بقلم محمد سميح الباجي عكّاز
لقد كانت الدورة 29 “لأيّام المؤسّسة” التي انعقدت في سوسة يوم السبت الماضي برعاية المعهد العربي لرؤساء المؤسّسات فرصة تاريخيّة لكشف التناقضات التي تمّ حجبها منذ شهور خلال جلسات الحوار الوطني والحوار الوطني الإقتصاديّ، حيث واجه لأوّل مرّة على العلن الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العبّاسي رئيسة الاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة وداد بوشمّاوي في مناظرة كشفت طبيعة الصراع الحقيقيّ في المرحلة القادمة وأسدلت الستار على مرحلة “التوافق المرّ” التي أعقبت تنصيب مهدي جمعة على رأس الحكومة الإنتقاليّة.
بداية التصدّع
كان لا بدّ من حدث مزلزل كاغتيال الشهيد محمد البراهمي كي يلتقي قطبا المشهد النقابيّ والاقتصادي في البلاد على طاولة واحدة وبهدف موحّد وهو إسقاط حكومة الترويكا واستكمال المسار الإنتقاليّ بحكومة “وفاق وطنيّ”. ولكن التناقضات المحوريّة لكلا الطرفيّن كان لا بدّ أن تطفو إلى السطح مع انتفاء أسباب التوافق واستكمال خارطة الطريق المتفّق عليها.
ظهور التناقضات بين منظّمة الأعراف من جهة ومنظّمة الشغيلة بدأ مبكّرا حتّى قبل انتهاء عمل حكومة “التوافق الوطني”. فانطلاق أشغال الحوار الوطني الإقتصاديّ اصطدم باختلاف الرؤى والتصوّرات بين الفاعلين الأساسيّين في الدورة الإقتصاديّة لإنقاذ البلاد من الأزمة التي تعرفها منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات.
فمنذ انطلاق عمل اللجان التحضيريّة، انسحب اتحاد الشغل احتجاجا على ما اعتبره انحرافا بأهداف الحوار الوطنيّ وتحالفا بين الحكومة من جهة ومنظّمة الأعراف من جهة أخرى لحسم ملفّات كبرى وإستراتيجية تخصّ وضعيّة القطاع العموميّ والشراكة بين القطاعين العّام والخاصّ، بالإضافة إلى تعمّد اللجان تجاوز ملفّات هامّة ومحوريّة تتعلّق بمسألة الجباية والترفيع في الأسعار واستئناف المفاوضات بخصوص الأجور وطرح قضيّة الأسواق الموازية.
ولم يعد الاتحاد العام التونسي للشغل للحوار الوطني الاقتصاديّ إلاّ بعد الاستجابة للنقاط التي احترز عليها من قبل. ولكنّ الخلافات تواصلت صلب الجلسات عندما تضاربت الرؤى بخصوص معالجة القضايا المطروحة ممّا أدّى في نهاية المطاف إلى تأجيل انعقاد الحوار الوطني الإقتصادي دون نتائج تذكر.
ما الذّي تغيّر بين الأمس واليوم؟
بعد تنصيب رئيس الحكومة “التوافقيّ” الذي تناولت نواة سابقا حيثيات طرح اسمه من قبل رئيسة منظّمة الأعراف في اللحظات الأخيرة قبل الموعد النهائيّ لإعلان اسم رئيس الحكومة الجديد، وأمام تزايد الضغوط السياسيّة والمزاج الشعبي العام الراغب في استكمال المرحلة الانتقاليّة بسلاسة، خصوصا بعد الإطاحة بحكومة النهضة وانصياع المؤتمر من أجل الجمهوريّة لمقرّرات الأطراف المكوّنة للحوار.
وقد تراجع دور الإتحاد بشكل ملحوظ سواء في الحياة السياسيّة أو العمل النقابيّ خلال الأشهر التّي تلت تشكيل الحكومة الجديدة، أمام تعاظم دور منظّمة الأعراف واكتساحها المشهد السياسيّ بدعم من الفريق الحكوميّ. إذ وحسب تقارير صادرة عن وزارة الشؤون الإجتماعيّة، فقد انخفض عدد الإضرابات بنسبة 24% بالنسبة لنفس الفترة من سنة 2012 و بـ 30 % بالنسبة لسنة 2011، كما انخفض عدد المؤسسات المعنية بهذه الإضرابات في سنة 2013 مقارنة بسنة 2012 بنسبة 35 % و بـ 15% مقارنة بسنة 2011.
وقد وجد الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه مرغما على مهادنة الحكومة الجديدة التي كان هو طرفا أساسيّا في تنصيبها والضغط على نسق الاحتجاجات والإضرابات في القطاعين العامّ والخاصّ لصالح تأمين المرحلة الإنتقاليّة أو ما تبقّى منها. ولكنّ هذا الإنحسار في الحضور السياسيّ والنقابيّ للاتحاد قوبل بمزيد تغلغل منظّمة الأعراف في المشهد العام للبلاد. حيث تعاظم دور الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة ليشمل استقبال البعثات الدبلوماسية والسفراء والحديث بمنطق صاحب القرار والسلطة في البلاد، أو على الأقلّ أحد لاعبيها الأساسيين. وقد اتضّح الدور المحوري الذّي تلعبه منظّمة الأعراف في الحياة السياسيّة للبلاد من خلال التحضيرات للانتخابات الأخيرة، إذ شهد مقرّ الإتحّاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة توافد ابرز القيادات السياسيّة الحزبيّة في البلاد كالباجي قائد السبسي وراشد الغنّوشي وحمّه الهمّامي وكمال مرجان وغيرهم من قادة الأحزاب، من أجل التباحث مع رئيسة الإتحاد وداد بوشمّاوي تحت عنوان المشاورات حول الاستحقاق الانتخابي.
كما بدت الرؤى متناغمة بين الحكومة الجديدة ومنظّمة الأعراف بخصوص الملفّات الاقتصاديّة الكبرى المتعلّقة بمستقبل القطاع العموميّ وبرنامج الشراكة بين القطاعين الخاصّ والعامّ والتسهيلات المطلوبة للتشجيع الاستثمار كمراجعة مجلّة الاستثمار والمنظومة الجبائيّة.
بعد توضّح الصورة إثر انتخابات أكتوبر 2014، يجد الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه معزولا في ظلّ التقسيم الجديد للمجلس النيابيّ وحضور منظّمة الأعراف كلاعب سياسيّ أساسي في المستقبل ب21 نائبا يمثّلون 10% من نوّاب المجلس الجديد. ولكنّ النقطة الأهمّ هي انتماء 60% من هؤلاء النوّاب لحزب نداء تونس الذّي وبحكم نتائج الانتخابات سيتولّى تشكيل الحكومة القادمة، ممّا يجعل من التقاء مصالح الطرفين أمرا حتميّا.
المرونة الآمنة: عنوان التناقضات الكبرى
كانت المناظرة بين حسين العبّاسي ووداد بوشماوي الحدث الأبرز الذي انتظره جميع المتابعين لملتقى “أيّام المؤسّسة” في سوسة السبت الماضي، ولكن ما جرت عليه الأمور خلال تلك المناظرة التي كان عنوانها “المرونة الآمنة” كان بعيدا كلّ البعد عن ذلك المصطلح.
إذ أبدى الاتحاد العام التونسي للشغل على لسان أمينه العام تصلّبا غاب منذ فترة عن خطاباته ومواقفه، بدءا برفض هذا الأخير لمفهوم “المرونة” في التعامل مع حقوق العمّال ومكتسباتهم، لتكشف حيثيّات المناظرة في ما بعد حجم تباين الرؤى والأطروحات بين كلا الطرفين في تناول سبل معالجة الظرف الاقتصاديّ الصعب الذّي تعاني منه البلاد خصوصا في بعده الإجتماعيّ المتعلّق باليد العاملة.
فمنظّمة الأعراف حاولت تبرير ما اعتبره الإتحاد محاولة للالتفاف على حقوق الشغيلة ومصادرة لحقوقهم المكتسبة على مرّ عقود من النضال، حيث تحدّثت السيّدة وداد بوشمّاوي عن ارتدادات الأزمة الاقتصاديّة التي تعصف بالبلاد وآثارها على المؤسّسات التي لا تبحث حسب قولها عن امتيازات خاصة بل مشكلتها الرئيسيّة تكمن في غياب نظام جبائي عادل يخفف العبء عن المؤسسة وقانون شغل يمنحها قدرا اكبر من المرونة ولا يثقل كاهلها. إذ اعتبرت هذه الأخيرة أنّ قانون الشغل يتميّز بالجمود، وهو ما يعيق جهود دفع الاستثمار ومحاربة البطالة.
أمّا بخصوص الانتهاكات التي تطال العمّال، فإنّ المنظّمة لا تدافع عن مرتكبيها حسب ما جاء على لسان السيّدة بوشمّاوي، ولكنّها استطردت عبر الدعوة إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الصعوبات التي تعترض المؤسسة وهو ما يتطلّب مرونة اكبر في عقود الشغل لتشجيع أصحاب المشاريع على تكثيف الانتدابات.
النقطة المهمّة الثانية التي علّقت عليها السيّدة بوشمّاوي كانت بخصوص موضوع المناولة، إذ اعتبرت أنّ إلغاء المناولة قد أثقل كاهل المؤسّسات العموميّة وتسبّب في تراجع أداءها، كما كان له أثرا سلبيّا على نسق التشغيل في البلاد. فالمؤسّسات الكبرى كما جاء على لسانها تحتاج إلى شركات صغرى مرافقة تتولّى تخفيف العبئ الاجتماعيّ عنها وتساهم من وجهة نظرها في خلق مواطن شغل جديدة.
رئيس منظّمة الشغيلة حسين العبّاسي كان حاضرا خلال المناظرة للردّ على وجهة نظر السيّدة وداد بوشمّاوي، إذ اعتبر أنّ الحق في شغل لائق وقار بالنسبة للاتحاد العام التونسي للشغل هو مبدأ لا تفاوض حوله، وأنّ ما تطرحه نظيرته في منظّمة الأعراف ليس مرونة بقدر ما هي دعوة إلى تكريس قانون العمل الهشّ عبر العقود المؤقّتة والدعوة إلى اجترار تجربة شركات المناولة. هذا واتّهم الأمين العام للاتحاد أصحاب المؤسّسات باستغلال مفهوم المرونة للتهرّب من واجبات الشركة تجاه موظّفيها في ما يخصّ العمل القّار والتغطية الاجتماعيّة وغيرها من الحقوق المهدورة.
أمّا عن الصعوبات الاقتصاديّة والظرف الأمنيّ، فقد انتقد السيّد حسين العبّاسي عزوف المستثمرين عن التوجّه نحو المناطق الداخليّة ودفع جهود التنمية في تلك الجهات المحرومة حيث ترتفع نسب البطالة والفقر، مشيرا إلى تهافت حجّة رجال الأعمال بخصوص الصعوبات الأمنيّة حيث لم تسجّل طوال الفترة المنقضية انتهاكات أو تهديدات أمنيّة حقيقيّة للمستثمرين القليلين المتواجدين هناك.
مسألة الأجور والظروف الماديّة للشغّالين لم تغب عن ذهن الأمين العام للاتحاد الذّي أشار إلى أنّ إقرار الزيادة الأخيرة في القطاع الخاصّ ليست سوى خطوة أولى ولن تكون الزيادة الأخيرة، كما يجب على المؤسّسات إعادة النظر في الحوافز الماديّة، بالإضافة إلى الإصرار على تسوية مسألة الزيادة في القطاع العام، وهو ما بدأ فعلا في أكثر من وزارة كوزارة التربية ووزارة النقل.
قطبا الدورة الإقتصاديّة ورهان الملفّات الكبرى
التناقض الحادّ الذّي كشفت عنه المناظرة بين قطبي الحياة الاقتصاديّة في تونس لم يمثّل سوى جزءا بسيطا من الصدامات المنتظرة بين الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة من جهة أخرى. فانتهاء الظرف الإنتقاليّ الذّي عاشته البلاد منذ 4 سنوات تقريبا سيطرح بالضرورة ملفّات اقتصاديّة تنتظر الحسم.
وقد بدأت مختلف الأطراف تدفع نحو إغلاق هذه القضايا بالشكل الذّي يلائم مصلحتها. منظّمة الأعراف كانت أوّل من بادر إلى طرح وجهة نظرها بخصوص تلك الملفّات، بل وعملت على تدعيم موقعها في المشهد السياسيّ بغية امتلاك القدرة على التأثير المباشر في كيفيّة التعاطي معها.
وهو ما جاء صراحة على لسان رئيستها خلال الإحتفال بتنصيب النوّاب الجدد، عبر الدعوة إلى الإمساك بزمام الأمور في اللجان الاقتصاديّة بالخصوص ولعب دور فعّال في حسم ملفّ القطاع العموميّ والشراكة بين القطاعين العام والخاصّ وتعديل النظام الجبائيّ الذّي لقي استهجان ورفض المنظّمة رغم مشاركتها في صياغته وتمكينها من امتيازات جديدة، بالإضافة إلى مشروع مجلّة الإستثمار الجديدة التي تمّ سحبها من المجلس التأسيسي للمراجعة وملفّ الاتفاقيات والعقود الخاصّة بالثروات الطبيعيّة في تونس.
أمّا الإتحاد العام التونسي للشغل، وإن استطاع تعطيل حسم هذه الملفّات خلال جلسات الحوار الوطني الإقتصاديّ بدعوى عدم أهليّة الظرف السياسيّ، فإنّ طبيعة المرحلة الجديدة و”شرعيّة” الحكومة القادمة ستزيد من حجم التحديات التي تنتظره خصوصا في ما يتعلّق بوضعيّة القطاع العموميّ الذّي أكّد قياديو المنظّمة الشغيلة في أكثر من مناسبة على أنّه خط أحمر لن يسمحوا بتجاوزه وإن أدّى الأمر إلى ثورة ثانية.
مقال جيد
كل المؤشرات تشير لغلبة اليمين في الاعوام القادمة فنداء تونس يسيطر عليه اليمين واصحاب المال الذين يمولون حملاته هربا من المحاسبة ورغبتا في سيطرة اكبر على مقدرات البلاد. لو تاملنا الخارطة الحزبية في المجلس لوجدنا اربع من الخمس الاحزاب الاولى من اليمين. سيكون البرنامج ليبراليا لصالح رجال الاعمال وسيتحمل الاتحاد بمفرده عبئ الدفاع عن العمال. هنالك اصلاحات لابد من اتخادها بالنسبة للتقاعد, التامين على المرض ولكن لا يجب ان يتحمل الفقراء كل الاعباء ولذلك يجب مقاومة التهرب من الضرائب ويجب اجبار اصحاب الثروات والاعمال الحرة على مساهمة اكبر في تمويل الدولة والصناديق الاجتماعية. ساهم الاتحاد في اضعاف التكتل والمؤتمر ولن يكفي نواب الجبهة لتعديل الكفة في البرلمان.