بقلم .بسام بونني

تكرّم صديق عزيز بالتعليق على مقالي الأخير على موقع “نواة”، “العدالة الانتقالية أو اللبنة الأساسية للبناء الديمقراطي” بالقول إنّ هذا المنحى قد يعرّض اقتصادنا للخطر ويشتّت الأذهان ويؤخّر أولويات الفترة الانتقالية. وبالتعمّق أكثر في التعليق، فهمت أنّ محدّثي لم يكن يعي حقيقة ما حصل طيلة العقود الماضية. وهذا يحلنا إلى مسألة جوهرية تتمثّل في واجب الذاكرة أي إعادة تشكيل الصورة القاتمة التي رسمتها الديكتاتورية بأجهزتها الأمنية ومؤسساتها السياسية.

في جانفي 2008، كنت أنتظر ضيفي في مطعم “البانتيون” في قلب روما. كان لا بدّ من ترتيبات أمنية لهذا اللقاء. فضيفي لم يكن شخصا عاديا. كان بينو أرلاكي مكلّفا بمهمّة خاصّة في فريق قاضي مكافحة المافيا، جيوفاني فالكوني. فأستاذ علم الاجتماع تكفّل بالاستماع إلى “التائبين”، أولئك القادة المافيويين الذين قرّروا التعامل مع أجهزة الأمن مقابل العفو عنهم وتوفير الحماية لهم. واختار فالكوني أكاديميا لأنّه كان مقتنعا أنّ “كوزا نوسترا”، المافيا الصقلية، لم تكن مجرّد عصابة إجرامية تنهب وتقتل بل هي دولة داخل الدولة. بل هي الدولة قبل الدولة في كثير من الأحيان.

سألت ضيفي آنذاك عن كيفيّة النيل من منظّمة سرّية متغوّلة فأجاب : “هناك مبدأ في التعامل مع هؤلاء ننطلق منه في أبحاثنا وتحقيقاتنا وهو بسيط : لا يمكن تحقيق ثروات كبيرة في وقت قصير وبإمكانيات متواضعة”. ويضيف :”أسقط هذا المبدأ رؤوسا كبيرة”.

في عام 1986، انطلقت محاكمة ضخمة مثُل خلالها أكثر 475 عضوا في “كوزا نوسترا” انتهت بعد عام بإصدار أحكام بالسجن تجاوز إجماليها 29 ألف عام.

لكن، استوقفني في حديث أرلاكي إشاراته المتكرّرة لضرورة إعادة تركيب الأحداث وجرد الجرائم والضحايا وهو ما أقنع، حسب محدّثي، السلطات الإيطالية آنذاك بتقديم صكّ على بياض لفريق فالكوني حتّى يواصل عمله مهما تطلّب ذلك من إمكانيات ومن وقت.

تحقيقات ضبابية

خطورة المشروع الذي انكبّ عليه فالكوني ورفاقه فرض عليهم السرية التامّة إلى أن بدأت معالم تحقيقاتهم تتّضح عام 1984، حين اعتقل تومازو بوشيتا، أحد قادة “كوزان وسترا” في البرازيل وقبِل بالتعامل مع فالكوني.

في تونس، لا تقتضي التحقيقات في جرائم النظام السابق وتجاوزاتها كلّ هذه السرية. فالمحاسبة هي من النتائج الطبيعية لأيّ ثورة. بل إنّ أيّ ثورة تقوم بعد تراكمات من الفظائع التي تُرتكب في حقّ الشعوب، مهما كان حجمها أو طبيعتها.

كما أنّ وجود أسماء مشبوهة داخل مختلف اللجان التي تمّ تشكيلها لتقصّي الحقائق عن العهد البائد يطرح إشكالية مصداقية عمل هذه اللجان وحتى الهدف من تشكيلها.

وإلى حدّ كتابة هذه السطور، تصوم الحكومة المؤقتة عن أيّ تصريح بخصوص التحقيقات الجارية، بينما تعمد إلى بثّ بعض التسجيلات والصور التي من الممكن وصفها بالجماهيرية، كإظهار أموال ومجوهرات في قصور الرئيس المخلوع أو إذاعة لقطات لوزراء يُقادون للمحكمة.

يأتي ذلك في الوقت الذي تؤكّد فيه عديد المؤشرات أنّ قطاع واسعا من الشارع التونسي ليس واعيا بحقيقة ما حصل خلال العقود السابقة. فبالكاد يرى أنّ تونس كانت تحكمها عصابة تسرق وتنهب فتغيب عن هذا التمثّل للنظام السابق آلة القمع والتعذيب والتقتيل.

أين الحقيقة ؟

وفي خضمّ الجدل السياسي وتعقيداته، مازالت أُسَرٌ وعائلات تتجرّع مرارة ما عاشته طيلة الفترة السابقة بعد أن امتحنت في أب أو أمّ أو ابن أو بنت، بينما لا تفارق آخرين ذكريات مؤلمة لحبس تعسّفي أو تعذيب أو اغتصاب أو مراقبة إدارية.

ومن حقّ هؤلاء التعويض ماديّا ومعنويا، على أن يشمل ذلك انخراطا شعبيا في مشاركتهم آلامهم. ومن الممكن المبادرة بهيئات ولجان للمصارحة وتفريغ كبت دام لعقود. فهناك الآلاف من التونسيين ممّن تألّموا بصمت ولم يستطيعوا ولن يستطيعوا إسماع أصواتهم في قناة أو إذاعة أو صحيفة حتّى ولو من باب التفريغ.

والبناء الديمقراطي الذي تساهم العدالة الانتقالية بقسط كبير، على الأقلّ أخلاقيا، في تحقيقه يفترض المصالحة بين أجهزة الدولة والمواطن. وبالتالي لا مفرّ من الحقيقة.

توظيف غير مسؤول

بيد أنّ ذلك يفترض أيضا الترفّع عن الانتماءات السياسية والإيديولوجية والانصهار في مشروع للمصالحة الوطنية. فأحزاب وقوى عدّة تزعم معاناتها أكثر من أيّ جهة أخرى. وإن كان في هذا الزعم جانب من الصحّة، فإنّ لا أحد باستطاعته أن ينكر أنّ نظام زين العابدين بن علي كان يساوي بين الجميع في القمع، لأنّه كان يتعامل مع المواطن على أساس عدائي إلى أن يُثبت هذا الأخير العكس بتقديم التنازل تلو التنازل والخدمة الدنيئة تلو الخدمة الدنيئة.

بل إنّ اعتراف جميع القوى السياسية الوطنية بمعاناة بعضها البعض سيساهم حتما في تخفيف حدّة العدائية والكراهية الدفينتين التي تطبع العلاقات بين جزء كبير من مكوّنات مشهدنا السياسي.

الذاكرة واجبًا

وعليه فإنّ على الجميع التحلّي بالمسؤولية حتّى نعيد تركيب أحداث الفترة السابقة والانكباب على إعادة بناء الدولة التي تتّسع للجميع. ويستوجب ذلك التزاما أكبر من الحكومة المؤقّتة في فتح الملفّات ووضعها على ذمّة القضاء والإعلام والمؤرّخين. ولأنّ ما نصنعه، اليوم، ستذكره الأجيال المقبلة، غدا، وجب العمل جدّيا على إماطة اللثام عن معاناة المواطن التونسي طيلة عقود، حتّى لا يُخيّل لأبنائنا وأحفادنا أنّ ما عاشته البلاد في ظلّ الديكتاتورية كان مجرّد صفحة رمادية لم تترك أثرا ولم تطبع قلوبا ولا تُقارن بأيّ شكل من الأشكال بما عانته شعوب أخرى.

إنّ التهرّب من واجب الذاكرة قد يودي بنا إلى إجابة أرلاكي عن سؤالي له عن أسباب نجاة “كوزا نوسترا” من الضربات الموجعة بقوله : “لا أعلم ولا أفهم”. فقد قُتل فالوكني وبعده بأسابيع زميله وصديقه باولو بورسيلينو. لكن، بقيت “كوزا نوسترا”. وتلك نهاية لن نرضاها لتونس ما بعد الثورة لا في الشكل ولا في المضمون.