وقد تميّزت استقالة رئيس الأركان السابق رشيد عمّار بصخب كبير بعد أن أعلن هذا الأخير عن استقالته خلال استضافته في برنامج حواريّ على قناة التونسيّة، ممّا فتح الباب أمام الكثير من التأويلات والتجاذبات حول أسباب الاستقالة “الغامضة” والتي فاجأت الرأي العام التونسيّ وأسالت الكثير من الحبر في تناول أبعاد اتخاذ هذه الخطوة وارتداداتها على مستقبل البلاد.

أمّا الجنرال الحامدي، فقد اختار أن يغيب عن الأضواء وان تُعلن استقالته على لسان وزارته ليخلّف وراءه هو الآخر كمّا هائلا من التساؤلات والتكهّنات حول دوافع الاستقالة وظروفها دون أن يسعى عكس سابقه إلى التعليق على دوافع قراره.

عمليّة 16 جويليّة: توقّف الاستعراض والانحشار في الزاوية

من أهمّ ما استعرضه رئيس الحكومة مهدي جمعة خلال المؤتمر الصحفي الذي تناول انجازات الحكومة خلال أوّل مائة يوم من تولّيها مقاليد السلطة في 14 ماي الفارط، هي الانجازات الأمنية وما اعتبره هذا الأخير نجاحات أمنية متتالية في محاصرة الإرهاب والقضاء على العناصر الإرهابية في تونس، حيث تحدّث عن نجاح الإستراتيجية التي وضعها الفريق الحكوميّ لمكافحة هذا التحدّي الأمنيّ والتي تعتمد على المعالجة الداخليّة عبر تشديد الرقابة على الجماعات الإرهابية وأخذ زمام المبادرة وتوسيع الجهود والتعاون على المستوى الإقليمي لمحاربة الإرهاب، مشيرا إلى أنّ هذا الرهان كان الأهمّ بالنسبة إليه.

وزارة الدفاع بدورها لم تنتظر كثيرا لتعلن على لسان ناطقها الرسمي العميد توفيق الرحموني عن السيطرة شبه التامة على جبل الشعانبي، وذلك خلال الاحتفال بالذكرى 57 لتأسيس الجيش الوطني في 24 جوان 2014، بل وعمل الجيش على نقل صحفيّين إلى داخل الجبل لتصوير سيطرة القوات المسلّحة على الموقف ولإظهار تلاشي خطر الإرهاب في المنطقة.

لكنّ يوم 16 جويليّة جاء لينسف هذه الصورة الإيجابيّة التي حاولت الحكومة ترويجها حول نتائج جهودها في محاربة الإرهاب الذّي عاد ليضرب بقوّة في المنطقة التي دعا الرئيس المؤقت محمّد منصف المرزوقي قبل أشهر إلى تحويلها إلى منتزه وليستشهد على إثر الهجوم العنيف الذّي شنه الإرهابيون 15 جنديا ويجرح 23 آخرون. لتكتسي الشراع التونسيّ موجة كبرى من التساؤلات حول أسباب فشل المؤسّسة الأمنية والعسكريّة في التصدّي للهجمات الإرهابية ومن يتحمّل مسئوليّة ما حدث.

مئات الأسئلة وطوفان من التحليلات

التساؤلات والإتهامات التي عمّت الشارع لم تتأخّر لتصبح محور البرامج التلفزية والإذاعيّة، فلم تمرّ سوى 48 ساعة بعد وقوع العمليّة الإرهابيّة ليطالب توهامي العبدولي؛ رئيس حزب الحركة الوطنيّة وكاتب الدولة السابق في وزارة الخارجيّة، من خلال حصّة تلفزيّة على قناة تونسنا بإقالة وزير الدفاع ووزير الداخليّة ورئيس أركان جيش البرّ بعد تكرّر العمليات الإرهابيّة وفشل المؤسّسة الأمنية والعسكريّة في القضاء على المجموعات الإرهابية المتواجدة في الشريط الغربيّ للبلاد.

في نفس الوقت، كانت كلّ البلاتوهات في كلّ القنوات التونسيّة العموميّة والخاصّة تعرض برامج حواريّة تتناول الحادثة وأسبابها وعواقبها كلّ من منظوره وكلّ من موقعه وكلّ حسب ولاءه، فتنوّعت التفسيرات وتراوحت بين قلّة الإمكانيات والمؤامرات الخارجيّة واختراق المؤسّسة العسكريّة والأمنيّة وضعف الحكومات السابقة وحتّى تواطئها… وشاركت جميع الأطراف في التحاليل والتفسيرات بدأ بالخبراء العسكريّين مرورا بالإعلاميين والسياسيّين و وصولا إلى الأمنيّين ونقاباتهم كالصحبي الجويني الذي تحدّث خلال الحصّة التي عرضت على قناة تونسنا عن اختراق الجيش والأمن وعن عمليّة تعطيل وصول المعلومات وحجبها عن القيادات، وهو ما دفع وزارة الدفاع إلى مقاضاته فيما بعد.

ولم تتأخّر الإجابة كثيرا لتعلن وزارة الدفاع يوم الثلاثين من جويليّة مساءا عن استقالة رئيس أركان جيش البرّ الجنرال محمد صالح الحامدي “لأسباب شخصيّة”، ليتولّى المنصب مؤقّتا كاهية رئيس الأركان جيش البرّ إلى حين سدّ الشغور الحاصل وذلك، باقتراح من وزير الدفاع الوطني، وبالتوافق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة طبقا لأحكام التنظيم المؤقت للسلط العمومية.

فكيف تعامل الإعلام التونسيّ مع حدث الاستقالة؟ وهل استمرّت الزوبعة الإعلامية بعد إعلان وزارة الدفاع؟

24 ساعة من الضبابيّة

البداية كانت خبرا نشرته إذاعة “موزاييك” يوم 29 جويليّة على الساعة التاسعة مساء تعلن فيه استقالة رئيس أركان جيش البرّ محمد صالح الحامدي، حسب “مصادر جديرة بالثقة”. في المشهد الإعلامي خيّم الوجوم والحيرة والإحتراز تجاه هذا الخبر في حين اشتعلت مواقع التواصل الإجتماعي بين مكذّب للخبر ومؤكّد له وبدأ الجميع في رسم سيناريوهات ما حدث وما قد يحدث إذا ما صحّت معلومات “المصادر الجديرة بالثقة”.

أمّا وزارة الدفاع فقد سارعت ليلتها لنفي الخبر لتعيد تأكيده على لسان ملحقها الإعلامي ظهيرة اليوم الموالي معلنة أنّ طلب الاستقالة قد تم تقديمه منذ 23 جويليّة، ومبرّرة الإستقالة “بأسباب شخصيّة” في محاولة للوضع حدّ لأي تأويلات.

هذا الإرتباك الواضح في إعلان الخبر من قبل وزارة الدفاع، كان الدافع الأساسي لتناول مسألة الإستقالة من منطلق لعبة ليّ الأذرع بين رئاسة الحكومة ومؤسّسة الرئاسة التي تبيّن أنّها كانت قد رفضت الإستقالة وقبلتها فيما بعد أمام إصرار الجنرال دون أن تقدّم أيّ توضيح أو تعليق حولها رغم تصريح عدنان منصر مستشار الرئيس بأنّ الرئاسة تعلم سبب الإستقالة لكنّها ترفض الإفصاح عنه.

اقلب الورقة

التناول الإعلامي لقرار الجنرال الحامدي انقسم بدوره إلى محورين أساسيين، محور أوّل اكتفى ببيان وزارة الدفاع واستعجلّ طيّ الصفحة، ومحور آخر حاول المضيّ قدما في تفسير أسباب الاستقالة وأهدافها.

بخلاف الضجّة التي أثارتها استقالة الجنرال رشيد عمّار على قناة التونسيّة، تعاملت وسائل الإعلام “الكبرى” مع الحدث بشكل عابر، فغاب التناول الإعلامي لخبر الإستقالة مع غياب شمس ذلك اليوم رغم حالة الغليان التي كانت تعمّ نفس تلك القنوات قبل أسبوعين فقط في بحث محموم ربّما للبحث عن كبش فداء يسعى كلّ طرف إلى أن لا يكون من معسكره.

ورغم ما ظلّ عالقا بخصوص تعيين رئيس الأركان الجديد، خصوصا وأنّ حالة الشغور اليوم تشمل منصبين في أعلى الهرم القيادي في المؤسسة العسكرية ـ منصب المدير العام للأمن العسكري الذي يتقلده بالنيابة توفيق الرحموني وقائد جيش البر الذي سيتقلده بالنيابة محسن الفارسي كاهية مدير جيش البر ـ يبدو أنّ وسائل الإعلام التقليديّة في تونس اختارت أن تولّي كاميراتها بعيدا عن كواليس اتخاذ القرار وأن تظلّ المسألة محصورة في مكاتب القصبة وقرطاج.

في المقابل، كان “الفايسبوك”، ذلك الفضاء الإفتراضيّ الذي اتخذ بعدا آخر بعد 14 جانفي وتحوّل إلى عامل مهمّ في تكوين الرأي العام وامتدّ تأثيره حتّى على الطبقة السياسيّة، سعى هو الآخر حسب طبيعة كلّ متدخّل إلى قراءة الحدث وفق منظوره وهواجسه الخاصّة.

2014-08-08_134615

فقد ظهرت على الفايسبوك عشرات الصفحات التي تحمل عنوانين لها علاقة بالسلك الأمني أو العسكريّ لتطرح تحليلاتها الخاصّة وتدخل في حملات تحريض وترويج لنظريّات من يقفون وراءها بين من يحمّل الجنرال الحامدي مسؤوليّة فشل الجهد العسكريّ في الحرب على الإرهاب كالصفحة الرسمية للنقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي التي اعتبرت استقالة الحامدي شجاعة ورقيّا في التعامل مع الأخطاء في اشارة واضحة إلى تحميله مسئوليّة مجازر الشعانبي وفشل الجهود العسكريّة في محاربة الإرهاب، أمّا العديد من الصفحات الأخرى التي حملت أسماء كالقوات المسلّحة التونسيّة أو نقابة الحرس الوطني أو أحبّك يا جيش، فقد تبنّت نظريّةالمؤامرة معتبره أنّ استقالة الجنرال أو اجباره على الاستقالة هي تمهيد لانقلاب وشيك على “السلطة الشرعيّة” ووأد للمسار الديمقراطي بل وذهبت إلى حدّ إعتبار هذه الخطوة تدخل في إطار الصراع القائم بين وزير الدفاع ورئيس الأركان.

2014-08-08_141933
2014-08-08_134457

التحليلات والتعليقات لم تقتصر على الصفحات الأمنية والعسكريّة، بل شملت سياسيّين واعلاميّن دخلوا في ما يشبه الحرب الكلاميّة بعد أن انتقلوا من مرحلة التحليل إلى مرحلة الردّ والإهانات المتبادلة. فالبداية كانت مع النائب في المجلس الوطني التأسيسي عن حركة وفاء مبروك الحريزي الذي سارع مع إعلان الاستقالة إلى كتابة تدوينه على حسابه الخاص في الفايسبوك اتهّم فيها الباجي قائد السبسي ووزير الدفاع بالتحضير لعمليّة انقلابيّة عبر إقصاء القيادات العسكريّة المحايدة وتعيين أخرى ذات ولاءات للماضي، ولم يستثني النائب الإعلاميين من المشاركة في المؤامرة عبر الترويج لخطاب يمهّد قبول الرأي العام بمثل هذه الممارسات عبر الضغط الإعلاميّ لتمرير قائمة رئيس الحكومة.

mabrouk

الحرب لم تتوقّف هنا، فقد شهدت صفحات “الفايسبوك” معركة شرسة وصلت إلى حدّ التهكّم والإهانات المتبادلة بين المدوّن ياسين العيّاري من جهة والصحفي والمرشّح للانتخابات الرئاسيّة زياد الهاني على خلفيّة تباين الرؤى والقراءات حول استقالة الجنرال الحامدي، وامتدّت آراء ياسين العيّاري وقراءاته لتشمل الدعوة إلى وقفة احتجاجيّة أمام وزارة الدفاع لثني الجنرال عن الرحيل أو بالأحرى لمساندته أمام الضغوط التي يتعرّض لها حسب رأي المدوّن الذي اعتبر ما يحدث مؤامرة على المسار الإنتقاليّ ومؤسّسة الرئاسة واستمرارا لمنطق الإقصاء الجهويّ نظرا لأصول الجنرال المولود في سيدي بوزيد.

fb

بغضّ النظر عن اختلاف القراءات وتباين وجهات النظر حول استقالة الجنرال محمد صالح الحامدي، فإنّ المسؤوليّة الكبرى لحالة التشويش التي عرفها الرأي العام تتحمّلها المؤسّسات الرسمية للدولة التي مازالت تتعامل بمنطق الحجب والتكتّم وسياسة الأبواب المغلقة مع القضايا المصيريّة للبلاد، وهو ما يغذي شتّى أنواع التحليلات والتصوّرات ويفتح باب التأويل والإشاعات.

samir wefi

لقد اختار الجنرال وقائد جيش البرّ أن يكون انسحابه هادئا وبعيدا عن الأضواء، ولكنّه وبسبب السياسة الإعلاميّة للوزارة ولمؤسّسات الدولة بشكل عامّ، فتح حربا “إعلامية” و”افتراضيّة” كان يبحث عنها الكثيرون ممن تستهويهم النقاشات الجانبيّة وممن يعتاشون من الغموض والسيناريوهات المفتوحة.