بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،

تعتبر مسألة تملّك الأجانب قضيّة حسّاسة لدى العديد من الأطراف السياسيّة وموضوعا تتعامل معه السلطات بحذر حتّى قبل 14 جانفي 2011 نظرا لارتباطها بمفهوم السيادة الوطنيّة والإرث التاريخيّ الاستعماريّ الذي عانت منه البلاد طيلة 75 سنة. وبالإضافة إلى التعقيدات السياسيّة المرتبطة بهذه المسألة، فإنّ القضيّة تأخذ أبعادا اقتصاديّة واجتماعيّة نظرا لوضعيّة البلاد الاقتصاديّة المتأزّمة وتضارب الآراء والخيارات حول الخطوات الممكنة لتشجيع الاستثمارات الأجنبيّة كحلّ لهذه الوضعيّة الصعبة.

وفي هذا السياق، عقدت الحكومة يوم 02 ماء الفارط اجتماعا وزاريا برئاسة وزير الداخليّة تقرّر على إثره تقليص الآجال للحصول على رخصة الوالي من ثلاث سنوات إلى ثلاثة أشهر بالنّسبة للأجانب الرّاغبين في ملكية العقارات الخاصة بالسّكن بالأراضي التونسية، وهو ما أثار الكثير من الجدل حول توقيت هذه الخطوة ودوافعها وارتداداتها على المستوى الاقتصاديّ.

فما هو قانون تملّك الأجانب؟ وما هي ردود أفعال مختلف الأطراف المعنيّة حول القرار؟ وأخيرا ما هي الارتدادات الاقتصاديّة للمراهنة على الاستثمار الخارجي في قطاع العقّارات؟

قانون تملّك الأجانب والتعديلات المختلفة

منذ الاستقلال وعند صياغة دستور1959 سعت السلطة آنذاك إلى حماية الممتلكات وفرض قيود حمائية على تملّك الأجانب في تونس، وجاء القانون الصادر في 12 ماي 1964 ليحجر على الأجانب اكتساب الأراضي الفلاحية بتونس.

ثمّ نصّ القانون الصادر في 22 سبتمبر 1969 على أنه يمكن وبصفة استثنائية للأشخاص الطبيعيين الأجانب اقتناء قطعة أرض كمقر لهم وذلك بمقتضى ترخيص صادر من رئيس الجمهورية، واقتضى القانون الصادر في 28 فيفري 1959 أن اكتساب دولة أجنبية لعقار بتونس يخضع للترخيص المسبق لكاتب الدولة للرئاسة أي الوزير الأول.

ولعلّ من أهمّ الرخص الإدارية التي يمكن التعرض إليها في موضوع تملّك الأجانب في تونس هي رخصة الوالي رغم أنّ جهات إداريّة أخرى تتدخل في مراقبة التصرف في الملكية.

وتعتبر رخصة الوالي التيّ تمّ تعديل مدّتها مؤخّرا من أهمّ الشكليات الإدارية المفروضة على العمليات الناقلة للملكية العقارية باعتبار أنها تمثل أداة لإجراء رقابة عامة على مثل هذه التصرفات، ويحدّد المرسوم عدد 4 المؤرخ في 21 سبتمبر 1977 مجال تدخل رخصة الوالي ويجعلها مقتصرة على التصرفات التي تتم بين الأجانب بهدف منع الأجانب من التملك بالأراضي التونسية، كما نصّ قانون 27 جوان 1983 المتعلق بأملاك الأجانب المبنية أو المكتسبة قبل غرة جانفي 1956 على أن التصرفات الناقلة للملكية العقارية تخضع للترخيص المسبق لوزير الإسكان، لتصبح في ما بعد من اختصاص وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية بمقتضى القانون عدد 50 لسنة 1992 المؤرخ في 3 فيفري 1992.

غير أنّه مع مرور السنين وسعيا إلى جلب الاستثمار الأجنبي ودفع التنمية بالبلاد صدر منشور عن الوزارة الأولى عدد 40 عام 2005 ونصّ خاصة على حذف الترخيص المسبق للوالي بالنسبة لاقتناء أو تسوغ الأجانب للأراضي والمحلات المبنية بالمناطق الصناعية أو الأراضي السياحية، وهو ما يعني أن الإعفاء من رخصة الوالي لا يهم إلا العمليات العقارية التي تكون الغاية منها إنجاز مشاريع اقتصادية.

إذن لم يشمل التعديل الذي قرّره الاجتماع الوزاريّ سوى آجال منح الرخصة من 3 سنوات إلى 3 أشهر دون أن تمسّ جوهر القانون أو مختلف الإجراءات المتعلّقة به.

الحكومة والغرفة الوطنيّة للباعثين العقاريّين تحتفيان بالإجراء

هذا الإجراء الشكليّ حسب تعبير الحكومة أثار العديد من ردود الأفعال المتباينة والمختلفة بين مرحّب ومستنكر لهذا التعديل. فالحكومة وعلى لسان رئيسها مهدي جمعة، أبدت رضاها عن هذا الإجراء الذي اعتبره هذا الأخير أحد الخطوات المهمّة لتشجيع الاستثمار في هذا الظرف الاقتصاديّ الصعب الذي تعيشه البلاد، مشدّدا أنّ هذا التعديل اقتصر على التحديد الزمنيّ لا غير للملفّات التي تستوفي جميع الإجراءات.

ومن جهتها، اعتبرت الغرفة الوطنيّة للباعثين العقّارييّن هذا القرار “ثوريّا” كما صرّح بذلك رئيس الغرفة السيّد فهمي شعبان على أحد الإذاعات الخاصّة، بدعوى انعكاساته الايجابيّة على مجال العقّارات والمقاولات في تونس. هذا واعتبرت الغرفة الوطنيّة للباعثين العقّاريّين أنّ التقليص في آجال منح الرخصة سيساهم في دعم السياحة واستقطاب الاستثمارات الأجنبيّة التي كانت تعبّر عن تململها إزاء التعقيدات وطول الانتظار المرتبط بهذا الإجراء.

الرئاسة من جهتها، وعلى لسان الرئيس محمد منصف المرزوقي، طالبت الفلاّحين بالتشبّث بأراضيهم وعدم التفويت فيها تحت أيّ ظرف!!! وقد جاء ذلك خلال كلمة الرئيس في عيد الجلاء يوم 12 ماي تزامنا مع إعلان رئيس الحكومة عن هذا الإجراء. فهل يمكن أن نعتبر هذه الدعوة موقفا رسميّا أو مزايدة أو خطابا خارج السياق؟؟؟

الاستثمار في قطاع العقّارات: حدود الرهان والارتدادات

إنّ هذا الإجراء الأخير القاضي بتقليص آجال منح رخصة الوالي ستكون له حتما نتائج هامّة على سوق العقّارات في تونس ونسق النموّ في هذا القطاع. وبغضّ النظر عن التصريحات الحكوميّة المطمئنة التي تتحدّث عن التأثير الايجابيّ لهذا القرار على السياحة والاستثمار الأجنبيّ وغيرها من الوعود، ما هي الارتدادات السلبيّة لمثل هذا الإجراء وما هي حدود المراهنة على الاستثمار في القطاع العقّاري؟

على مستوى الارتدادات المباشرة للتعديل الأخير، فإنّ مثل هذه الخطوة وإن كانت ستسهّل وتشجّع تدفقّ الأموال الموجّهة للاستثمار الأجنبيّ في قطاع العقّارات، إلاّ أنّها ستتسبّب أزمة كبرى على صعيد الأسعار التّي ستتجّه حتما نحو الارتفاع، ممّا سيؤثّر على سوق العقّارات في تونس وعلى رأس المال المحليّ والمواطن العاديّ على حدّ سواء. فالاستثمارات العقّاريّة وخصوصا تلك التي شملها التعديل وهي العقّارات الخاصّة بالسكن، ستتركّز بالأساس في المناطق “الراقية” دون غيرها وستقضي على حلم المواطن العاديّ أو الميسور في تملّك عقّار في تلك المناطق، إذ أنّ دخول الأجانب على الخطّ سيفتح الباب على مصراعيه أمام المضاربة ورفع الأسعار وسيقصي المستثمر المحليّ الذي لن يكون قادرا على المنافسة أمام الارتفاع المنتظر للأسعار.

المشكلة الثانيّة ستمسّ القطاع العقّاريّ ككلّ، إذ أنّ ارتفاع الأسعار لن يبقى محدودا في منطقة بعينها، بل سيشمل جلّ العقّارات وأن بشكل نسبيّ حسب كلّ منطقة، وهو ما سينعكس سلبيّا على الوضع الاقتصاديّ للمواطن الذي يعاني بطبعه منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات من تبعات التضخّم وارتفاع تكاليف المعيشة بما فيها السكن. حيث تشير الإحصائيات إلى ارتفاع أسعار العقّارات بين سنتي 2011 و2014 بنسبة تتراوح بين 20% و25%، وهو ما أكدّته بدورها الغرفة الوطنيّة للباعثين العقّاريّين.

إذن ستنحصر تلك الاستثمارات لفائدة فئة معيّنة من الأثرياء دون أن تعود بالفائدة على العموم، ذلك أنّ أكثر من 70% من التونسيّين يقطنون مساكن لا يتجاوز عدد غرفها الثلاث، وتتركّز معظمها في مناطق منفّرة للاستثمارات من هذا النوع.

أمّا بخصوص حدود المراهنة على الاستثمار الأجنبيّ في قطاع العقّارات فهو ما يطرح أكثر من نقطة استفهام حول مردوديّة ذلك النوع من الاستثمارات على الاقتصاد المحليّ. إذ أنّ تسهيل إجراءات التملّك للأجانب بالنسبة للعقّارات سيحدث بالضرورة طفرة على مستوى الاستثمارات الأجنبيّة أو المحليّة في هذا المجال، ولكنّ عائدات هذه الاستثمارات ستكون محدودة للغاية على الاقتصاد المحليّ، إذ ستجتذب رؤوس أموال كبيرة وستحرك سوق العمل المؤقّت، ولكنّ ذلك سيتسبّب في نمو استهلاكي سيلتهم جزءاً كبيرا من المدخرات وسيرفع سعر الأرض خاصة في مراكز المدن وحولها في الوقت الذّي يجب أن يكون هناك توازن بين القطاع العقاري وبقية القطاعات وان يتناسب مع قدرة الاقتصاد الوطني على التحمل وألا يتحول إلى فورة تمتص استثمارات كبيرة تؤثر على القطاعات الاقتصادية المنتجة.
كما أنّ الاستثمار الخارجي في مجال العقّارات يجب أن يكون انتقائيا أي أن يقتصر على المشاريع ذات القدرة التشغيلية الكبرى. وأن يشترط فيه احترام الخصوصيات البيئية لتونس، والأهم من هذا، يجب أن لا يكون سببا في استنزاف بعض الثروات الطبيعية وخاصة المياه التي تشهد شحا في مواردها.

من المعلوم أنّ الاستثمار في مجال العقّارات يُسمّى “الاستثمار الآمن”، لكنّه “استثمار ميّت”، إذ ترصد له مبالغ هائلة مقابل مردوديّة ضعيفة على مستوى التشغيل الدائم والقيمة المضافة للاقتصاد الوطنيّ، وهو آخر ما تحتاجه تونس في هذا الظرف الاقتصاديّ الصعب الذي تمثّل البطالة وارتفاع عجز الموازنات أهمّ سماته.