Les articles publiés dans cette rubrique ne reflètent pas nécessairement les opinions de Nawaat.
crédit photo: ennahdha.tn
في مقالات سبقت، أشرت إلى أن علم الإجتماع الفهيم Sociologie compréhensive يرى أنه لا مناص اليوم في عصر ما بعد الحداثة من سياسة تعنى بتنمية المشاعر Culture des sentiments، وهو يؤكد أن القانون الذي تتجه نحوه البشرية هو قانون الأخوة Loi des frères، وبينت ما لهذا القانون من شديد العلاقة بالأخوة الإسلامية، والمحبة التي عبر عنها الصوفية خير تعبير لها، وهما شكلان هامان من ديننا تتبني حركة النهضة البعض من جوانبهما أو تدعي ذلك.

وبما أن حزب النهضة يعقد اجتماعه التاسع وقد اعتلى سدة الحكم بتونس، فإنها لفرصة سانحة للعودة لهذه الآراء لمقابلتها بما أفرزت تصرفات الحزب الحاكم من تناقضات وتساؤلات. ولعل السؤال الرئيس هنا هو الآتي : هل يا ترى حزب النهضة، في الفترة القليلة التي مضت في معترك السياسة على أعلى مستوى، قد تمعن في مسؤوليته كربان لسفينة تونس نحو الأفضل أم هو ماض في سبيله التي مهدت لها سنوات الجمر والصراع ضد النظام السابق الذي أطاح به الشعب في انقلابه الشعبي؟ فذاك السبيل يتميز بالاعتقاد الجازم أن النهضة تمتلك الحقيقة وأن تونس طينة يجب أن تعجن حسب نمط الحزب في فهمه للإسلام الذي يبقى ضيقا وإن وُسع شيئا ما؟ فما يكون الأمر اليوم وبأي حال يعود مؤتمر النهضة الحالي؟

تنمية المشاعر :

إن كل شيء في بلدنا، ونرى هذا خاصة مع شمس فصل الصيف، حرارة مادية ومعنوية، والحرارة علامة الحياة وترجمان الأشواق.
وهي من باب تنمية المشاعر ونظام المحبة، وهذا الأخير لهو، بلا منازع، إسلامي إذا جعلنا من ديننا ذلك الدين الكوني الذي ركيزته الأساسية نظام محبة الخالق لخلقه. ولكن ماذا نرى؟

إن نساء النهضة ورجالها يركبون مطية الحنق والغضب ضد طريقة عيش ونمط حياة شعب فتح لهم ذراعيه مرحبا وعلامات الحب الصادقة تعلو محياه؟ فهل هكذا يعامل الضيف مضيفه والحبيب حبيبه؟
نعم! إن أعداء النهضة كثر وعظمهم يعمل على إفشال مساعيها، بما فيها تلك التي تسعى إلى التوافق، سواء أكان ذلك من باب القناعة والصدق أو من جانب السياسة والمغالطة السياسية!

ولكن هل من عظمة لأي نجاح يتم دون عراقيل؟ وما يميز ديننا الذي تستقي النهضة منه برنامجها السياسي سوى سماحته؟ وما هذه السماحة إذا لم تكن نظام محبة؟
ثم لا شك أن البعض ممن يسعى لمصالحه الضيقة قبل صالح الشعب، وإن ادعي العكس، يريد أن تكون تونسنا اليوم بمثابة المتجر حيث يحلو البيع والشراء فتغدو الأخلاق فيه، كل الأخلاق، أي تلك التي تضمها منظومة علم الآداب، مجرد بضاعة في سوق الرأسمالية الرابضة على دنيانا بكلكلها الثقيل وقد فسح لها المجال إنهيار الشيوعية.

أنا لا أعادي البتة النظام الرأسمالي ومناصريه لأني أنادي بنظام محبة شامل، ولكني لا أناصر استغلال الإنسان لأخيه الإنسان حتى وإن كان ذلك باسم الحريات لأن الذي لا يستحي يفعل ما يشاء.
ومعروف أيضا أن النهضة لا تفعل ذلك كذلك، ولكنها باسم محاربة الغلو في مثل هذا التوجه تغلو في توجه معاكس هو قتل للحريات لا حماية لها.

إنه لئن كان من السهل إخضاع تطلع هذا الشعب لمزيد من الحريات إلى توجهات إستهلاكية صرفة باسم فهم خاطيء للحرية، فليس من السهل البتة أن تُفرض عليه منظومة تسلب له حريته أو ما بدا له كذلك كما تسعى إليه النهضة أو على الأقل العديد من مناصريها.

لأن الحرية الحقة هي تلك التي لا تنفي التمسك بالمباديء السامية واحترام حرية الآخر، بل تفرض ذلك، فهي من المقدسات الحقيقية، حتى لهي تأتي قبل المقدسات الدينية المعروفة لأنها تحترم الذات البشرية، وتلك بلا شك أعلى ما يقدس!
فالله خلق الإنسان ليعبده؛ لذا حمل الأمانة وشرف خالقه بعبوديته له والإسلام له دون أحد غيره، وتلك حريته المطلقة ومدار ضرورة حماية شخصه وتقديس عدم المساس بذاته لأن المساس بها مساس بحرية تقديس الله وعقلانيته.

فهل فهم حزب النهضة هذا وتمعن في مغبة الرمي به عرض الحائط؟ هلا أدرك نساء النهضة ورجالها أن الإيمان الحقيقي بالله لا يفرض فرضا، بل هو ينبع من القلب بكل طلاقة وحرية، وأن الحرص على مجرد مظاهره لهو من المراءات، وهذا ليست من الإسلام في شيء؟

هلا حرصوا إذن على محبة الشعب كما كان ذلك منه نحوهم فعملوا على التودد له بخدمة مصالحه وحاجياته دون المساس بحرياته وطلاقة فكره؟

إني أقولها لك صراحة، وبكل محبة، في أول يوم من انعقاد مؤتمرك، يا حزب النهضة : إنك إذا لم تحب الشعب كما أحبك، أي كما هو، بخصاله وهناته، فابتغيت فرض رؤياك للحياة والدين عليه بالقوة، فسوف يلفـظك قبل أن تنجح في التجنى عليه بمسعاك، لأن الشعب التونسي متعلق شديد التعلق بحريته، ومحبته الحقيقية هي في حبه كما هو وتنمية المشاعر لأجل ذلك.

فالشعب إذ أحبك فصوت لك، فقد كان ذلك منه من باب تنمية مشاعر الإخاء والود، فرآك الأفضل للوفاء بهما. ولكن ها أنت لا تحب إلا نفسك فتجهل أو تتجاهل ما ينتظره حقا منك الشعب من تدعيم للحريات وقطع تام مع الماضي وتصرفاته المشينة؛ وها أنت تسعى باسم مفهوم خاطيء لسماحة الدين لا إلى إشاعة مشاعر المحبة والأحاسيس النبيلة، بل إلى تنمية مشاعر البغض والكراهية بتصرفات دغمائية وتوجهات تقزم من مباديء الديمقراطية الحقة عوض التوسيع فيها حتى تكون تونس دوما المثال الذي يحتذى والمنارة التي تنير في دجى الظلمات!

نظام المحبة :

لقد كنتُ عبرت، في المقالات التي أشرت إليها سابقا، عن قلقي لما دعوته بالألزهايمر السياسي الذي أرى النخبة التونسية تعاني منه؛ وبما أني أنصح في كتاب لي خصصته لهذه الآفة بمعالجة هذه الشيخوخة المبكرة بما سميته المعالجة بالقبل Bécothérapie فإني أرى الشيء نفسه للسياسيين، وذلك بالمناداة إلى ترسيخ نظام المحبة Ordo amoris في نطاق السياسة الفهيمة Politique compréhensive التي أدعو إليها بربوع بلدنا في فترة مابعد الحداثة التي أظلت بعد علينا والتي تضل فيه مسألة تنمية الأحاسيس ومشاعر المحبة من أهم المسائل فيها.

وأنا لست الأول الذي يدعو إلى مثالية المحبة كسلاح سياسي، فقد سبقني إليها عندنا من أشاطره الإسم ومسقط الرأس : فرحات العظيم.
لقد قالها فرحات حشاد فلم يتعلمها منه سياسيو هذا البلد : أحبك يا شعب !
ولعله من أغرب الغرابة أن يصل الأمر بأحد ممن يقدم نفسه على كونه من أبناء حشاد، لنشاطه النقابي، أن يجاهر بكرهه لبعض التونسيين، بل بالإجرام في حقهم بالدعوة الصريحة إلى ما لا يعقل التصريح به لأن السياسة ليس لها الحق أبدا في الدعوة إلى القتل، حتى وإن كان معنويا!

فمثل هذا الأمر، وإن قيل على مستوى المجاز وكان جائزا في عرف السياسة القديمة، لا مجال له البتة اليوم، وبخاصة في بلاد الإسلام، إذ الموت بيد الله يأتيه متى شاء وحين يشاء لمن يشاء من عباده، بما فيهم الظلمة.

وهاهم رجال النهضة ونساؤها يسعون جاهدين لأسلمة البلد علنا أو خلسة دون أن يدركوا أنهم بذلك يعجلون بنهاية قصة الحب التي جمعتهم مع الشعب. فالشعب لم يأت إلى النهضة لمسعاها الديني، بل لبرنامج انتخابي تميز بعلامات صريحة والتزامات بينة جاهرت بمحبة لأبناء الشعب وتفهم لرغباته؛ فأين كل ذلك؟ أذهب هباء وراء زخرف الحكم؟

ثم كيف تنسى النهضة واجباتها من منظور الأخلاقية الإسلامية نفسها فتسعى للتنظير لما يفرق شمل هذا الشعب ويزرع الفتنة بين أفراده، لا فقط تلك الفتنة المزعومة في الاعتداء على المقدسات الدينية بل الفتنة الحقة التي تتمثل في خرق المقدسات الديمقراطية ودوسها؟

إن الحياة ببلاد الإسلام حياة محبة المسلم لأخيه المسلم، حتى وإن أخطأ، وبالأخص أيضا لأخيه غير المسلم أيا كان معتقده. وبما أن الإسلام دين وسياسة، فالسياسة تكون أيضا ببلاد الإسلام نظام محبة.

لذا، فالسياسة الحقة اليوم، كما قالها فرحات العظيم، لهي محبة الشعب، كل الشعب بجميع أصنافه وأطيافه، المسلم فيه واليهودي والمسيحي، المتدين فيه والسفيه والفاسق، السلفي فيه والعلماني، المتشرق فيه والمتغرب، المتزمت فيه في دينه والصوفي والملحد، الملتزم بتصرف جنسي عادي والمتوجه لتصرف غير عادي موافقا تمام الموافقة لطبيعته وذاته اللتان جعلهما الله فيه؛ فهل مدبر غير الله لأمور خلقه؟

إن تونس الجميلة كما تغنى بها شاعرنا الكبير الشابي هي رائقة الجمال بتنوعها وتعدد مشارب بناتها وأبنائها، وذلك هو الذي كوّن ويكوّن نبوغ التونسي وعبقريته، مما جعله محط أنظار العالم منذ القدم؛ وهوذا اليوم المثال الذي يحتذى في ربيع عربي فاتحة لربيع للإنسانية جمعاء.

إن الشعب التونسي لفي حاجة الآن إلى نخبة سياسية تكون بحق في خدمته فتحاكي بذكاء، في تعاطيها مع السياسة، ذكاءه الفطري ولمعان ذهنه المتوقد.
ولكن ما نراه اليوم على الساحة السياسية ليندى له الجبين!
فهذا يحفر الحفرة لأخيه لأنه علماني، وذاك يطمس نور الحقيقة الجلية بغربال، والآخر يدجل ويشعوذ والأخرى تنقض كامل يومها غزل ليلها ! حتى من كان يتغنى بليلاه آمنا في هذه الربوع أو ذاك الذي اعتاد أن يهيم على وجهه مع جنّيه في رحاب هذا البلد المضياف أصبح يخاف على نفسه من كل كلمة حب يتفوه بها أو نغمة نشاز يهمس بها له رئيّه!

فهي ذي الدعوات للقتل تتوالى باسم الدين، وكأن الإسلام أصبح مؤسسة إرهابية وهو أصلا محبة ورحمة! وهوذا شرف الرسول الأكرم وسمو قداسة ديننا الحنيف معرضان في نظر البعص للتدنيس لمجرد أي هراء أو خور، بينما علوهما لا تطاله أي شائبة، إذ مهما علت الشوائب فإنها لتنتهي بالسقوط على أصحابها دون أن تضير شيئا لا الإسلام ولا نبيه الأكرم! وهاهم رجال الشرط، وكأن ليس لهم غير ذلك من عمل، يدّعون السهر على راحة الناس بإقلاقهم بمراقبة الهويات والتلصص على الحريات، تماما كما كان الشأن تحت نظام المخلوع!

إنها لقواصم للظهر في بلد يدعي إحياء الانتماء إلى الإسلام فينسى أن ديننا هو أساسا حرية واحترام حرية الغير. فأين وعيك بدينك الحق، يا حزب النهضة؟
أفلا تنهض لفهم صحيح للإسلام، ذلك الإسلام التنويري الذي تتجاهله تصرفاتك ولا الإسلام الظلامي الذي تلهث وراءه وكأنك تتمارى مع ألد أعد الإسلام اليوم، سلفية الأباطيل؟

إن من يدعي الدفاع عن الإسلام ويتخذه مطية لأهوائه الخاصة، وبخاصة تلك التي تقطر بغضا وكراهية، لمثله كمثل من يتخذ من الإسلام هزوءا ولعبا. فالكل سواسية في الإساءة للإسلام، إلا أن بعضهم أشد ذنبا من بعض لدعواهم نصرة الإسلام؛ فهم يذنبون في حقه مثنى وثلاث، إذ يطمسون سماحته ويعتدون ويفسدون عوض الترفع عن البذاءة ومشاركة الآثمين إثمهم.

فهل نصيخ السمع إلى نهيق الحمار ثم نضم صوتنا إليه على كراهة صوته؟ أو يُنصت العاقل منا إلى غير العاقل وقد قصر الذهن به عن عبقرية الإسلام وبلاغة دعوته؟ أليس الأعقل والأصح في ديننا الدعوة بالصلاح لمن أخطأ وإسداء النصيحة له بالحرص على تقديم المثل الطيب مع الاحترام الكامل لرأي الآخر والرأي المخالف أساسا؟

وما هذه السياسة التي تدلون بها، يا سادة القوم، وما هذه الكياسة التي تتبجحون بها، والسيد الحق في عرف البلد ليس من ساد غيره كما يدعي البعض، بل هو من خدمه ورعى مصالحه، كل مصالحه!

ما هذا التصرف الذي يعفر وجه البلد النير بالتراب فتدعون الانفراد بالنضال ضد الدكتاتورية وقد جاهد غيركم وناضل ضدها بصمت، دون جلبة، ولم يكن نضاله أقل قيمة وأهمية من نضالكم؟ أنسيتم أن الشعب وحده هو الذي أنجح الثوة بالبلاد بانقلابه الشعبي على الطاغية؟

أما علمتم أن عار ما تفعلون لا يعود إلا عليكم لا على التونسي المعروف أبد الدهر بسماحة أخلاقه ورعايته لأنبل العادات وأقدسها، ومنها حماية المستجير وإعانة اللاجيء به إلى أن تثبت براءته أو يتوفر له حق الدفاع عنها؟ ألم تطالعو ابن قرقنة؟

الزعامة لمحبة الشعب :

لقد قالها فرحات العظيم وأبدع فلم يظاهي قيله ولا فعله أحد من بعده حتى ذلك الذي أسعفه الدهر بالتفرد بالتحكم في القلوب بتونس بعد اغتيال النقابي الكبير، فلم يسر على هديه إلا لإرساء نظام حكم يقدس لشخصه مما أهدر الفضل مما قدمه لشعبه من خدمات جليلة في أول سنوات حكمه.

إن الجيل البورقيبي يتغنى بأمجاد زعيمه ويحاكي تصرفه ناسيا أن أمجاد حشاد أعلى وأكبر، لأن حب الشعب الذي كان شعاره الأوحد هو الحب الحقيقي في السياسة الصادقة الناجحة، لا حب الذات والعمل على تمجيدها على حساب الأخرين، أصدقاء كانوا أم أعداء؛ فلا مجال للكره ولا مكان للأعداء في نظام المحبة الذي أراه النظام السياسي الأفضل لهذه البلاد.

ولم لا يكون كذلك والبلاد متعلقة بتراثها التليد، وهو يقدس المحبة، إلاهية كانت أم بشرية، لأن الإسلام بتونس إسلام صوفي، والمحبة الصوفية لهي أعلى درجة في المحبة؟

إن الإسلام بتونس صوفي قبل أن يمت إلى السلفية، فلا غرو أن الروح السلفية الحقة اليوم، تلك التي تعود إلى حقيقة الإسلام وروحه النيرة، لهي في الحقيقة أقرب إلى صوفية الحقائق من هراء سلفية اليوم، فلقد اعترف منظرو السلفية أنفسهم بعلو قدر وباع الصوفيين في الدين والدنيا سواء أكان ذلك من طرف ابن حنبل أو ابن تيمية.

ولعل شهادتهما في حق الصوفية هي من أكبر الدلائل على صحة ما أقول من كون أهل الصفاء اليوم هم البديل لدجل السلفية، فهم بلا منازع أهل الحقائق لا المشعوذة السلفية التي منها براء سلفنا الصالح في نقاء دينه وصفاء سريرته من كل كره وبغض وحنق على من خالف وابتدع، فربما هداه الله إلى الإبداع في الإسلام، إذ الإسلام ثورة دائمة وإبداع مستمر.

ويبقى هذا الدين الأغر أبدا متعاليا لأنه خاتم الأديان بحق، وذلك لنزعته العلمية الآخذة من العلم بأكمل ما فيه، ولكونيته التي تحترم الجنس البشري كله بشعوبه وقبائله، بنزعاته ونوازعه.

إن محجة الإسلام هي الدعوة إلى التي هي أحسن، والحسنى في الإسلام هي المثل الطيب والقدوة المثلى، فلا إرغام ولا ترهيب، ولا إكراه ولا إهدار كرامة. إذ لا يقاد أحد إلى الجنة مسلسلا ولا يرسل أحد إلى الجحيم بأمر بشري، ورحمة الله باقية ما دام في الإنسان رمق من الحياة من شأنه أن يهديه إلى السبيل السوي.

إن الإسلام لا يتنافى مع المباديء الديمقراطية الأساسية اليوم مثل منع عقوبة الإعدام وعدم تجريم أي عمل أو نشاط فكري وثقافي بدعوى كاذبة في الكفر أو تدنيس للمقدسات؛ كما هو لا يتنافى مع الحريات الشخصية مثل حرية المعتقد وحرية المشارب الجنسية أيا كانت. فخلافا لما يشاع ممن لا يعرف حقا دينه، لا جريمة قائمة الذات في القرآن لمن ارتد عن الإسلام أو كان لوطيا.

إن هذه السبيل ليست بجديدة، فقد توصل إليها منذ أمد بعيد الصوفي في مسلكه لابتغاء الفناء في محبة الله بتنزيه يده ولسانه عن كل ما يشين تلك المحبة، فهو يعلم أن الله كله محبة لا مراء فيها، فيعمل على حبه وحب خلقه وتحبيب الناس له، كل الناس، خاصة الكافر بنعمه عليه، وذلك بالعمل الدؤوب على هذا الدرب في سره وعلانيته، لأنه يعلم أن الله يراه حتى وإن لم يكن هو يراه.

ولا شك أن الشعب التونسي الأصيل كما مجده فرحات لهو في حياته اليومية من صوفية الطراز الأول، يسعى لمصلحته دون انتقاص لمصلحة غيره، فالكل سواسية في ابتغاء الأفضل. ويبقى هذا الأفضل الاحترام المتبادل للاختلاف والتنوع، حتى وإن بولغ في الخلاف والاختلاف ما دام مرد ذلك الحرية الشخصية دون الانتقاص من حرية الغير.

إن بإمكانك، يا حزب النهضة، وأنت تبدأ أشغال مؤتمرك الأول بعد أن اعتليت سدة الحكم، أن تصلح ما فسد مما فات من عملك وتعمل على لف الشمل التونسي حول إسلام بحق تنويري؛ وإلا فغض النظر عن مصلحة التونسي ولا تدعي خدمتها، فأنت عندها لست منها!

وإننا اليوم على أبواب شهر رمضان، وفيه فرصة ثمينة لمن سهى عن روح الإسلام الأصيلة للعودة إليها فيثيب لوعيه بالتمرن مع الصيام لا على الحقد والكره بل على قانون الأخوة، الإسلامية منها خاصة بمعناها المابعد حداثي.

فالخيار الأوحد اليوم ولا غيره، هو بين الإسلام التنويريي، (والصوفية، صوفية الحقائق لهي أفضل ممثل له) والإسلام الظلامي المتزمت (والسلفية كما نراها اليوم، سلفية الجاهلية ومن لف لفها، هي التي تمثله).

إن قانون الأخوة الذي أدعو إليه كل ساسة هذا البلد من شأنه أن يعوض بصفته الأفقية، حيث الكل سواسية، القانون السائد إلى اليوم في كل المجتمعات بما فيها الإسلامية، المبني على قانون الأبوة، سواء أكان هذا الأب هو الإلاه أو الدولة أو كل سلطة متعالية؛ فهو قانون عمودي متغطرس التعالي. وذاك هو الإسلام المابعد حداثي؛ وسيأتي الحديث عنه في الإبان.