المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

Rached Ghannouchi. Crédit photo AFP

بقلم فرحات عثمان

إنه من المفارقات الغريبة أن تطالعنا الأنباء بتصريحات لبعض الزعماء ممن ينتسبون لتيارات ومذاهب مختلفة ولكنها تتناغم أشد التناغم في الحديث عن وسطية مزعومة للإسلام. ومنها ما جاء في آخر تصريح للشيخ راشد الغنوشي زعيم التيار الإسلامي.

وبما أنه اليوم من الضروري عند مطالعة التصريحات النفاذ إلى ما تخفيه، لا الوقوف عند ما تجاهر به، فليس هناك أدنى شك في أن مثل هذه التصريحات التي تشدد على وسطية الإسلام ليست إلا للتمويه والمغالطة.
ولعل أكبر دليل على ذلك اتفاق الزعماء الحزيين، رغم اختلاف مشاربهم الإيديولوجية، على مثل هذا التعريف الذي هو في مفهومه أفرغ من فؤاد أم موسى.

فإما هو التعريف الصحيح المزعوم، وعندها ما الذي يفرّق حقا بين هذه التيارات المتنازعة ولماذا تواصل تناحرها على حساب الشعب؟ وإما هو هذا التعريف الخاطيء، أي الذي لا معنى له إلا المغالطة، وعندها إلام المغالطة ؟

وليس هو إلا من هذا القبيل في أفواه من اختلف سياسيا إلى حد التقاتل؛ فنحن نعلم أن هؤلاء الساسة يؤمنون بضرورة المخادعة للعمل السياسي، وقد أخذوا بالسياسة في مفهومها التقليدي المتقادم. فقبحا لسياستهم هذه التي أكل عليه الدهر وشرب!

إن كل مسلم حق يعلم أن الإسلام ليس بوسطي البتة، وإلا فهو ليس بذلك الإنقلاب الكبار الذي جاء به على عقلية مجتمعه وعالمه أجمع. فلولا أن ديننا كان ثورة عقلية حقة لما انتشر وتوسع في أنحاء العام في فترة وجيزة،ولما نما ودام إلى يوم الناس هذا!

فالوسطية لا معنى لها ولا قدرة على قلب المفاهيم الخاطئة رأسا على عقب؛ ولا شيء جاء به الإسلام غير الثورة، وهو الذي ميّزه عن سائر الأديان الأخرى، إذ كان بحق الدين والدنيا في نفس الآن.

وهو كذلك إلى اليوم، شامخا في علوه رغم الداء الذي ينخر عقول البعض من أتباعه، ورغم الأعداء الذين يتربصون له الدوائر من الخارج، وخاصة من الداخل في طوابير خامسة لا تحصى ولا تعد.

إن الإسلام ثورة أو لا يكون، وهو ثورة مستدامة عند كل مسلم حق، صدق في إيمانه، فأخذ بحق بكلام الله في معانيه ومقاصده لا في حرفه كما يفعل من جهل دينه، جاعلا من النص قيدا يلتزم به حتى وإن خالف روحه، فإذا هو كالصنم يعبده دون الله الذي يتمثل نوره وتتجلى قداسته في روح تعاليمه قبل نصها، وفي مقاصد شريعته قبل حرفها.

فالإسلام الحق هو هذه الثورة التي تجعل منه دين البشرية جمعاء في صلوحيته لكل زمان ومكان، وذلك بما يزخر به من تعاليم تحترم الذات البشرية وتقدس حرية الإنسان، ملتزمة بحقوقه، كل حقوقه، في كونيتها ودعوتها الجادة للاجتهاد والأخذ بما يصل إليه العقل البشري العالمي من فتوحات ذهنية.

الإسلام الصحيح هو ثورة مستدامة في هذا الاجتهاد الأكبر، الذي يطلبه من المؤمن، على نوازع نفسه حتى تتزكى كل يوم أكثر، فتُعمل العقل دوما وتشحذ الهمة لزاما، آخذة بكل ما يصل إليه العلم البشري دون تفرقة بين عربي أو أعجمي إلا بتقواه. والتقوى هي التزام تعاليم الله في مقاصد شريعته التي تمجّد الذات البشرية وتعلي من كعب العقل أي علو!

فماذا نرى اليوم؟ تعلقٌ باجتهاد سلف صالح كان من الروعة بمكان لعهده ومجتمعه، ولم يدّعي في شيء الأزلية التي نرى الفقهاء اليوم ومن ادعى الفقه يضفونها علىه وكأنه من قداسة القرآن؛ وليس ذلك إلا لقعوسهم عن العمل بما أمرهم به دينهم من الإجتهاد المتواصل واللامنتهي، لأن البشرية في نمو وتطور لا ينتهي؛ إذ تلك هي نواميس الله في خلقه.

إنه من التجني على السلف الصالح أن نرميه بما ليس فيه، فنجعل من رأي واجتهاد رآهما وصلحا في عصره هذا النصب الذي نعبده اليوم فنتقيّد بما يفرضه علينا تقديسا له – مع أنه لا تقديس إلا الله – في تصريف أعمالنا ودنيانا؛ فما هذا الذي جاء به ديننا الثوري!

إن ديننا يحتّم علينا الأخذ بقوة بكتاب الله وسنة رسوله الأكرم وإحكام العقل في تأويلهما حسب مقتضيات العصر الحاضر، لا حسب ما جاء به السلف لعصره وظروفه؛ فبذلك نقدس الله حق قداسته ونكرم سلفنا الصالح حق قدره!

أين نحن إذا من الإسلام الحق في التزامنا بفقه صلح يوما ولكنه في حاجة لمن يرتفع به أكثر عما استنبطه من أحكام على ضوء أنوار الفرقان المشرقه وتعاليم السنة السمحة؟ إننا نتجاهل بعنجهية حكمة ديننا في السهر على مصلحة الإنسان بالعودة دوما إلى مقاصد الشريعة التي تتلاءم، بدون أدنى شك، مع التطور الإجتماعي وتفتق الذهن البشري لما لا يفقهه إلا من يعمل بالفرض الإسلامي على دوام إعمال العقل في الشؤون البشرية.

إن الإسلام اليوم عند من يدّعي نصرته لهو كتجارة نفقت عند أهلها الأوائل ثم نام ورثتهم عن ضرورة العمل على تنميتها فإذا بها تكسد وتبور!

فليست التجارة النافقة في تمجيد طرق السلف ونجاحه في الوصول إلى الوسائل الرابحة لغزو سوق زمنه، إذ كم هي الطرق والوسائل التجارية التي تنجح اليوم وتفشل في الغد إذا لم تتطور فتتأقلم مع مقتضيات التجارة وأحكامها مع السهر المستدام على الجودة الأصيلة للبضاعة وتناسب الثمن معها بدون أي شطط!
إن الإسلام الوسطي لهو كالتجارة المتوسطة في سوق ارتفعت فيه المزاحمة إلى أقصى قدر من منافسة ليست دائما شريفة، فهي لا تنجح إلا إذا اعتمدت، بالإضافة لجودتها وثمنها المعقول وإن علا، على وسائل عبقرية تمكنها من كسب السبق دوما في مثل هذا التزاحم الحيوي المستمر.

فلا نجاح لتجارة إذا اعتمدت فقط على النوعية والثمن المناسب أمام المنافسة الشرسة المتواصلة لها من طرف البضاعة الرخيصة، العديمة الجودة؛ ناهيك عن تلك المزورة المصطنعة. فلكسب السبق دوما، لا بد لبضاعنتا أن تكون جديدة متجددة مع حفاظها على رونقها الأصيل وجودتها المعهودة! ولا شك أن كل ذلك يكمن في التزامنا بالثورية في التأقلم مع مقتضيات السوق، لا السوق الداخلية فحسب، بل والعالمية أيضا في هذا الكون الذي أصبح كالحي، إن لم يكن بعد حارة!

والحال نفسها بالنسبة لديننا الذي أمدتنا أحكامه بالوسيلة الفضلى والفهم الأمثل حتى يبقى هذه الثوة المستدامة الذي جاء بها، وهي الثورة التي يمثلها كدين أزلي التعاليم، خاتم للأديان كلها. فلنكرر ونقول أن ذلك لا يكون إلا باعتماد مقاصد الشريعة في فهم ديننا على حقيقته.

ولا غرو أن مقاصد الشريعة تلزمنا اليوم اعتماد كونية حقوق الإنسان في احترام مباديء هي في عالمنا من أسس كل ديمقراطية حقة، مثل التساوي التام بين الرجل والمرأة في كل الحقوق بما فيها الميراث، وعدم التفرقة بين عباد الله أيا كانت مشاربهم ومذاهبهم، بما فيهم اليهودي أو المثلي التوجه في حياته الخاصة، وعدم تقييد حرية الفكر والتعبير حتى وإن بدت مخالفة لما نقدّسه.

ذلك لأن المقدّس الحق لا يدنّسه أي شيء؛ بل نحن ندنّسه برد فعلنا المهلوس في التقليص من الحرية الفردية، إذ عندها نناقض حتما وننسف المبدأ المقدس الذي نعمل على الدفاع عنه، ألا وهو الحرية البشرية في الإسلام وضمان حرية الرأي والمعتقد!

فلينتبه المسلم الحق وليأخذ حذره من دعاة الباطل ممن يتكلم باسم الإسلام وقد غاب عنهم كنه ديننا الحنيف، أي ثورته المستدامة على كل ما تحجّر فينا من فكر وتصرف، فجعل قلوبنا كلها غل لبعضنا بعضا، وقد دعانا ديننا للمحبة والتسامح والتزام المثل الصالح في كل الحالات.

فهذا هو الإسلام الحق ولا شيء آخر، الدين الثوري، خاتم الأديان كلها في أزليته وسماحته وحبه للبشرية قاطبة! إن الإسلام دعوة حب وسلام، وهذه هي الثورية الدينية التي يمثلها في عالمنا الذي طغت عليه الأنانية والكراهية إلى حد سفك الدماء.فعالمنا لهو جاهلية اليوم، ولكل جاهلية إسلام للخروج من الظلمات إلى النور!