مرّة أخرى تجبر مدينة القصرين ومعتمدياتها التونسيّين على الالتفات نحوها مجدّدا، ليس بغية تدشين مشاريع جديدة، أو الاحتفاء بإنجازات اقتصاديّة واجتماعيّة، بل بعد اضطرارها لدفع ضريبة الدم مرّة أخرى احتجاجا على سياسة متواصلة من التهميش والتلاعب بمستقبل الآلاف من الشباب المعطّلين عن العمل.

الاحتجاجات لم تتوقّف منذ يوم السبت 16 جانفي 2016 بعد اقدام الشاب رضا اليحياوي على انهاء حياته احتجاجا على اقصاءه من القائمة المرشّحين للوظيفة العموميّة والإصرار على إطالة فترة بطالته من قبل المسؤولين المحليّين. موت رضا اليحياوي كان النقطة الفاصلة في تغيّر طبيعة الاحتجاجات، من الاعتصامات إلى المواجهة التي خرجت من مدينة القصرين نحو باقي معتمديات الولاية ولتصل اليوم إلى عدد من المدن التونسيّة كان آخرها العاصمة.

تصاعدت حالة الاحتقان التي تلت وفاة رضا اليحياوي يوم 16جانفي 2016، ليقدم المئات من الأهالي على الاعتصام أمام مقرّ الولاية مطالبين بمحاسبة المعتمد الأوّل والوالي على تلاعبهم بالقائمات التي ضمّت 75 اسما تمّ وعدهم بتوفير مواطن شغل منذ 6 أشهر. لكن الموقف ازداد احتقانا بعد اقدام مجموعة أخرى من المحتجين على التهديد بالانتحار من على سطح مبنى الولاية لولا تدخّل مجموعة من الحاضرين مساء 19 جانفي 2016.

الحراك الاجتماعيّ الذّي رفع شعار التشغيل كمطلب رئيسيّ، تطوّر مع تتالي الساعات ليتحوّل إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن التي تدخّلت في مفترقات الطرقات والأحياء لفضّ تجمعات الشباب المحتج ومنعهم من التجمهر أمام مقرّ الولاية. ورغم إعلان حظر التجوّل مساء 19 جانفي 2016، إلاّ أنّ المواجهات تواصلت في أحياء المدينة وشوارعها مخلّفة حسب حصيلة أوليّة 14 جريحا وفق شهود عيان من المدينة.

موجة الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن توسّعت نحو معتمديات ولاية القصرين منذ مساء أمس، على غرار تالة، ماجل بلعبّاس، فريانة، تلابت، حيدرة، وفوسانة التّي شهدت تحرّكات شبيهة استمرّت طيلة ليلة الثلاثاء 19 جانفي 2016. الأمور لم تتوقّف عند هذا الحدّ، إذ توسّعت التحرّكات المتضامنة مع شباب ولاية القصرين رافعة بدورها نفس المطالب المتعلّقة بالتشغيل والتنمية. الاحتجاجات انتقلت إلى عدد من ولايات البلاد في اليوم الموالي لتشمل المكناسي ومنزل بوزيان مزّونة والرقاب ومدينة سيدي بوزيد وسليانة وسوسة والفحص وباجة والقيروان والدهماني في ولاية الكاف.

كما نظّم الاتحاد العامّ لطلبة تونس يوم الأربعاء 20 جانفي 2016 مسيرة احتجاجيّة مساندة لشباب القصرين وللتأكيد على شرعيّة مطالبهم. المسيرة التي انطلقت منتصف النهار من ساحة محمد عليّ بمشاركة اتحاد أصحاب الشهائد العليا المعطّلين عن العمل ومئات من الشباب وعدد من النقابيّين لتتوجّه نحو شارع الحبيب بورقيبة، أين التحمت بالوقفة الاحتجاجيّة للجبهة الشعبية المطالبة بالكشف عن قتلة شكري بلعيد. ومن ثمّ توجّهت المسيرة نحو مقر ولاية تونس حيث تجمّع المشاركون ليرفعوا شعارات ضدّ سياسة التهميش المتواصلة والتأكيد على مطلب التشغيل كأولويّة قصوى.

حتّى لحظة كتابة هذه الأسطر، عاودت عدد من المدن التحرّك اليوم 21 جانفي 2016، على غرار الحامة في ولاية قابس ومعتمديتي نصر الله وحاجب العيون في القيروان إضافة إلى جبنيانة من ولاية صفاقس. كما انطلقت مسيرة من أمام المقر الجهويّ للاتحاد العام التونسي للشغل في سيدي بوزيد على الساعة العاشرة صباحا لتتّجه نحو مقرّ الولاية بمشاركة مجموعة من المعطّلين عن العمل وعمال الحضائر ونشطاء في المجتمع المدني والجبهة الشعبية والنقابيّين وعدد كبير من أهالي المدينة.

كما انطلقت مسيرة مماثلة في مدينة باجة صباح اليوم ليتجّمع المتظاهرون وسط مقرّ الولاية بعد اقتحامها مطالبين بحقّ شباب الجهة في التشغيل والتنمية.

قفصة هي الأخرى تحرّكت صبيحة اليوم، حيث انطلقت مسيرة من المقر الجهوي للاتحاد العام التونسي للشغل لتتوجه نحو الولاية ليتمّ اقتحامها فيما بعد، كما شهدت مدن الحوض المنجمي على غرار المتلوي والرديّف وأم العرايس تحرّكات احتجاجيّة ضدّ سياسة التهميش وللمطالبة بالتشغيل.

مع مضيّ الساعات، تزداد وتيرة المظاهرات المساندة لتحرّكات شباب القصرين والرافعة لمطلب التشغيل والتنمية، لتشمل هذه المرّة مدنين وصفاقس المدينة والصخيرة، إضافة إلى معتمديتي دوز ونفطة من ولاية توزر والناظور في ولاية زغوان وجندوبة ومكثر في ولاية سليانة.

منطقة سوق الاحد في ولاية قبلّي شهدت مواجهات عنيفة بين محتجّين وقوّات الأمن بين إقدام هؤلاء على إغلاق الطريق الوطنيّة  واقتحام مقرّ المعتمديّة والاحتجاج على الوضع الاقتصاديّ وسياسة التهميش التي تعيشها الجهة.

كما شهدت العاصمة التونسيّة تحرّكا احتجاجيّا آخر في شارع الحبيب بورقيبة بعد ظهر يوم الخميس 21 جانفي 2016، بمشاركة عدد من الأطراف النقابيّة والمجتمع المدني على غرار الاتحاد العام لطلبة تونس واتحاد أصحاب الشهائد المعطّلين عن العمل.

مجلس النواب تحرّك إزاء الاحتجاجات التي تشهدها مدينة القصرين ومختلف معتمدياتها، حيث أعلن رئيس مجلس النوّاب محمد الناصر انه تقرّر إثر الجلسة العامة الصباحية في 19 جانفي 2016 دعوة رئيس الحكومة الحبيب الصيد إلى جلسة عامة استثنائية للحوار حول خطة الحكومة في مجال التشغيل ومقاومة البطالة والإجراءات العاجلة في هذا الصدد. هذا وتقرّر أن يتحول وفد من نوّاب الجهة إلى ولاية القصرين وإعداد تقرير يعرض أثناء الجلسة العامة المقبلة.

من جهة أخرى أصدر الشباب المعتصم في مقر ولاية القصرين بيانا يوم الأربعاء 20 جانفي 2016، وضحّوا من خلاله مجموعة من النقاط التيّ تناولت مطالبهن الرئيسيّة وتمسّكهم بالإعتصام حتّى إيجاد حلّ جذريّ وحقيقيّ لمشكلة البطالة. كما أعلن المعتصمون مساندتهم التّامة لكل التحركات السلمية في مختلف ولايات الجمهوريّة مدينين في نفس الوقت التعامل الأمني العنيف مع المتظاهرين. هذا ودعا الموقعون على البيان إلى عدم تسييس التحرّكات الشعبيّة والحفاظ على المنشآت العموميّة وعدم السماح بتوظيف الاحتجاجات وفق الحسابات السياسيّة، مشددين في الآن ذاته على انفتاحهم على جميع المبادرات السياسيّة والمقترحات الحكوميّة. وقد توجّه الشباب المعتصم برسالة إلى وسائل الإعلام داعين إيّاها “للإلتزام المهنية والحياد في تغطية تحركاتهم المشروعة وإعتماد خطاب متزن وغير متشنج يسمح بمواصلة الحوار بين الأطراف المتنازعة”.

الموقف الحكومي لم يتعدّى في مرحلة أولى محاولة التضييق على التحرّكات، سواء بالتعامل الأمنيّ العنيف أو التعتيم الإعلاميّ الذّي لم يطل نتيجة توسّع الاحتجاجات وثبات المحتجّين. من جهة أخرى ورغم إقالة رئيس الحكومة للمعتمد الأوّل بمدينة القصرين، إلاّ أنّ هذه الخطوة جاءت كردّ فعل متأخرّ وروتيني. واعتبر عاشور القاهري، شاب عاطل عن العمل من مدينة القصرين، “أنّ المشكلة الحقيقيّة تتجاوز اسم معتمد أو والٍ، حيث يطالب الشباب بحقّ ولايتهم في التنمية العادلة والدائمة، وتمكين الآلاف من شبابها العاطل عن العمل من مورد عيش كريم”، أمّا الإجراءات المرتجلة وردود الفعل الفورية فهي تعكس رغبة الحكومة في التهدئة والمهادنة وإصرارها على سياسات الحكومات السابقة القائمة على التجاهل والتعامي عن معاناة أهل القصرين المحاصرين بين إرهاب الرصاص وإرهاب الجوع. أمام تواصل ضغط الاحتجاجات وتوسّعها أقرّت الحكومة جملة من القرارات مساء الأربعاء 20 جانفي 2016 تقضي بتشغيل 5000 معطّل سنة 2016 ضمن برامج وزارة التكوين المهني والتشغيل، إضافة إلى انتداب 1410 بين الية 16 وحضائر خلال شهر فيفري 2016 ورصد 6 مليون دينار لإحداث مشاريع جديدة.

هذه الإجراءات لم تتمكّن من إيقاف تصاعد نسق التحرّكات الاحتجاجيّة في القصرين، حيث رفض الشباب المعتصم  ما قدّمته الحكومة بعد أن شرعت هذا الصباح إلى توزيع استمارات لانتداب المعتصمين كعمّال حضائر، وهو ما رفضه الشباب واعتبروه التفافا على مطالبهم ومحاولة من الحكومة للاستخفاف بجوهر مطالبهم في العمل الكريم. ليواصل الشباب اعتصامهم داخل الولاية حتّى هذه اللحظة.

وزارة الداخليّة على لسان الناطق الرسمّي بإسمها وليد الوقيني أنّ وزارة الداخليّة تقرّ بشرعيّة مطالب أهالي القصرين ومختلف الجهات المنتفضة. كما أضاف أنّ التعامل الأمني في الجهة اتّسم بأقصى درجات ضبط النفس، نافيا الاستعمال المفرط للغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين، وهو ما تنفيه الصور والشهادات القادمة من عين المكان. خلال حديثه مع موزاييك أف أم أضاف الوقيني أنّ هناك خشية من دخول الارهابيّين وسط المحتجّين واستغلال تحرّكاتهم لاستهداف الأمنيّين. في نفس السياق  تحدّث النقابي الأمني عصام الدردوري عن أسلحة استولت عليها سابقا مجموعات إرهابية قد تستعمل ضد الأمنيين في هذه التحرّكات، كما أبدى شكوكه تجاه التظاهرات الليليّة والدوافع والجهات التي تقف وراءها.