opposition-front-populaire-nidaa-ennahdha-essid

نجح حزب نداء تونس منذ اعتصام باردو في تزعم المعارضة وافتك، من أحزاب اليسار آنذاك، مقود الاحتجاجات الشعبية ضد أحزاب الترويكا. ونجح هذا الحزب أيضا في التموقع كطرف رئيسي في مفاوضات الحوار الوطني. ثم نجح حزب النداء في تصدر نتائج الإنتخابات التشريعية ليغنم زعيمه إثر ذلك منصب رئاسة الجمهورية. كما توفق هذا الحزب الذي لم تمض سنتان على تأسيسه في ضم أكبر خصومه، أي حركة النهضة إلى صفه وإخراجها من صف المعارضة بمنحها بعض المناصب الوزارية. وبذلك يكون حزب الباجي قائد السبسي قد أنجز نجاحات صعبة في وقت قياسي مكنته من الإمساك بكل السلطات وتحجيم عدد معارضيه وحصرهم في نواب الجبهة الشعبية وعدد ضئيل من بعض ممثلي الأحزاب الصغرى.

وجوه المعارضة اليوم هي نفس الوجوه التي صوتت بنعم لقانون إقصاء التجمعيين. والذين صوتوا لتمرير هذا القانون هم بعض نواب الجبهة الشعبية بالتأسيسي ونواب حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذين نجد بعضهم اليوم في مجلس نواب الشعب كممثلين لحزب التيار الديمقراطي. اختيار صف المعارضة حدث مبكرا وخيوط اللعبة التي حاكتها حركة النهضة مع حزب نداء تونس أصبحت واضحة بما يكفي للجزم بوقوع “مناورة”، لم يعد من المهم الحديث عن تفاصيلها بقدر التنبؤ بما يمكن أن يؤدي إليه هذا التحالف “المشبوه.”

المعارضة “حق دستوري” وخيار سياسي

حرص أعضاء المجلس التأسيسي على تضمين تعريف واضح ودقيق لمهام “المعارضة” بالدستور الجديد إيمانا منهم بضرورة ضمان حق أحزابهم في التموقع جيدا في مجلس النواب ككتل فاعلة في صورة عدم نجاحها في الفوز بالسلطة. ويعرف الفصل 60 من الدستور المعارضة كالتالي:

المعارضة مكوّن أساسي في مجلس نواب الشعب، لها حقوقها التي تمكّنها من النهوض بمهامها في العمل النيابي وتضمن لها تمثيلية مناسبة وفاعلة في كل هياكل المجلس وأنشطته الداخلية والخارجية. وتسند إليها وجوبا رئاسة اللجنة المكلفة بالمالية وخطة مقرر باللجنة المكلفة بالعلاقات الخارجية، كما لها الحق في تكوين لجنة تحقيق كل سنة وترؤسها. ومن واجباتها الإسهام النشيط والبنّاء في العمل النيابي.

هذا الفصل من الدستور تطرق لمهام المعارضة ولم يقدم توضيحا دقيقا لمفهوم المعارضة، أي خصوصية الأطراف التي يحق لها التموقع في المعارضة. وقد عملت بعض الأطراف ومن بينها ممثلو الجبهة الشعبية بمجلس نواب الشعب على تدقيق هذا المفهوم ونجحوا رغم قلة عددهم في تمرير الصيغة التي اقترحوها بخصوص تعريف المعارضة في النظام الداخلي لمجلس النواب فكانت كالآتي:

كل كتلة غير مشاركة في الحكومة ولم تمنح بأغلبية أعضائها ثقتها للحكومة أو لم تصوت بأغلبية أعضائها على الثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها. النواب غير المنتمين لكتل الذين لم يصوتوا لمنح الثقة للحكومة أو للثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها. ويعدّ الاحتفاظ بالصوت رفضا لمنح الثقة للحكومة. ولا يصح التصنيف في المعارضة إلا بتقديم تصريح كتابي لرئاسة المجلس من الكتلة أو النائب المعني.

وأغلق نواب الجبهة الشعبية بهذا التنصيص الأبواب أمام حركة النهضة التي حاولت التأكيد على حق الكتل التي منحت الثقة للحكومة في البقاء في صف المعارضة. وللتذكير فقد بلغ عدد المصوتين ضد منح الثقة للحكومة والمتحفظين على التصويت وجميعهم يدخلون في خانة المعارضة حسب القانون الداخلي لمجلس النواب 32 نائبا وهم حسب الأحزاب:

الجبهة الشعبية: 15 صوتا
حزب المؤتمر من اجل الجمهورية: 4 أصوات
حزب التيار الديمقراطي: 3 أصوات
حركة الشعب: 3 أصوات
حزب المبادرة: 3 أصوات
الحزب الجمهوري: صوت واحد
حزب صوت الفلاحين: صوت واحد
حركة الديمقراطيين الاجتماعيين: صوت واحد
قائمة رد الاعتبار: صوت واحد

المصادقة على حكومة الحبيب الصديد حددت مكونات مجلس النواب من نواب داعمين للسلطة وآخرون معارضين لها. وقد أعرب بعض المهتمين بالشأن السياسي عن تخوفهم من الضعف العددي للمعارضة داخل المجلس ما من شأنه أن يخلق اختلالا في ميزان القوى بين الطرفين. غير أن الضعف العددي للمعارضة لا يمكن أن ينتقص من الثقل السياسي للرموز التي تضمها ومن بينها نذكر أهم قياديي الجبهة الشعبية كالمنجي الرحوي وأحمد الصديق ومباركة البراهمي وعمار عمروسية وممثل منطقة الحوض المنجمي عدنان الحاجي والنائبة عن التيار الديمقراطي سامية عبو والنائب عن الحزب الجمهوري إياد الدهماني. هذه الشخصيات السياسية التي اختارت صف المعارضة ولم تكن مجبرة على الانضمام إليه نجحت في أول اختبار لوزنها الحقيقي حين تمكنت من تعطيل أشغال مجلس النواب وفرض مقترحها حول مفهوم المعارضة وتمريره رغم معارضة كتلة حركة النهضة المتفوقة عدديا.

الامتيازات التي منحها الدستور للمعارضة مع التحديد الدقيق لهذا المفهوم في النظام الداخلي لمجلس النواب يوضح الرؤية بخصوص أطراف المعارضة والمهام التي تنتظرهم. الأهم هنا هو أن هذه التنصيصات تقطع الطريق أمام إمكانيات اللعب على حبلي السلطة والمعارضة من طرف بعض الأحزاب، كما أنها تحمّل الأطراف التي رفضت منح الثقة لحكومة الصيد مسؤوليتها كاملة في القيام بدورها في مراقبة السلطة والتصدي للممارسات والقرارات التي تضر بالصالح العام دون السقوط في فخ الابتزاز السياسي.

الجبهة الشعبية: “الخاسر الأقوى”

رغم وجود عدة أطراف بالمعارضة إلا أن الجبهة الشعبية ب15 نائبا تعتبر الكتلة السياسية الأهم نظرا لأن تفوقها العددي يمنحها الأولوية في اتخاذ القرارات. حول هذه المسألة أكدت ممثلة حزب التيار الديمقراطي سامية عبو في تصريح لنواة أن « اتسام السلطات الجديدة التي أفرزتها الإنتخابات بالدائمة سيقلص من حدة الصراعات السياسية وسيحول وجهة المعارضة عن المعارك الإنتخابية إلى البحث في المسائل الجدية بتقصي الأخطاء في مختلف المجالات ومحاولة فضحها بغاية الإصلاح، مما يعود بالنفع على البلاد ويخدم مصالح التونسيين. وهذا الأمر سيحد من سيطرة طرف دون آخر على المعارضة في صورة توافق الجميع حول مبدأ خدمة البلاد بجدية لإخراجها من الأزمة.»

الحديث عن التوافق داخل المعارضة حول ضرورة الدفاع عن الصالح العام لا ينفي تصدر الجبهة الشعبية للمشهد بشروعها فعليا في فرض آرائها ودفاعها الصلب عن مواقفها. وتجلى هذا خصوصا في جلسة المصادقة على الحكومة التي وجه فيها نواب الجبهة تصريحات حادة للحبيب الصيد وتشكيلته الحكومية حول المحاصصة الحزبية التي اعتمدت وحول بعض نقاط برنامجه الحكومي. وللتذكير فإن الجبهة الشعبية اختارت غير مرغمة التموقع في المعارضة حيث فضّلت عدم المشاركة في الحكومة إن لم تتم الإستجابة لشروطها التي من بينها نذكر ضرورة استبعاد مكونات الترويكا ورموز النظام السابق عن الحكم.

نجحت الجبهة الشعبية إذا في تجنب السقوط في فخ إغراءات المشاركة في السلطة، وتسلمت القيادة في المعارضة ببرنامجها الواضح المعادي لليبرالية في مواجهة تكتل حزبي حاكم متنوع تجمعه الرغبة في الحكم ولا يلتقي حول برنامج موحد. رهان الجبهة الشعبية في هذه الفترة وفي السنوات القادمة سيكون إثبات حسن نواياها بخصوص الأسباب الحقيقية وراء عدم مشاركتها في الحكم واختيارها صف المعارضة، والمواقف القادمة للجبهة ستكشف إن كانت هذه الخيارات ثورية أم سياسية.

في تصريح لنواة أكد ممثل الجبهة الشعبية بمجلس نواب الشعب المنجي الرحوي أنه « لا مجال للتشكيك في نوايا الجبهة الشعبية بخصوص رغبتها في استغلال موقعها الذي فرضته عليها نتائج الإنتخابات لاستكمال المسار الثوري لرموز الجبهة عبر التصدي للخيارات الإقتصادية والإجتماعية المشبوهة والدفاع عن مصالح المواطنين. » وحول رهانات المرحلة القادمة قال الرحوي أن « التركيز يجب أن يكون على مضاعفة الإستثمار وتنشيط الصادرات من أجل الحد من العجز التجاري الذي تعرفه البلاد. ومن الضروري الإقرار بأن العجز والفساد ينخر جميع القطاعات بدون استثناء وبالتالي فإن الإصلاحات يجب أن تكون تأسيسية وعميقة لا أن تعتمد على حلول ترقيعية.» وحول الخلاف الذي ساد علاقة قياديي الجبهة الشعبية في الأسابيع الفارطة والذي بلغ حد التراشق بالإتهامات بين بسمة بلعيد وحمة الهمامي قال الرحوي أن « هذه الخلافات عادية وأن محاولات بعض الأطراف تفكيك الجبهة الشعبية متواصلة لكنها لن تنجح لأن النضج الذي عرفته علاقة أحزاب الجبهة ببعضها وتكاملها وقدرتها على تجاوز الخلافات البسيطة أصبح نقطة قوة سنعمل على تدعيمها في الفترة القادمة التي سنركز فيها جهودنا على القيام بدورنا البرلماني والسياسي والاستمرار في متابعة ملفات شهداء الجبهة الشعبية وشهداء الثورة.»

اختيار حركة النهضة التحالف مع منافسها السياسي بمشاركته في الحكم ولو بطريقة رمزية (وزارة وحيدة ومنصبي كاتب دولة) وضع الجبهة الشعبية في مواجهة قوتين سياسيتين ذات قواعد جماهيرية واسعة مما سيعسّر مهمة الجبهة في اعتماد سياستها المألوفة بتجييش الشارع من أجل الضغط. من جهة أخرى تجد الجبهة الشعبية نفسها مضطرة للتعامل مع بعض مكونات الترويكا الذين انضموا تلقائيا للمعارضة وهم ممثلو التيار الديمقراطي والمؤتمر من أجل الجمهورية، والتساؤل يطرح هنا حول كيفية تعامل الجبهة مع هؤلاء الأطراف وهي التي حال شرطها بعدم مشاركة رموز الترويكا لحكومة الحبيب الصيد دون انضمامها إليها؟

وتستعد بعض الأطراف السياسية التي لم تفز في الإنتخابات التشريعية لبناء تكتلات معارضة من خارج أسوار البرلمان. وكان القيادي بحزب المسار سمير الطيب قد صرح خلال ندوة صحفية عقدها حزبه مؤخرا بتواصل المشاورات مع الجبهة الشعبية في اطار العمل على تعزيز صف المعارضة في الساحة السياسية.

من جهة أخرى لا يقلل بعض المهتمين بالشأن السياسي من أهمية “حراك شعب المواطنين” الذي أسسه الرئيس السابق المنصف المرزوقي إثر خسارته في الإنتخابات الرئاسية. ومن المحتمل أن يحظى هذا الحراك بانضمام ممثلي حزب التيار الديمقراطي بمجلس النواب، وعددهم ثلاثة، إثر انضمام أربعة ممثلين عن حزب المؤتمر وعددهم . ويطرح هنا تساؤل حول الدور الذي سيلعبه هذا الحراك في المرحلة القادمة خصوصا وأنه يحظى بقاعدة شعبية “نهضاوية” كبيرة. وكان النائب عن حزب المؤتمر عماد الدايمي قد صرح في إحدى الصحف الأجنبية بأن « حزب حراك شعب المواطنين يحظى بـتمثيلية شعبية هائلة تمثل نصف الناخبين التونسيين، وثلثي جغرافيا تونس. وهذا الواقع السياسي الجديد بإمكانه أن يمنح “الحراك” موقعا أساسيا في المعارضة التونسية، ليكون معارضا أساسيا لحركة نداء تونس، الحزب الحاكم.»