Les articles publiés dans cette rubrique ne reflètent pas nécessairement les opinions de Nawaat.

إن من الحب ما قتل، فهو إذا كان من الشدة بمكان، يذهب بصاحبه إلى الغلو في كل شيء إلى حد القتل؛ والقتل هنا هو النقد اللاذع الذي هدفه ليس الانتقاد، بل الدعوة إلى عودة الوعي.أعتقد بكل صراحة، والكل يعرف ذلك، أني برهنت بما فيه الكفاية في مقالاتي هنا وهناك، خاصة بمدونتي التي تضم مجموع مقالاتي، على رحابة صدري وتفتحي بأن لم أتردد في تحية كل تصرف من قبل حزب النهضة يستحق الذكر، بل الثناء والشكر، حتى أسمح لنفسي اليوم بنقد ما أعتقده توجها إستراتيجيا خاطئا من طرف هذا الحزب وسياسة قصيرة النظر أقرها مؤتمره الأخير.

أنا لا أحكم بالظن ولا أعتد إلا بالأفعال، ما ظهر منها طبعا، ولكن أيضا ما بطن فخفي عن الأعين، وإن لم يغب عن حسية الواقع معتمدا على خلفية سياسية قوامها الظل الفعّال. وذلك طبعا ليس من الظن في شيء ما دامت هذه الأفعال أقرتها إرادة سياسية لا شك في ثبوتها حتى وإن عُتمت من باب المغالطة والتقية.

إن هذه القراءة الصادقة لما تمخض عنه مؤتمر الحزب الحاكم ليست بالضرورة من باب القطع معه بقدر ما هي فرصة الأمل الأخير في أن تثوب إلى الرشد النهضة أو البعض منها _ وعلى رأسها زعيمها الذي تتوجه إليه هذا الألوكة _ ممن بقي فيه الحب الصادق الذي يجمعنا لهذه البلاد وشعبها الأبي، فيقع الاكتفاء من نخوة النصر ونشوة الحكم بما حصل منهما، وهو بعد كثير.

إن خوفي، إن لم يكن الأمر كذلك، أن أرى النهضة عن قريب تجري لاهثة وراء النزر القليل بعد أن تكون أضاعت ما حصلت عليه من محبة ظنّتها أزلية في كل القلوب، فلم ترعها إلا في بعضها، قلوب من أعماه حبها وأصماه فغدا كالدواب تُقاد ولا تقود.
فالمحزن أن نرى البعض من مناضلي النهضة يحلو لهم أن تكون هكذا حال شعبنا، هذا الشعب الذكي الذي فرض حبه على من هو أعلى قدرا في النضال في هذ البلد من كل من يدّعي اليوم حمل رايته، مما حداه إلى التغنى به، فقالها صراحة : أحبك يا شعب!

إن هذا الكلام، وهو أولا وقبل كل شيء من الحب بمكان لمن تزعّم ويتزعّم هذا الحزب، لصادر عن ابن الشعب، ينصحه بذلك بكل صدق وأخوية إسلامية حقة. فلن يقوم بتونس، ما بل بحر صوفة، الحكم الثيرقراطي الذي يحلم البعض به في النهضة، خلافا لما تدعيه الأجهزة الرسمية، بينما أعمال مؤتمرها تؤكده، بل وتمهد له.

فتونس إسلامية بعد، وستبقي وفية لدين الإسلام؛ ولكن بعد إحياء جديد فيها لعلوم هذا الدين، وهو إسلام ما بعد الحداثة، الإسلام الثوري أبدا، التنويري بحق، أي إسلام يكون فيه القانون قانون الأخوة والنظام نظام المحبة.

إن إسلام تونس الغد لا كفر فيه ولا تكفير، ولا زندقة ولا ظلامية جاهلية باسم سلفية مرقت عن روح الإسلام السنيّة ومقاصده البهيّة فنست أو تناست حقائقه وهي جلية كنور الشمس، أبدا مضيئة، فلا تحجبها الغيوم إلا لفترة ولا تعزب إلا على من يتقي حرها إلى ظلال المغاور والكهوف.

فإلى أي إسلام تنظر النهضة وأيه تبتغي في قرننا الجديد وهي تناصب العداء للحريات الشخصية وتباغض البعض من المباديء الديمقراطة العالمية وكأنها امتلكت حقيقة غابت عن غيرها؟ أين روح الإسلام الثورية؟ أين سماحته وتسامحه؟
وأين السلام الموفور لكل من تظله ربوع الإسلام إذا خاف المبدع على نفسه، واختفى جزعا الشاذ عن قاعدة الجماعة، وهرب من لم يهده الله بعد إلى محجته، وهاجر من ضرب في الأرض، بحثا عن الحقيقة، يائسا من رحمة الله وغفرانه؟

أين الإسلام، وهو سلام، في هذه البلاد حيث المخلوق، باسم خالقه، يسمح لنفسه بقبض الأرواح، فيقتل ويقتّل، ويدّعي حماية مقدسات ما كانت أبدا بهشاشة القوارير حتى نخاف عليها من فسوة أو بعرة، خالطين بها دون علم ومعرفة درر ديننا ومرجانه، متجاهلين روح الإسلام الحقيقية ومقاصده، غافلين عن المفهوم الضيق الذي تقدمه لبلاغة نصه تصرفات هوجاء هي أقرب إلى تصرف النوكى منها إلى الحكمة والاتزان؟

أهذا هو الإسلام الذي تريدونه لهذه الديار، يا شيخنا العزيز؟ حتام وإلام نبتغي ديننا القويم عوجا؟ أين حجية العقل المتسامي، وقد مجده الله؟ وأين مباديء الحب والرحمة، وقد ذكّر بها منذ قرون خلت من عرّف الإسلام على حقيقته من صوفية الحقائق؟ أنهجر نهج سلفنا الصالح ونحن ندّعي إحياءه حيث لا نقوم، في مجال الأخلاق والتصرفات مثلا، إلا بإحياء تراث يهودي وتقليد مسيحي؟

فهل نحي غدا بتونس الجميلة التي شرعتها التفتح والتسامح ما كان من المسيحية في أقطار ليست بعيدة عنا من عنجهية كنيسية وتسلط ديني عبر محاكم تفتيش وتحقيق تعسفي؟
أهذا هو الإسلام الوسطي؟ فإن كان كذلك، فهو وسط بين ماذا وماذا؟ ولم يكون وسطيا وهو ثورة كله؟ هل يقضي الاعتدال التجاهل عن الروح الثورية للإسلام، وهي من روح العصر؟ فلم لا يكون متناغما مع روحه ومع عصره، إسلام ما بعد الحداثة؟

ليس الإسلام ما تدّعيه، يا مبارك! فلا تكن قصير النظر؛ بل كن مباركا في عملك، إذ أظل متعلقا بالأمل، ولو كان ضئيلا، في أن تقدم على إدارة دفة السفينة التونسية نحو بر الأمان ما دام في الوقت بعض المتسع.

فبعد أن جاهرت النهضة في مؤتمرها الأخير، ولو بصفة غير مباشرة، أن همها الأكبر هو البقاء بالحكم وأن عزيمتها في هذا الميدان لتفوق حقيقة رغبتها في إنجاح مسار البلد نحو الأفضل على كل الأصعدة، هل يتوجب على كل مواطن حر تونسي اليوم البحث عن البديل السياسي للنهضة؟

إن الهم الأساسي للتونسي الأصيل الذي لا يرى إلا مصلحة أبناء بجدته لهو العمل على أن لا تتواصل السياسة الحالية للبلاد التي بات من المؤكد الحكم على فشلها في التوجه نحو أفق المستقبل المفتوح. فهي تدير الظهر لكل ما تزخر به البلاد من ذكاء وطرافة وما يستحقه التونسي من كياسة فطنة وعمل دؤوب يجمع الشمل، كل شمل التونسيين بمختلف مشاربهم، ولا يسعى في التفرقة والفتنة، أو على الأقل في الاستفادة منهما .

لقد كشف حزب النهضة القناع عن حقيقة نواياه لتونس فأفلت الفرصة السانحة للدخول في التاريخ من بابه الكبير في خضم مؤتمره الذي أمّلنا منه أن يكون مؤتمر الأعراف السياسية المتعالية، فإذا به مؤتمر الفجاج ووديان السياسة القديمة التي أكل عليها الدهر وما زال يشرب على نخب من فاته قطار التاريخ ممن لا يحب صعود الجبـال ليعيش أَبد الدهر بين الحفـر، كما ذكّر به شاعر تونس الخالد.

فالنهضة، باكتفائها بعمل سياسي متواضع يندرج في مخطط هو من المفارقات التاريخية، إذ يتمثل أساسا في الدعوى المزعومة لأسلمة البلاد وإقامة دولة إسلامية، لهي تتصرف، ولا تشعر، مثل ضفدعة الحكاية المشهورة أو هي تقلد في مشيتها ذلك الغراب الآخر.
بل لعلها أيضا _ وهذا، ولا شك، أدهى وأمر من جانب من له حقا في الإسلام معرفة _ تنحو منحى من قال فيهم الله : ادخلوا هذه القرية مباحا لكم ما فيها من الطيّبات موسّعا عليكم بغير حساب، و ادخلوا الباب ركّعا، وقولوا : ركوعنا هذا لله حطّةٌ من ربّنا لذنوبنا يحط به آثامنا، نتغمد لكم بالرحمة ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه و نحط أوزاره عنه، فغيّروا قولا غير الذي أُمروا أن يقولوه وقالوا خلافه، إذ دخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبّة في شعيرة!

فهل نيأس، بعد هذا، من التوجه التنويري للنهضة ونوجه الآن كل عنايتنا للبحث عن بديل للشعب لمثل هذا السياسة؟

إن البديل ولا شك متوفر وهو ما يفرضه الوضع السياسي للبلاد وحال المجتمع في أصدق تجلياته وإن غابت عن أعين الرقباء وفهمهم. وهو، والحق يقال، لم يغب عن هواجس البعض من زعماء النهضة، إذ عبّروا عنه بصفة غير مباشرة في أعمال المؤتمر ووثائقه.

ولكننا لن نتحدث عنه هنا ولن نعجل به، إذ لكل مقام مقال، ولأننا نأمل خاصة أن تكون للحبيب المرسل إليه هذا المألكة هبّة وعي لما نعتقده يختلج في صدره من حب حقيقي لهذا الشعب أو، على الأقل، لما نريد المحافظة عليه له في فؤادنا من احترام لنضال سبق وصدق محبة لشجاعة أظهرها لأجل مبادئه.

إن سفينة بلدنا تتقاذفها اليوم الأمواج العتية، وهي أمواج المصالح الضيقة والنزعات الأنانية! ولكن تونس العزيزة ليست في مهب الرياح بقدر ما هي في يد المقادير. ولن تسعى هذه المقادير إلا لخير هذه الأمة.

فلتكن، يا شيخنا الحبيب، ذلك الخيّر المصلح الذي لن تعدم منه البلاد، ولتعمل على أن لا يكون الإفساد على يد من هم أقرب إليك من حبل الوريد!

ودامت لنا تونسنا الجميلة، كما تغنّى بها الشابي. وهي، ولا شك، بخير ما دام لها العاشق الولهان يسبح في لج الهوى أي سباحة. فأنا مثله، شرعتي حبها العميق، وقد تذوقت مرّه وقراحه؛ ولا أبالي… وإن أُريقت دمائي، فدماء العشاق دوما مُباحه!