بقلم محمد سميح الباجي عكاز،
رغم كلّ المحاولات الحكوميّة والمشاريع الدعائيّة والجولات المكوكيّة للمسئولين الحكوميّين والهادفة لوقف التدهور الاقتصادي للبلاد، وخصوصا معضلة التضخّم وغلاء المعيشة، إلاّ أنّ كلّ هذه الجهود باءت بالفشل ولم تتراجع نسبة التضخّم بل سجّلت حسب آخر الإحصائيات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء ارتفاعا خلال شهر جوان لتقارب نسبة 6% ولتتجاوز نسبة 10% في بعض الموّاد وخصوصا الاستهلاكيّة منها كالغذاء والطاقة.
آخر التدخّلات الحكوميّة لكبح جماح التضخّم تمثّلت في ما أعلنه البنك المركزي يوم 26 جوان الفارط من ترفيع في نسبة الفائدة الرئيسيّة ب0,25 % لتبلغ 4,75 %، وبرّر البنك المركزي قراره اتخاذ هذا الإجراء بالتضخم الذي أصبح يمثل مشكلة كبرى بالنسبة للاقتصاد التونسي مبينا أن هذه الزيادة ستساهم في انكماش التضخم حسب تعبيره.
فما هي نسبة الفائدة الرئيسيّة؟ وكيف تنعكس على نسبة التضخّم؟ والسؤال الأهمّ، هل نجحت التعديلات السابقة في أن تحدّ من ارتفاع نسبة التضخّم؟ وما هي ارتدادات مثل هذه الخطوة على النسيج الاقتصاديّ ككلّ؟
نسبة الفائدة الرئيسيّة
نسبة الفائدة الرئيسية هي الفائدة التي تدفعها البنوك للبنك المركزي لتحصل على السيولة وتمنحها في شكل قروض. ويعد هذا السعر مؤشرا لأسعار الفائدة لدى البنوك التجارية التي ينبغي ألا تقل عن سعر البنك المركزي، كما يساعد سعر الفائدة البنك المركزي في التحكم في عرض النقد في التداول من خلال تغيير هذا السعر صعودا ونزولا. ورفع الفائدة يعني كبح عمليات الاقتراض وبالتالي تقليل نسبة السيولة في السوق مما يؤدي، نظريا، إلى خفض نسبة التضخم وارتفاع الأسعار، إذ كلما ارتفعت نسبة الفائدة قل تزود البنوك بالسيولة من البنك المركزي (نظرا لارتفاع التكلفة) فيقلّ رصيدها من السيولة وقدرتها على منح القروض. وأعلن البنك المركزي أنّ هذا الإجراء يكتسي صبغة التعديل التقني ويهدف إلى كبح تصاعد نسب التضخّم وذلك عبر السعيّ إلى تحقيق انكماش على مستوى الاستهلاك وامتصاص السيولة.
تعديل نسبة الفائدة للمرّة الرابعة في تونس… والنتيجة واحدة
إذن يهدف الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسيّة بالأساس إلى التخفيض من نسق الاستهلاك وامتصاص السيولة في الدورة الاقتصاديّة بغية الحدّ من ارتفاع نسبة التضخّم. ومن هذا المنطلق كان قرار البنك المركزي يوم 26 جوان الفارط بالترفيع في نسبة الفائدة الرئيسيّة للمرّة الرابعة في غضون ثلاث سنوات.
ولكن وحسب الرسم البياني السابق، لم ينجح الترفيع المستمرّ لنسبة الفائدة الرئيسيّة في التخفيض من نسبة التضخّم، بل على العكس تماما، إذ ظلّت النسب تتراوح بين 5.5 % و6 % خلال هذه السنوات، ولم يعرف التضخّم سوى انخفاضا طفيفا لم يتجاوز خلال السداسيّة الأخيرة 0.2 %. وتعتبر هذه النسب المسجّلة منذ سنة 2011 الأعلى منذ خمسين سنة.
ويكمن السبب الرئيسيّ لفشل حلّ البنك المركزيّ التونسيّ إلى تشخيص الوضع الذّي تمّ على أساسه اتخاذ قرار الترفيع في نسبة الفائدة.
فكما أعلن البنك المركزيّ وعلى لسان محافظه السيّد شاذلي العيّاري، فإنّ التضخّم الذي عرفته تونس يعود إلى النسق السريع لارتفاع الأسعار وانخفاض المدّخرات، معتبرا أنّ من شأن هذا الإجراء أن يساهم في تشجيع الادخار بما يمكّن من تمويل المشاريع الاستثمارية بالاعتماد على الموارد المتاحة خاصّة في ظلّ صعوبة تعبئة موارد خارجية. كما أنّ الترفيع ولو بمقدار طفيف لا يتجاوز 0.25 %، يتضمّن إشارة واضحة للشركاء الاقتصاديين على أنّ البنك المركزي يعمل على مكافحة التضخم ويساهم في دفع الاستثمار والتنمية.
ولكنّ جميع المؤشّرات وحتّى التصريحات الحكوميّة تثبت بطلان التشخيص والحلّ في آن واحد. فما يبحث عنه البنك المركزيّ من تحقيق انكماش على مستوى السيولة النقديّة في السوق لا يمكن أن يتحقّق في ظلّ الوضعيّة الاقتصاديّة الصعبة التي تعاني منها البلاد والمتمثّلة أساسا في تدهور المقدرة الشرائيّة للمواطن وتراجع الإنتاج وتباطؤ الدورة الاقتصادية.
فالمواطن التونسيّ في ظلّ الوضع الراهن الذي يتسّم بارتفاع متسارع لمؤشّرات الاستهلاك كمؤشّرات أسعار المواد الغذائيّة التي شهدت ارتفاعا من 6,8% في شهر أفريل إلى 7,2% في شهر ماي من سنة 2014، بالإضافة إلى ارتفاع مؤشّرا الانزلاق السنويّ لمجموعة السكن والطاقة المنزليّة من 4,6% في شهر أفريل إلى 6,8% في شهر ماي نتيجة التعديل الذي أجرته الحكومة مؤخّرا على أسعار الكهرباء والغاز وأسعار التطهير العموميّ، لن يتمكّن بأيّ حال من الأحوال من يخصّص جزء من راتبه للادّخار، كما أنّ هذا الإجراء سيرفع من نسبة المبالغ المقتطعة لخلاص القروض (الجارية والجديدة) وبالتالي سيؤثر على القدرة الشرائية للمواطن الذي يعتمد بشكل أساسي على القروض الاستهلاكيّة لتغطية عجز مدخوله إزاء تزايد مصاريفه.
أمّا في ما يتعلّق بدفع الاستثمار والتنمية، يبدو تفاؤل البنك المركزيّ ابعد ما يكون عن الواقع. فبغضّ النظر عن ارتباط الاستثمار بالواقع السياسيّ والأمنيّ في البلاد والذي لا خلاف حول ضبابيّته وتدهوره في الوقت الراهن، فإنّ الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسيّة لن يخدم الهدف المرسوم والمتمثّل في تشجيع الاستثمار المحليّ والأجنبيّ وذلك لعدّة أسباب؛ فالمستثمر الذّي يعتمد في الغالب على القروض البنكيّة لن يقبل بتحمّل نفقات جديدة نتيجة ارتفاع الأقساط المدفوعة للبنك وفقا لنسبة الفائدة الجديدة، ممّا سيدفع المستثمر أمّا للترفيع في الأسعار أو الضغط على الأجور للمحافظة على هامش الربح المطلوب وهو ما سيسبّب ارتفاع الأسعار وتواصل تدهور المقدرة الشرائيّة للمواطنين استمرار ارتفاع نسبة التضخّم، أو التراجع عن استثمار أمواله والعزوف عن توفير مواطن شغل جديدة ممّا سيؤدّي بصفة آليّة إلى استمرار ارتفاع معدّلات البطالة وحالة الاحتقان الاجتماعيّة وما تعنيه من اضطرابات سياسيّة وأمنيّة وتواصل تراجع آداء الاقتصاد الوطنيّ على مستوى الإنتاج والاستهلاك.
الارتدادات السلبيّة لقرار الترفيع “المعزول”
قرار البنك المركزيّ بالترفيع في نسبة الفائدة الرئيسيّة أربع مرّات خلال السنوات الثلاث المنقضية، لم يستطع كبح جماح التضخّم أو ارتفاع الأسعار فحسب، بل كانت له ارتدادات سلبيّة على النشاط الاقتصاديّ بصفة عامّة.
إنّ السعيّ للحدّ من الاستهلاك ودفع المواطنين إلى الادخار والتقليص من حجم السيولة (يكون في حالة كثرة الطلب والاستهلاك التي تدفع للاقتراض وبالتالي لنقص السيولة) بمعزل عن الوضع العّام في البلاد لن يحقّق الهدف المرسوم، إذ أنّ تونس تعاني من ندرة الإنتاج وهو ما يتسبب في ارتفاع أسعارها وبالتالي يتسبب في التضخم.
وقد أكّد تقرير للمعهد الوطني للإحصاء تراجع مؤشّرا الإنتاج الصناعيّ خلال السنوات الأخيرة، ممّا يؤكّد حالة الانكماش التي يعاني منها الاقتصاد المحليّ والتي لا تحتمل مزيدا من الضغط.
فتراجع الإنتاج الصناعيّ يعود بالأساس إلى تراجع الاستثمارات وإلى سياسة القرارات المتضاربة التي اعتمدتها مختلف الحكومات وخصوصا الأخيرة منها، فلا يصحّ الادّعاء بدفع الاستثمار عبر رفع نسبة الفائدة الرئيسيّة في حين ترتفع بشكل جنونيّ ومتواصل أسعار الموّاد الاستهلاكيّة والأوليّة وخصوصا المحروقات والتي شهدت ترفيعا بنسة 6% في شهر جويليّة الحالي.
كما أنّ التهريب يطرح نفسه كأحد الأسباب الرئيسيّة لغلاء الأسعار وارتفاع نسبة التضخّم عبر ما يسبّبه من ضغط على السوق المحليّة واستنزاف لصندوق الدعم عبر تهريب الموّاد المدعومة المخصّصة للاستهلاك المحليّ.
إنّ التفكير في حلول جذرية لمعالجة التضخم ويجب أن يرتكز بالأساس على التشجيع على الاستثمار وتهيئة المناخ الاقتصاديّ والسياسيّ والأمنيّ ليرتفع الإنتاج وتكثر المنافسة وتنخفض الأسعار آليا، بالإضافة إلى الترفيع في الأجور ليكثر الطلب وينتعش الاقتصاد. أمّا أن يتمّ التعامل مع معضلة التضخّم وفق قراءات معزولة عن المناخ العّام ستتحتّم عليها نتائج عكسيّة لانتظارات أصحاب القرار.
من خلال الشهور الأخيرة من عمر الحكومة الجديدة، يبدو أنّ فريق “التكنوقراط” لم يجد سبيلا لمعالجة مشاكل البلاد الاقتصاديّة سوى باعتماد سياسة الترفيع في كلّ شيء، فارتفعت أسعار المواد الغذائيّة والملابس والطاقة والمحروقات ومعاليم التطهير والآداءات… فقط ما يتناقص هي أعمار المواطنين.
la Tunisie se dirige vers l’inconnu, par défaut de compétence humaines