Samih-chiffres-img2

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز

في ظلّ تسارع الأخبار وتواترها حول الاستعدادات السياسيّة لمختلف الأحزاب للانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة القادمة وزحمة التصريحات والمؤتمرات وكواليس الاجتماعات والتحالفات، وبين إحصائيات الإصابات الناتجة عن الحرب ضدّ الإرهاب، وأخبار داعش في العراق وسوريا، وظلال تلك الأحداث على تونس، يظلّ ما يمكن تسميته “بالإرهاب الاقتصاديّ” يستنزف جيوب التونسيّين ويحدّ شيئا فشيئا من المقدرة الشرائيّة للمواطن الذّي يزداد اختناقه وعجزه يوما بعد يوم أمام ارتفاع نسبة التضخّم وغلاء الأسعار، وعجز الحكومة عن معالجة هذه الأزمة خصوصا قبيل أيام من حلول شهر رمضان الذّي يعتبر شهر ذروة الاستهلاك في تونس. وكانت الاتفاقيّة الأخيرة القاضية بزيادة 6% في سلّم الأجور الأساسية بالنسبة للعاملين في القطاع الخاص بمثابة آخر الإجراءات الحكوميّة الساعية لتخفيف ضغط الارتفاع المتواصل للأسعار ومحاولة السيطرة على التدهور السريع للمقدرة الشرائيّة للتونسيّين.

فهل تستطيع الزيادة الأخيرة فعلا التخفيف من معاناة المواطنين تجاه الارتفاع المشطّ والمتواصل للأسعار ونسبة التضخّم؟

وهل تعتبر هذه الزيادة منصفة وفي صالح الطبقة العاملة؟ أم أنّها مجرّد مسكّنات لفئة ما فتئت تتحمّل منذ سنوات عبئ الوضعيّة الاقتصاديّة الصعبة التي تمرّ بها البلاد؟

المعادلة الصعبة في حرب النسب ونزيف التضخّم

تمّ في قصر الحكومة إمضاء اتفاقيّة الزيادة في الأجور لموظّفي القطاع الخاصّ بنسبة بلغت 6% من الأجر الخام بالإضافة إلى زيادة 10 دنانير في منحة التنقّل، بين الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة (منظّمة الأعراف) والحكومة يوم 23 جوان 2014. وتأتي هذه الخطوة بعد مفاوضات مطوّلة حول وضعيّة الأجور في القطاع الخاصّ والذي يشغّل ما يقارب المليوني موظّف وعامل.

ورغم التصريحات التي احتفت بهذه الزيادة من مختلف الأطراف الممضية، إلاّ أنّ التمعّن في الواقع الاقتصاديّ للبلاد يحدّ من التفاؤل بقدرة هذه الاتفاقيّة على التخفيف من وطأة غلاء المعيشة وتدهور المقدرة الشرائيّة للمواطنين.

فمنذ ما يزيد عن ثلاث سنوات، تعيش البلاد وضعيّة اقتصاديّة صعبة لم تستطع الحكومات المتعاقبة إخفاءها أو معالجتها، وهو ما أدّى غلى انعكاسات سلبيّة طالت جميع القطاعات الاقتصاديّة الخاصّة والعموميّة من بنوك ومؤسّسات ونزل، بالإضافة إلى تآكل احتياطيّ البلاد من العملة الصعبة وتدهور سعر صرف الدينار التونسيّ أمام الأورو والدولار، هذا دون أن ننسى دور التهريب إلى دول الجوار في استنزاف السوق المحليّة، فلم تقتصر المواد المهربة على تلك الواردة من الجزائر أو ليبيا من محروقات وسجائر وبضائع متنوعة، بل تغادر قوافل التهريب التي تدخل البلاد محملة بمختلف السلع التونسية وخصوصاً المواد الغذائية. وأدّت هذه العملية إلى الضغط على الأسواق التونسية لاسيما أن التهريب يشمل بعض المنتجات المدعومة مثل السكر والمعجنات الغذائية والزيوت النباتية والحليب التي تمّ استنزافها وغيابها أحيانا عن الأسواق.

وهو ما أدّى في النهاية إلى ارتدادات عنيفة أثّرت على نسبة التضخّم وموجة من ارتفاع الأسعار لم تتوقّف منذ بداية الأزمة، إذ بلغت نسبة التضخّم 5,4% خلال شهر ماي 2014 حسب آخر بيانات المعهد الوطنيّ للإحصاء، مسجّلة ارتفاعا ب0,4% عن شهر أفريل، هذا وقد أشارت البيانات إلى تواصل ارتفاع المؤشّرات خلال الأشهر المقبلة في ظلّ غياب حلول حقيقيّة للسيطرة على تفاقم هذه مشكلة.

Samih-chiffres-img1

النسب الأهمّ التي تضمّنها تقرير المعهد الوطنيّ للإحصاء، كانت تلك المتعلّقة بمؤشّرات أسعار المواد الغذائيّة التي شهدت ارتفاعا من 6,8% في شهر أفريل إلى 7,2% في شهر ماي من سنة 2014، بالإضافة إلى ارتفاع مؤشّرا الانزلاق السنويّ لمجموعة السكن والطاقة المنزليّة من 4,6% في شهر أفريل إلى 6,8% في شهر ماي نتيجة التعديل الذي أجرته الحكومة مؤخّرا على أسعار الكهرباء والغاز وأسعار التطهير العموميّ.

فهل تكون نسبة الزيادة ب6% التّي أقرّها الاتفاق الثلاثيّ حول أجور موظّفي القطاع الخاصّ قادرة على مجابهة هذه النسب والأرقام التي تبدو ماضية أكثر في الارتفاع؟ وإلى أيّ مدى ستتمكّن الزيادة الأخيرة من تحسين المقدرة الشرائيّة للمواطن التونسيّ؟

هل تقدر القشّة على إنقاذ الغريق؟

عند مناقشة نسبة الزيادة الأخيرة والمقدّرة ب6% من الأجر الخامّ للعاملين في القطاع الخاصّ، فإنّ ابرز الملاحظات تتمحور حول 3 نقاط أساسيّة؛ النقطة الأولى تخصّ مدى ملائمة هذه النسبة للمناخ الاقتصاديّ العام ومؤشّرات الأسعار خلال السنوات الثلاث الأخيرة، النقطة الثانية تتعلّق بمقارنة نسبة الزيادة خصوصا لدى الفئات ذات الدخل الضعيف والمتوسّط بنسب الانزلاق السنويّ لمؤشّرات أسعار المواد الغذائيّة التي تستأثر بأكبر نصيب من أجور هذه الفئة، وأخيرا هل تعميم الزيادة دون اعتبار فوارق الأجور يدخل فعلا في خانة العدالة الاجتماعيّة وإنصاف محدودي الدخل؟

تظلّ نسبة التضخّم التي تمّ إدراجها في تقرير المعهد الوطنيّ للإحصاء والبالغة 5,4% خلال شهر ماي 2014، عامّة ولا تعكس بشكل واضح حدّة الأزمة وتأثيرها على حياة المواطنين و على مقدرتهم الشرائيّة إن تمّ فصلها عن مؤشّرات أسعار المواد الاستهلاكيّة ومختلف النفقات المتعلّقة بالسكن والتنقّل واللباس، إذ تختلف النسبة من قطاع إلى آخر ومن منتوج إلى آخر، فحسب ما ورد في التقرير المذكور شهدت مجموعة التغذية و المشروبات ارتفاعا بنسبة 7,2 % مقارنة بشهر ماي 2013، كما ارتفعت مجموعة اللباس و الأحذية باحتساب الانزلاق السنوي بنسبة 6,9% نتيجة ارتفاع الملابس بنسبة %6,8 و الأقمشة بنسبة 3,2 % والأحذية 7,2 %، في ذات السياق شهد مؤشر مجموعة السكن و الطاقة المنزلية ارتفاعا بنسبة 6,9% مقارنة بنفس الشهر من السنة المنقضية. و يعود هذا الارتفاع إلى الزيادة في أسعار الكهرباء و الغاز و الوقود بنسبة 10,2 % نتيجة التعديل الأخير في تعريفة الكهرباء و الغاز الذي وقع اعتماده من طرف الشركة التونسية للكهرباء والغاز.
كذلك شهدت أسعار ماء الشرب و التطهير ارتفاعا هامّا بنسبة 9,8 % نتيجة التعديل الأخير في أسعار التطهير العمومي.
إزاء هذا التطوّر الكبير في أسعار المواد الاستهلاكية المختلفة، فإنّ نسق ارتفاع الأجور كان أقلّ بكثير من المطلوب لإحداث التوازن بين المقدرة الشرائيّة للمواطن وارتفاع الأسعار. إذ أنّ المؤسّسات الخاصة و العموميّة لم تستطع مجاراة التغيّرات الحاصلة في السوق الاستهلاكية على صعيد الأجور المقدّمة وهو ما خلق عجزا أمام الموظفين والعملة الذين لم تعد جرايتهم قادرة على تغطية استهلاكهم اليوميّ ونفقاتهم الاعتيادية من أكل وملبس وسكن وتنقّل، حيث لم تتطوّر الأجور في المؤسّسات الخاصّة على سبيل المثال إلاّ بنسبة 2% على أقصى حدّ خلال سنة 2013 حسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء، كما أنّ الحدّ الأدنى للأجور في تونس لم يتجاوز اليوم وفي ظلّ هذا الارتفاع المشطّ للأسعار عتبة 280 دينار وهو مبلغ لا يمكن أن يفي بأي حال من الأحوال باحتياجات المواطن التونسيّ أو أن يضمن له العيش الكريم، ومن هنا بإمكاننا أن نستنتج بمجرّد مقارنة بسيطة بين نسبة الزيادة ومؤشّرات أسعار شهر ماي، أنّ الضغط سيستمرّ وربّما يشتدّ أكثر على جيوب التونسيّين وأنّ ما يتحدّث عنه البعض من تحسّن للمقدرة الشرائيّة بعد الاتفاقيّة الأخيرة لا يعدو أن يكون سوى وهم لا غير.

النقطة الثانيّة التي تطرح نفسها بشدّة، تتعلّق أساسا بالفئة محدودة الدخل والتّي تمثّل الأغلبيّة الساحقة من العاملين في القطاع الخاصّ وحجم الارتفاع الذيّ شهدته مؤشّرات الموّاد الغذائيّة التّي تمثل أهمّ مصاريف تلك الفئة الاجتماعية بنسبة تناهز 27% من إجمالي الدخل.

Samih-chiffres-img2-200

فبمقارنة بسيطة بين نسبة الزيادة التي تمّ إقرارها والتي حدّدت ب6% على الدخل الخامّ وحجم الارتفاع الذي شهدته المواد الغذائيّة يتضّح حجم الخلل الذي مازال قائما بين الدخل الشهريّ لهذه الفئة وتطوّر الأسعار، فقد ارتفعت أسعار اللحوم بنسبة 10,2 % والزيوت الغذائية بنسبة 12,8 % والغلال و الفواكه الجافة بنسبة 8,6% والخضر بنسبة 8,5 % الملح والتوابل بنسبة 7,6 %، كذلك ارتفعت أسعار المشروبات بنسبة 3,4 %.

فهل سيستطيع الموظّف أو العامل العادّي أن يجابه ضغط تسارع ارتفاع الأسعار والإيفاء بأبسط متطلّبات حياته اليوميّة بنسبة زيادة لن تتجاوز قيمتها كحدّ أقصى ال25 دينارا إن احتسبنا الأجر المتوسّط ب500 دينار مع ضرورة الأخذ بالاعتبار أنّ القيمة ستتناقص كلّما تناقص الأجر.

أخيرا، تتعلّق النقطة الثالثة أو الاحتراز الأخير بجانب الإنصاف والعدالة الاجتماعيّة. إنّ تعميم الزيادة دون الأخذ بالاعتبار الفرق في الأجور يتنافى تماما والهدف الأساسيّ لأيّ تعديل يتعلّق بدخل العملة، فكيف يمكن الحديث عن تحقيق العدالة الاجتماعيّة والإنصاف عندما يتساوى في الزيادة من كان مرتّبه 300 دينار ومن مرتبّه يتجاوز ال1000 دينار؟؟ وأيّ تأثير سيكون لهذه الزيادة على صاحب الدخل المنخفض؟ ومن سيكون المستفيد الحقيقيّ من الزيادة، أصحاب الدخل المحدود والمتوسّط أو أصحاب الدخل المرتفع.

إنّ مناقشة هذه المسالة لا تدخل في جانب التنظير الإيديولوجيّ أو الانحياز لفئة دون غيرها، بل هي إشارة إلى ضرورة اعتماد معايير سليمة في احتساب الزيادات المبرمجة في ظلّ هذا الوضع الاقتصاديّ الصعب، بحيث يعود النفع على مستحقّيها فعلا وتساهم كما هو مرسوم لها في التخفيف من معاناة المواطن التونسيّ الضعيف الدخل، إذ بدل تعميم نسبة الزيادة، ربّما كان من الأنجع تحديد قيمتها حسب سلّم الأجور.

على من تقع مسئوليّة إنقاذ الوضع ؟

عقب توقيع الاتفاقيّة، تتالت تصريحات الأطراف الموقّعة لاحتفاء بما يعتبرونه خطوة لتخفيف وطأة التضخّم وغلاء المعيشة، إذ اعتبر السيّد حسين العبّاسي الأمين العامّ للاتحاد العام التونسي للشغل، أنّه يأمل أن تساهم هذه الزيادة في التخفيف من معاناة المواطنين شريطة أن لا تعقبها زيادات جديدة تلغي مفعول هذه الأخيرة وتعود بالوضع على ما كان عليه. أمّا السيّدة وداد بوشمّاوي فقد اعتبرت الاتفاقيّة حدثا مميّزا وخطوة ايجابيّة في اتجاه تكريس حالة من الاستقرار الاجتماعيّ وتحفيز القدرة الإنتاجية ومردوديّة الموظّفين والعمّال.

ولكنّ، الصورة تبدو أكثر تعقيدا، فالحكومة تبدو ماضية في سياسة الترفيع في الأسعار والترويج لما تسمّيه مراجعة منظومة الدعم و”ترشيده” رغم التحذيرات المتواصلة من العواقب الوخيمة على الصعيد الاجتماعيّ والسياسيّ لمثل هذا الإجراء. أمّا ما تأمله السيّدة وداد بوشمّاوي من عودة الاستقرار الاجتماعيّ والحدّ من التحرّكات الاحتجاجيّة عقب إقرار هذه الزيادة فيبدو بعيد المنال أمام ما تمّ استعراضه من أرقام ومقارنات بين واقع الأسعار وحجم الزيادة المقرّرة، إذ كان من الأجدر لمنظّمة الأعراف أن تراجع سلوكيّاتها تجاه العمال وأن تراعيّ الوضع الاقتصادي العام وارتفاع التضخّم في تحديد الأجور وتنظيم العقود والعلاقات الشغليّة مع العمّال والموظّفين. فالإضرابات، وكما أثبتت الإحصائيات التي نشرها مكتب الدراسات التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية، كانت في أغلبها للمطالبة بتحسين ظروف العمل واحتجاجا على تأخّر صرف الأجور، وكأنّ المواطن التونسيّ لا يكفيه ما يثقل كاهله من غلاء الأسعار حتّى يعاني من تأخّر صرف مستحقاته. وقد أشارت هذه الدراسة إلى أنّ نسبة 84% من الإضرابات تعود للأسباب المشار إليها سابقا والتّي ما تزال في معظمها دون حلّ واضح.

ربّما بلغ الوضع الاقتصاديّ حدّا من التدهور والتأزّم لا يمكن فيه تحميل المسئوليّة لطرف دون آخر، ولكنّ المعالجة لا ينبغي أن تتمّ على حساب فئة أو أن يتمّ التغاضي عن مسئوليّة أطراف دون غيرها، فمثلما تعاني الشركات والمؤسّسات الخاصّة من حالة الركود الاقتصاديّ وارتفاع المصاريف ومحدوديّة الأسواق، فإنّ معاناة المواطن تبدو مضاعفة وهو الذّي لا يملك لمجابهة الوضع سوى أجره الذي يتبخّر أمام تلك النسب المخيفة من التضخّم وغلاء الأسعار، فالأزمة لن تمرّ عبر تحميل من لا طاقة لهم مسئوليّة النهوض بموازنات الدولة في حين يستمرّ إهدار المال العام عبر الميزانيات الضخمة لمؤسّسة الرئاسة والمجلس التأسيسي والوزارات وتجاهل مسألة التهرّب الضريبي لبعض المنسيّين أو ربّما المحميّين.