بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،
عندما اندلعت انتفاضة 17 ديسمبر، كانت المطالب الرئيسيّة واضحة وحاسمة؛ الشغل والحريّة والكرامة الوطنيّة، وعندما هرب بن عليّ كانت الرؤى موحدّة، على الأقلّ لدى الذّين كانوا في الشارع يخوضون معركتهم اليوميّة ضدّ أدوات القمع وهدفهم اقتلاع النظام السابق والقطع مع ما رسّخته منظومته من فساد وظلم.
ولكنّ، وبسرعة غريبة، غابت الأسماء وتداخلت الحسابات وسقطت المطالب الكبرى ليدخل الشعب في متاهة من المواقف والتصريحات و”الأسماء” الجديدة التي طغت على المشهد بعد 14 جانفي وكانت بمثابة قنابل الدخان التي حجبت الكثبر من المطالب الرئيسية للثورة وذرّت الرماد على العيون. ففي الوقت الذي كانت فيه البلاد تواجه تحديّات حقيقيّة على الصعيد الاقتصاديّ والأمنيّ والسياسيّ، طهرت على السطح “أسماء” هامشيّة أثارت اللغط والجدال في أوساط العامّة، وبدل أن تكون كلّ الجهود موجّهة نحو مسألة الديون أو الإصلاحات الاقتصاديّة أو المحاسبة أو محاربة الإرهاب، غرق المشهد الإعلامي في متابعة مظاهرة للمطالبة بتعدّد الزوجات، أو إباحة الزواج بقاصر أو مسألة النقاب وعنتريات بعض “نوّاب الشعب” في المجلس التأسيسي وشطحات السياسيّين وغيرها من “المشاكل” الوهميّة التي كانت بعيدة كلّ البعد عن مشاغل النّاس وهمومهم الكبرى.
المشهد الجديد والعنوانين الجديدة
تاريخ 14 جانفي لم يكن بداية لمرحلة سياسيّة فحسب، بل كان نقطة تغيير حقيقيّة في المشهد الإعلامي والسياسيّ في تونس على الصعيد الكميّ والنوعيّ، فبعد عقود من الكبت والقمع ومصادرة الحريّات، شهدت الساحة الإعلامية والسياسيّة طفرة من حيث بعث التلفزات والإذاعات والصحف الورقيّة والمواقع الإخبارية الالكترونيّة. كذلك كان الحال بالنسبة للساحة السياسيّة التي شهدت تأسيس ما يزيد عن 112 حزبا من مختلف المشارب والاتجاهات الفكريّة.
هذا الثراء الهائل كان من المفروض أن يركّز جهوده على تحقيق المطالب الأساسيّة الكبرى التي رُفعت منذ 17 ديسمبر، ولكن ما حدث كان مغايرا تماما، خصوصا بعد اعتصام القصبة 2، حيث بدأت القضايا الرئيسيّة التي طُرحت للنقاش تخبوا شيئا فشيئا أمام قضايا جديدة وشطحات تصدّرت المشهد الإعلامي واستأثرت باهتمام النّاس.
خلال السنتين الأخيرتين شهدت الساحة السياسيّة والإعلامية في تونس بروز العديد من الأسماء التي كان وجودها مكثّفا سواء في وسائل الإعلام التقليديّة أو شبكات التواصل الاجتماعي، حيث أثارت الكثير من اللغط والنقاشات. فكانت البداية مع عادل العلمي وجمعيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا الاسم الذي ظهر فجأة ليشغل الجميع بتصريحات وفتاوى ومشاريع اجتماعية وسياسيّة أقلّ ما يقال عنها أنها سطحيّة ومتخلّفة من قبيل الدعوة إلى تعدّد الزوجات وحزام العفّة واحتقاره للتعليم في تونس وعدم اعترافه بالشهائد العلميّة وغيرها من التصريحات التي خرجت لتثير الكثير من اللغط والنقاشات الجانبيّة.
تماما كنظيره البحري الجلاصي الذي نافسه في الرداءة والذي عُرف بدعاويه لخفض سنّ الزواج وتقنين امتلاك الجواري والذي استطاع أن يدخل المجلس الوطنيّ التأسيسيّ الموكل إليه سنّ دستور البلاد عبر شراء النوّاب. ويبدو أنّ المتلقّين من عموم الشعب قد ازداد نهمهم لمثل هذه الظواهر التي انحرفت بالمشاغل الكبرى للبلاد والنّاس إلى نقاشات عقيمة وجدالات جانبيّة في قضايا بعيدة عن الاستحقاقات الكبرى، فتواصل مسلسل الفقاعات الإعلامية بظهور أمينة “فيمن” التي استأثرت لفترة باهتمام النّاس عبر سياسة الاحتجاج بالتعرّي على طريقة فيمن وهو ما أثار جدلا واسعا في صفوف النّاس بين مؤيّد ومتحفّظ ورافض، بل وأصبحت قضيّة كهذه محلاّ للمزايدات السياسيّة وورقة في أيدي من عرف كيفيّة استخدامها لصالحه.
وفي نفس السياق دائما، لم يتغيّب السياسيّون عن المسرح الجديد وعن هذه الموجة التي طغت على المشهد الإعلاميّ، فكان لهم نصيبهم المتميّز من الحضور، ولكن ليس كنتيجة لمواقفهم السياسّة الحازمة أو انتصارهم لقضايا معيّنة، بل للمواقف الطريفة والمضحكة التي أثارت انتباه النّاس، فاستغلها التونسيون للتندر والترفيه بعيدا عن المشاكل الحقيقية التي يعانون منها، كزلّة لسان رئيس رابطة حقوق الإنسان وعضو رباعي الحوار عبد الستار بن موسى في الجلسة الأولى للحوار الوطني يوم 4 أكتوبر بقصر المؤتمرات عندما تلعثم وهو يخطب أمام الحاضرين فنطق عبارة « حمار وطني» عوضا عن حوار وطني، أو شطحات وزلاّت رئيس الجمهوريّة الكثيرة، بدأ بالتكرار الثلاثيّ لعبارات السلاّم، أو “لن يمرّوا”، مرورا بالنظرات الشاردة نحو السماء، أو “هنندبهم” وإطلاق العصافير ورميّ الورود في البحر وغيرها من التصّرفات التي تجاوزت معنى التواضع وكسر الصورة النمطيّة لتتحوّل إلى ابتذال وشعبويّة.
“نوّاب الشعب” بدورهم كانوا حاضرين بطرائفهم، ومن أبرز هؤلاء النائبة سنية بن توميّة التي أبدعت أكثر من مرّة في استخدامها للغة الفرنسيّة، أو دعوتها لتأسيس دار للقاء الشهداء والتفسير “الحرفيّ” لبعض المصطلحات كصياغة الدستور، وأيضاً النائب إبراهيم القصاص الذي لازمته الطرافة طيلة مشواره في التأسيسي، دون أن ننسى أخيرا وليس آخرا، النائب نعمان الفهري الذي أعلن أنٌ زوجته أعدّت «الروز بالفاكية » لمعتصمي الرحيل بباردو، كدليل لمناصرته هؤلاء.
قنابل الدخان ومشاكل في الظلّ
من الطبيعيّ أن تشهد الساحة السياسيّة بعض المواقف الطريفة أو أن تتناقل وسائل الإعلام “الشطحات” أو بعض التصريحات الشاذّة، ولكن الغريب هو أن تحظى بنفس أهميّة مآسي عدّة عرفتها البلاد خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بل وتتمكّن بعض الأحداث العابرة أو الآراء الشّاذة من تغطية مسائل وقضايا مصيريّة كواقع الحياة السياسيّة وقضيّة الشهداء ومسألة الإصلاحات الهيكليّة في القطاع العموميّ.
إنّ المشكلة الأساسيّة التي تنبع من التركيز على هذه الطرائف التي تشهدها الساحة السياسيّة والإعلامية تكمن في الدور الذي تلعبه مثل هذه الظواهر في تغطية المشاكل الحقيقيّة أو المحطّات الهامّة التي تتزامن وتلك الشطحات والتي يعمل الجانب الطريف فيها على إلهاء العموم عن حدث جدّي متزامن أو تغطية الأسباب الحقيقيّة التي تقف وراء “المهزلة”.
فلو تناولنا على سبيل الذكر لا الحصر، بعض هذه الفرقعات الإعلاميّة على السلّم الزمنيّ فسنلاحظ بسهولة تزامنها واستحقاقات كبرى تمّ تهميشها أو على الأقّل تخفيف ارتداداتها بعد أن طغت عليها إحدى الشطحات. ففي شهر ديسمبر من سنة 2012، كان العنوان الأبرز الهجوم على مقّر الاتّحاد، والفوضى الكبيرة وتراشق التهم والجدال الواسع حول من يتحمّل مسؤوليّة هذا الاعتداء، ولكن ما غال عن النقاشات هو السعي المحموم لضرب العمل النقابيّ الذي ظلّ دائما صمّام الأمان أمام تغوّل السلطة وحاضنة للعمل السياسيّ أيّام القمع. وفي الأثناء، كانت زيارة هيلاري كلينتون التي لم تلقى وسط هذه الفوضى الاهتمام المطلوب لما تحمله من دلالات سياسيّة وإستراتيجية، بالإضافة إلى معطى هامّ مرّ مرور الكرام ألا وهو تقرير مركز تونس لحريّة الصحافة والذيّ سجّل ارتفاع الانتهاكات ضدّ الصحفيّين وتزايد الرقابة، في تهديد واضح لأهمّ مكسب من انتفاضة الشعب التونسيّ، حريّة التعبير.
تماما كما حدث بالنسبة لقضيّة أمينة فيمن، والتي أثارت موجة كبرى من الاهتمام عند حضورها في القيروان إبّان مؤتمر أنصار الشريعة، لتتحوّل الأنظار من طبيعة هذا المؤتمر وأهدافه وطابعه الاستفزازيّ خلال فترة تصاعد خلالها الإرهاب بشدّة في مناطق عدّة في البلاد، إلى جدالات حول هذه الأخيرة ونقاشات بين المناصرين والمعارضين.
وتستمرّ سلسلة تلك الأحداث التي لعبت دور قنابل الدخان فحجبت الأهمّ وسطّحت المشاغل والقضايا الرئيسيّة، ولعلّ أبرزها وآخرها ما يحدث اليوم مع وزيرة السياحة الجديدة، آمال كربول، حيث ينصبّ كلّ الاهتمام على أخطاءها في اللغة العربيّة وبلاغتها في الانقليزيّة وصور ال Selfie في حين يغيب عن الصورة العامّة اعتصام أهالي الشهداء بعد الأحكام المشينة التي صدرت منذ فترة قريبة بحقّ وزير الداخليّة السابق ومدير الأمن الرئاسيّ عليّ السرياطي، ويبدو أنّ هذه الأحكام التي ظلمت الشهداء وذويهم قد بدأت تدخل طيّ النسيان أمام الجدل الآخر الذي أثارته الوزيرة والمتعلّق بدخول الحجّاج الاسرائليّين إلى تونس ومسألة تجريم التطبيع والتي تحوّلت اليوم إلى ورقة للمزايدة السياسيّة والحملات الانتخابيّة وأفقدها مضمونها الشعبيّ المحسوم.
ولا تتوقفّ ظاهرة الفرقعات الإعلامية عند مستوى التزامن مع أحداث يُراد تغطيتها، بل تشمل عمليّة تسطيح للوعي الجماعيّ ككلّ، فعندما يصبح أمثال عادل العلمي والبحري الجلاصي شخصيّات عامّة وضيوفا على المنابر الإعلامية، ينبغي هنا طرح تساؤل جادّ عن جدوى منح الكلمة لهؤلاء وعن الإضافة التي سيقدّمونها للمتلقّي؟ أم أن بعض وسائل الإعلام صارت تساير المزاج الشعبيّ وتبحث عن تحقيق نسب مشاهدة عالية بغضّ النظر عن المضمون والرسالة. فما يطرحه هذان الشخصان لا يعدو كونه تخاريف كان من المفروض تجاوزها في مجتمع خطى بعيدا في مسألة التعليم والثقافة.
من زاوية أخرى، ألم يسهم التهكّم والتناول السطحيّ لعديد “الطرائف” في تهميش قضايا مصيريّة وهامّة، فبدل التهكّم على إلقاء الرئيس المرزوقي للورود في البحر بعد غرق الشبّان التونسيّين “الحارقين”، ألم يكن من الأولى التركيز على سبب هذا الانتحار الجماعي وخلفياته الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وعمّا يدفع الشباب التونسيّ إلى المغامرة بحياته بعد أن ضاق ذرعا بالظروف المعيشيّة الصعبة وتفاقم البطالة؟
وهل أسهم التهكّم على شطحات النّواب في كبح جماح هدر المال العّام واستنزاف مقدّرات البلاد المنهكة أصلا؟ وهل تمّ الضغط جدّيا لإلزام النوّاب بأداء دورهم الحقيقيّ في صياغة الدستور والمرور من الفترة الانتقاليّة بأسرع وقت؟
كما أنّ الجدال القائم حاليّا حول وزيرة السياحة، يطغى على السؤال الأهمّ، وهو ما الذّي تحمله هذه الأخيرة من إصلاحات حقيقيّة وهيكليّة لثاني أهم قطاع استراتيجيّ في تونس، وفي خضّم هذه الجدالات، أين يسير ملّف الإصلاحات الاقتصاديّة وكيف سيتصرّف مهدي جمعة في ما اسماه بالواقع المرير للاقتصاد التونسيّ، تماما كما غاب الاهتمام بمصير عائلات الشهداء وأحكام المحكمة العسكريّة والاعتقالات التي تطال الشبّان الذين كانوا وقود التحرّكات الاحتجاجيّة التي شهدتها البلاد منذ 17 ديسمبر.
لا يمكن تفسير كلّ ما يحدث إلاّ بسياسة قنابل الدخان التي تحجب ما وراءها، ليصبح هؤلاء الذين سبق ذكرهم نجوما وشخصيّات عامّة، وتنحصر مشاكل البلاد في لفظ أو حركة أو في اسم، وتُنسى المشاكل الكبرى أو تغيّيب أو تتمّ معالجتها في الظلّ.
iThere are no comments
Add yours