لم يُسدَل الستار بعد عن خفايا الهجوم الإرهابي الذي استهدف مدينة بن قردان فجر أمس الاثنين، وقد اكتفى رئيس الحكومة الحبيب الصيد بالإعلان صباح اليوم عن الحصيلة البشرية التي تمثلت في مقتل 36 عنصرا إرهابيا وأسر سبعة آخرين، وبالمقابل سقط 12 شهيدا و14 جريح من القوات الأمنية، بينما بلغت الحصيلة في صفوف المواطنين الأبرياء 7 شهداء و3 جرحى.

لم يُفصح رئيس الحكومة عن معطيات أخرى تاركًا بذلك مساحات واسعة للتأويل، فهيمن شبه إجماع إعلامي على أن عملية بن قردان شكّلت تحوّلا في نشاط المجموعات الإرهابية التي تدور حول الشريط الحدودي الرابط بين تونس وليبيا. ويأتي استشعار هذه النقلة من تحليل الهدف المرسوم الذي وصفه البعض بالرغبة في تحويل مدينة بن قردان إلى ”إمارة استيلاء“ عبر السيطرة على شرايينها الأمنية: منطقتي الحرس والأمن والثكنة العسكرية. ولكن عدم القدرة على إنجاز هذه الخطة المفترضة فسح المجال أمام مقاربة أخرى استبعدت أن يكون الهدف من الهجوم إنشاء إمارة بقدر ما كانت الغاية تتجه نحو المحافظة على بن قردان، ممرّا سهلا للإرهابيين والأسلحة، وذلك بإجبار القوى الأمنية على التراجع خصوصا في ظل حالة الاختناق النسبية التي أصبحت تشهدها الجماعات الإرهابية في ليبيا.

إن استقراء الأهداف والخطط المتحولة للجماعات الإرهابية يمر عبر تحديد سياقاتها الأمنية والجغرافية والاجتماعية، وهو ما ينطبق إلى حد بعيد على مدينة بن قردان، الأمر الذي أهّلها للاضطلاع بأدوار لوجيستية وسياسية في الحسابات الاستراتيجية للجماعات الإرهابية.

بن قردان خط عبور استراتيجي

من الملاحظ أن الموقع الحدودي لمنطقة بن قردان جعلها تحظى بمكانة ذات طابع استراتيجي داخل حسابات تنظيمي الدولة ”داعش“ وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وحسب التقارير الرسمية فإن الأنشطة الإرهابية التي عرفتها المدينة تمثلت أساسا في تسفير الجهاديين إلى بؤر القتال في سوريا والعراق وليبيا المجاورة وتسهيل مرور الأسلحة وتخزينها.

في هذا السياق، وحسب بلاغات سابقة لوزارة الداخلية، فإنه تم تفكيك خلايا إرهابية متمركزة ببن قردان، إذ أصدرت الوزارة المذكورة بلاغا رسميا يوم 5 ديسمبر 2015 أعلنت فيه أن وحدات مكافحة الإرهاب والاستعلامات بإقليم الحرس الوطني بمدنين تمكنت من الإطاحة بخلية بمنطقة بن قردان تتكون من خمسة عناصر تابعة لتنظيم القاعدة، وقد أشار ذات البلاغ إلى أن أهداف هذه الخلية تتمثل في استقطاب الشباب وتسفيرهم إلى القطر الليبي. وفي فترة سابقة أعلنت الوحدات الأمنية يوم 5 جويلية 2015 أنها أحبطت عملية تسلل أشخاص للقطر الليبي عبر منطقة بن قردان بغية الإلتحاق بتنظيمات إرهابية.

في بداية شهر مارس من سنة 2015 أكدت السلطات اكتشاف ثلاث مخازن للأسلحة في وادي الربايع ووادي فيسي بمنطقة بن قردان، كان من المنتظر أن يتم تهريبها إلى الجماعات الإرهابية المتمركزة في جبال القصرين، وقد ضمت المخازن حسب مشاهد مصورة بثتها إذاعة تطاوين أسلحة خفيفة وقاذفات ”آربيجي“ ومواد متفجرة.

isis-ben-guerdane-terrorisme

إن تسفير المقاتلين وتهريب الأسلحة رافقته أنشطة استقطاب وسط شباب المنطقة، وقد أشار تقرير أصدره مركز الأبحاث الأمريكي، صوفان جروب، في ديسمبر 2015 إلى أن هناك 6000 تونسي من بين المقاتلين الأجانب في سوريا و العراق، من بينهم %15.2 من بن قردان، علاوة على هذا أشارت القائمة الاسمية التي نشرتها وكالة الأنباء الليبية بتاريخ 23 نوفمبر 2015 إلى أن هناك 44 عنصرا إرهابيا تسللوا إلى ليبيا من بينهم 10 عناصر ينحدرون من منطقة بن قردان.

سعت التنظيمات الإرهابية من خلال تكثيف النشاط الإستقطابي إلى تأمين خط العبور الذي يضمن انتقال الأسلحة والمقاتلين. ولكن العملية الإرهابية الأخيرة جعلت بعض المقاربات تذهب إلى أن الاستقطاب الجهادي اتجه نحو البحث عن إقامة مركز سيطرة ثابت يتغذي من مسالك التهريب والتجارة الموازية.

إلى أي مدى يتقاطع التهريب مع الإٍرهاب؟

من المعروف أن التجارة الموازية تشكّل منذ عقود السمة البنيوية للنشاط الاقتصادي بمنطقة بن قردان الحدودية، وينتصب التهريب مكوّنا رئيسيا في إنعاش هذه التجارة حيث أشار آخر تقرير أصدره البنك الدولي أن حوالي 3800 من سكان بن قردان يمارسون نشاط التهريب. وحسب تقرير أعدّه مركز الدراسات جسور مارس 2016، لم ينشر بعد، فإن أنشطة التهريب والتجارة الموازية على الحدود الليبية بلغت نسبة معاملات تقدر بـ1200 مليون دينار ونسبة مرابيح قيمتها 300 مليون دينار، وتشمل هذه الأرقام فقط البضائع التالية: المواد الغذائية والملابس والأحذية والمعدات المنزلية والعجلات، وذلك دون احتساب السجائر والمواد البترولية التي تسجل مرابيحا أعلى بكثير من البضائع الأخرى.

وقد توسعت الشبكات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالتجارة الموازية لتشمل العديد من المناطق المتاخمة ومدن أخرى وسط البلاد وشمالها، وفي هذا السياق تشير التقارير الرسمية إلى أن بن قردان لا تشكل حالة استثنائية لأن الاقتصاد الموازي أو الغير مهيكل يمثل تقريبا نصف الاقتصاد الوطني.

من المتوقع أن تنتبه التنظيمات الإرهابية إلى التهريب وتخضعه لمصالحها، خصوصا وأنها تمتلك رصيدا تاريخيا في تهريب الأسلحة والمقاتلين في تجارب سابقة. ولكن توظيف التهريب الذي قام أساسا على استجلاب الأسلحة أصبح يتقاطع على مستوى الشكل مع أنشطة التهريب العادية التي تتغذى منها التجارة الحدودية الموازية، الأمر الذي جعل البعض يردد مقولة ”الإرهاب والتهريب صنوان“.

إن الربط الميكانيكي بين هذين العنصرين يعتبره بعض المتابعين تجديفا خارج الوقائع، وفي هذا السياق أكد أمية الصديق، المختص في الشؤون الليبية ورئيس مؤسسة المقدمة،”إن التقاطعات بين الإرهاب والتهريب موجودة نظرا للأرضية الجغرافية المشتركة التي تجمعهما. ولكن لا يجب أن يتحول التقاطع إلى نظرية ارتباط عضوي، خصوصا وأن التهريب الإجرامي لا يشكل حالة عامة في حين أن التهريب الحدودي الموجّه نحو التجارة الموازية يمثل الأغلبية الساحقة في منطقة بن قردان“. وأشار الصديق إلى أن الهجوم الإرهابي الأخير يضرب أيضا مصالح التجار الذين ستكسد تجارتهم في ظل مناخ يطغى عليه النزاع المسلح، وبالتالي ينأى معظمهم عن الإرتباط بأنشطة التهريب الإجرامي على حد تعبيره.

ويتابع رئيس مؤسسة المقدمة بأن التجارة الحدودية سابقة للنشاط الإرهابي والأكثر من ذلك سبق وجودها التاريخي إحداث الدولة المركزية نفسها، ملاحظا في نفس الوقت ”إن شخصية التاجر لا تميل عموما إلى العنف وإنما تحبذ الاستقرار والدبلوماسية لتسهيل المعاملات مع الآخرين“.

التنظيمات الإرهابية وعوائق الثبات ببن قردان

إن الاستهداف الإرهابي الأخير للمراكز الأمنية جعل العديد من المتابعين يذهبون إلى وجود مخطط للاستيلاء على بن قردان وتحويلها إلى معقل ثابت للجماعات الإرهابية، ولكن التحول المفترض في تخطيط هذه الجماعات اصطدم على أرض الواقع بجملة من العوائق من أهمها انعدام الحواضن الشعبية والدخول في حالة عزلة اجتماعية عكسها المزاج العام الذي سيطر على المدينة يوم أمس.

وبخصوص الفشل الظاهر في خلق مثل هذه الحواضن رغم أنشطة الاستقطاب المكثفة، أفاد أمية الصديق ”إن الحالة الاجتماعية ببن قردان برهنت رفضها لاحتضان المشروع الإرهابي ويعود ذلك إلى عدة أسباب من بينها ما هو تاريخي متعلق بالانخراط الوطني في النضال ضد المستعمر، وما هو اقتصادي متعلق برفض الأهالي المرتبطين بالنشاط التجاري للسلطة المحتملة للتنظيمات الجهادية التي ستحاول بسط نفوذها على مسالك التجارة إن تسنى لها السيطرة على المدينة“.

وقد أشار الصديق إلى أن الهجوم الأخير لم يفلح في إرباك الأمن والجيش لأنه اتضح برغم الانتقادات التي يمكن أن نوجهها لهاتين المؤسستين أن جاهزية المواجهة كانت مرتفعة، الأمر الذي قلّص من فاعلية هذا الهجوم.

استبعد محدثنا إمكانية تحرك المجموعات الإرهابية في أفق تركيز معقل ثابت ببن قردان، مشيرا إلى أن مخططاتهم تتجه مؤقتا نحو خلق شبكة من المتعاونين المحليين للحفاظ على هذه المنطقة الحدودية معبرا آمنا يسَهّل تحركاتهم في الداخل والخارج خصوصا في ظل الضربات الموجعة التي يتلقونها في ليبيا. ويذهب الصديق إلى وصف الهجوم الإرهابي الأخير بقوة الردع الرمزية التي كانت تهدف من إلى إجبار القوات الأمنية التي تطوق المنطقة الحدودية إلى التراجع وفسح مجالات لعبور المقاتلين والأسلحة.

إن تطوّر النشاط الإرهابي ببن قردان أصبح مربوطا بمدى قدرة هذه الجماعات على تطويع مسالك التهريب والتجارة الموازية وإخضاعها لمصالحها، علاوة على مدى نجاحها في تركيز شبكات محلية من المتعاونين والمُجَنّدين الأمر الذي يسمح بتوسع مطامع الهيمنة على المدينة. ولعل تعطيل هذه الأهداف مرتبط أساسا بالخطط الأمنية الكفيلة بكسر الربط بين التهريب الإجرامي والتنظيمات الإرهابية وتفكيك الشبكات المحلية الموالية لها والتي يبدو أنها تضطلع بأدوار متمثلة أساسا في الاستقطاب وتخزين الأسلحة وتأمين عبور العناصر الإرهابية، وهذه الخطط الأمنية مرهونة مبدئيا بخفض التوتر القائم بين بعض الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية.