لماذا تعود ليبيا إلى خنق النظام التونسي والتسبب في موجة إحتجاجات تتواصل منذ أسبوع في منطقة بنقردان الحدودية في أقصى الجنوب التونسي؟ طبعا لن نضفر بجواب شافي عن حقيقة ما حصل و سبب حصوله و سبل تداركه من عند سلطتنا الوطنية فقد بقيت الأحداث الجارية في بنقردان ممنوعة عن التداول من طرف الإعلام الداخلي رغم تداولها من طرف مختلف و سائل الإعلام الدولية و قد جائت أول إشارة لهذه الأحداث في الصحافة المحلية بجريدة الصباح ليوم الثلاثاء 17 أوت  على لسان مصدر موثوق تحت عنوان : طرابلس تدرس الحلول الملائمة لتوريد تونسيين بضائع غير مدعمة من ليبيا.

و يتضح من أول وهلة أن المصدر الموثوق إما أنه غير مطلع على حقيقة الوضع أو أنه يسخر من ذكاء التونسيين و يحاول إستغبائهم. فما يهم التونسيين هو ما تقوم به دولتهم لحماية حقوقهم و ليس ما تدرسه طرابلس. فهو يقول لنا هنا بطريقة غير مباشرة أن السلطة التونسية تتخلى عن مشاكل يتعرض لها مواطنون تونسيون لتحلها سلطة أجنبية كما أنه يحاول إيهامنا أنه لا توجد قواعد تنضم التجارة بين تونس و أقرب جيرانها بحديثه عن « بضائع غير مدعمة ».

ولكن السبب الضاهر للمشكلة و الذي يعلمه الجميع لا يتعلق بتوريد تونسيين لبضائع غير مدعمة من ليبيا و لكنه يتعلق بوضعية لا قانونية حتى كادت تصبح  أساس العلاقات بين البلدين و تتمثل في تخلي السلط التونسية عن واجباتها تجاه جزء من مواطنيها بحيث أصبحوا يعيشون تقريبا على تهريب البنزين و البضائع المدعمة داخل الأسواق الليبية حتى صارو أكبر ممول لكامل سكان الجنوب و الذين تحول أغلبيتهم تدريجيا للعيش على حساب الدولة الليبية حتى ضاقت ذرعا بهذا العبئ الغير اليسير و أصبحت تحاول بين الفينة و الأخرى التخلص منه لتتحمل دولتهم مسؤولياتها تجاه مواطنيها و الكف عن التعويل على إعالتهم على حسابها.

و لا يكاد الوضع القائم على طول حدودنا الغربية مع الجزائر يختلف في شييء عما هو قائم في المناطق الجنوبية المجاورة لليبيا و تتصدر عناوين الصحف الجزائرية بشكل شبه يومي نتائج الحملات التي تقوم بها السلطات الأمنية هناك ضد التهريب كما تقوم السلطات الجزائرية بتشييد عشرات مراكز المراقبة الحدودية على طول الشريط الحدودي الفاصل بيننا لمواجهة هذا الوضع الشاذ. و يبدو هنا أيضا أن سياسة حكومتنا تقوم على إهمال مواطنيها و تركهم لتدبر شؤونهم عن طرق التهريب و التجارة غير المشروعة و لا تقوم بشيء لتوفر لهم مصادر الرزق الشريف الذي يحفظ كرامتهم و يكفيهم لتوفير حاجيات أسرهم.

و لعلنا لا نحتاج لدليل أمام المضاهر المستشرية لهذا الوضع في مختلف مدننا و أسواقنا و تحول شوارعنا إلى سيطرة المهمشين الذين تستغلهم عصابات منضمة أحكمت سيطرتها على مسالك التجارة و التوزيع حتى أصبحت التجارة الرسمية لا تكاد تصمد في وجه هذا التيار و توجهت نحو التعايش معه و الرضاء بالعيش على هامشه و حسب قواعده. و أصبحنا نشهد بكل وضوح خروج الشارع عن حكم القانون وسيطرة الدولة في أكثر المناطق حساسية و اكتضاضا داخل كل مدننا.

من الأكيد أن هذا الوضع خدم لسنوات طويلة مصالح النظام التونسي وأصحاب النفوذ داخله وقام بالأساس على إستغلال الأوضاع الخاصة التي مر بها البلدين الشقيقين خلال المراحل السابقة و لكنه تطور كالسرطان عندما يغزو الجسم السليم ليهدد حياته من أصلها. فإلى جانب البطاقة البريدية التي يرسمها النظام عن إنجازاته و يفاخر بها تصدره مختلف مؤشرات التنمية في المنطقة نسي أنه تخلى قسم كبير من البلاد فتحول ليصبح « بلاد السيبة »(1) و ليعيش خارج الحساب دون أن يقرأ له أي حساب.

كما نسي النظام التونسي أن أوضاع المنطقة تحولت جذريا في السنوات الأخيرة و لم تعد تعمل لصالحه و أنه لسوء حضه محاط ببلدين يعتمدان نماذج للتنمية و الإقتصاد مناقضة تماما لنموذجه. و النتيجة الواضحة لهذه التحولات و التي أشرت عليها أحداث الرديف منذ بضع سنوات وكشفتها أحداث بنقردان حاليا بكل وضوح تتمثل في خروج وسائل السيطرة على إستقرار الوضع الإجتماعي الداخلي في جزء كبير منها من يد السلطة و تحكم دول أجنبية فيها و إن كانت دول شقيقة مثل الجزائر و ليبيا و هو وضع وضع البلاد حاليا في وضعية ضعف إستراتيجي تجاه أجوارها المباشرين لا تملك السلطة التونسية حاليا وسائل لتعديله إن لم نقل أنه وضع سيزداد تعمقا.

لقد بدأ يتوضح كما ستزيد الأيام القادمة توضيح ذلك بشكل أكبر إنهيار الإستراتيجية السياسية لنضام الإستبداد القائم حاليا في تونس و الذي بنى تحالفاته الإستراتيجية و خطته الإقتصادية بشكل كلي تقريبا على أساس الإعتماد على علاقاته مع القوى الغربية التقليدية دون الإهتمام بصلابة وضعه الإقليمي و الداخلي. فالعلاقة مع ليبيا و الجزائر حاليا تتجاوز بالنسبة لكثير من التونسيين من حيث أهميتها و انعكاسها المباشر على حياتهم أو على نمو مؤسساتهم علاقتهم مع النظام كما أن علاقة حلفائه الغربيين أنفسهم و أهمية مصالحهم مع الدول المجاورة لم تعد تقبل الموازنة مع علاقته بالنظام التونسي مع ما أصبح يرمز إليه من فساد و تسلط يثير الإشمئزاز داخلها. كما نعتقد أن الطريقة المهينة التي يحكم بها الشعب التونسي و يسام بها أحراره لا يمكن أن تخفي على أشقائه في دول الجوار و الذين يجمعه بهم أساسا و قبل كل شيء مصير مشترك لن يتحقق بالشكل الذي حلم به أسلافهم جميعا إلا بتكتلهم معا من أجل تحقيقه.

المختار اليحياوي – الإربعاء 18 أوت 2010

1- بلاد السيبة و بلاد المخزن ثنائية عرفها المغرب الكبير خلال فترات طويلة من تاريخه حيث لا تسيطر الدول بصفة فعلية إلا على جزء صغير من ترابها بواسطة المخزن بينما تبقى البقية بلاد السيبة