام لن تترك أبدا السلطة … ) لكن بمفهوم الاستكانة لواقع نحن عاجزون عن تغييره و يجب الاحتجاج عليه بالحد الأدنى لإثبات الوجود دون الدخول في مواجهة لم نستعدّ ولم نعدّ لها يوما.

بديهي أن عصابات الحق العام تستطيع مواصلة التأبيد والتوريث فلا خشية لها من مثل هذه النخب وهذه الأحزاب .

ما الأمل ؟ أن تعود يوما للتونسيين قدرة فقدوها منذ زمن بعيد : الغضب لشرف طال انتهاكه من قبل أناس لا يفهمون للمصطلح معنى

بقلم منصف المرزوقي