بقلم غسّان بن خليفة،
«الجبهة الشعبية وحزب التحرير يقفان وراء أحداث العنف في قرقنة»، يخبرنا رئيس الحكومة أوّل أمس. وقبلها بيوم، سبقه أحد نجوم النقابات الأمنيّة إلى استعراض عضلاته الاستخباراتيّة، في ضيافة إعلاميّة بالصُدفة عُرفَت بشغفها ببطولات ”الأمن الجمهوري“. فكانت فرصة مناسبة ليكشف للشعب أنّ غول ”الارهاب“ عاد ليُطلّ برأسه من قرقنة، بعد أن احتفلت السلطة طيلة أسابيع بدحره في بن ڨردان.
لاشكّ في أنّ فئة من التونسيين الجزِعين دومًا على سلامة ”النمط“ ستصدّق هذه الترّهات وتساهم في نشرها. لكنّي أجزم أنّ الأغلبيّة تشعر بأنّها بصدد مشاهد مكرّرة من فيلم مألوف. والحقُّ أنّ هذه التصريحات توفّر لنا مادّة ثرّية للتحليل. فهي تندرج ضمن ظاهرة متكرّرة بشكل آلي وبخصائص متشابهة إلى حدّ كبير.
”العصابة الحاكمة“ واستراتيجيّتها للسيطرة
فنحن إزاء نسخة معدّلة من نفس السياسة المعتمَدة لضرب الحراك الاجتماعي والمواطني، منذ انتفاضة الحوض المنجمي 2008، مرورًا بانتفاضة 17 ديسمبر 2010 وسليانة 2012 وتحرّكات ولاية ڨبلّي في 2015، وصولاً إلى انتفاضة الڨصرين وتحرّكات الأحياء الشعبية شتاء هذا العام وغيرها. لكن يجب التنويه أوّلاً إلى أنّ هذه السياسة تندرج ضمن الاستراتيجيّة التي تسيطر بها العصابة الحاكمة (وهي الرديف الأدقّ لمصطلح ”الطبقة الحاكمة“ في السياق التونسي) على البلاد. وهنا يجدر التأكيد على أنّ استعمال مصطلح العصابة ليس انطباعيًا أو من باب الشتيمة، بل أزعمُ أنّه توصيف موضوعي لتركيبة الطبقة الحاكمة عندنا (وهي أوسع بكثير من المكوّنات الحزبية للفريق الحاكم). كيف لا ومن أبرز رموزها رئيسٌ يُشتبه في تورّطه مع متحيّلين من النظام السابق ويتدخّل لتعطيل الاجراءات القضائيّة ضدّهم، ورئيسُ حزب يشارك في الحكم يُشتبه في فساد مصدر أمواله، ووزير لا يتحرّج من إعداد اعلانات عروض على مقاس أصدقائه بالبنوك الغربيّة ومدير شركة نافذ مشتبه في تورّطه مع مافيا الفساد في القطاع النفطي ورئيس حزب ”معارض“ يسعى لتهريب أمواله إلى الخارج ووزير خارجية سابق يستقبل الهبات الأجنبية على حسابه الخاصّ والخ. ولأنّ المجال لا يتسّع للتفصيل في تركيبة ”العصابة الحاكمة“ يمكن الاكتفاء بقول أنّ السلطة التنفيذيّة (حكومة ورئاسة) لا تمثّل فيها سوى الواجهة أو رأس جبل الجليد، فيما يعود القرار الفصلُ بدرجة أولى لممثّلي المؤسّسات المالية العالميّة والشركات متعدّدة الجنسيات وممثّلي الدول الغربيّة الأقوى، وبدرجة ثانية لوكلائهم المحلّيين من برجوازيّة الكمبرادور (وتعني بالبرتغالية من يشتري بأسعار بخسة بضائع للشركات الأجنبية)، واسمُها الحركي ”اتّحاد الصناعة والتجارة“، التي تقتاتُ من فُتاتهم.
ويتمّ تنفيذ استراتيجيّة السيطرة هذه على يد جيوش من المرتزقة، أو المغلوب على أمرهم، من أبناء الطبقتَيْن الوسطى والمُفَقَّرة المنتشرين في ثلاث قطاعات بالأساس: التشريع والإعلام والبوليس. الأوّل يضع الإطار الضروري الذي يُقنّن نهب ثروات الشعب والتخلّي عن سيادة البلاد (مثلاً مجلّة الاستثمار الجديدة، القانون الأساسي للبنك المركزي، اتفاقيات التجارة الحرّة، اتفاقيات القروض، اتفاقيات التعاون العسكري والخ.). فيما يلعبُ الثاني دورًا أساسيًا (إلى جانب مؤسّسات التعليم و”المجتمع المدني“ وغيره) في تكريس الهيمنة الثقافية التي تحتاجها كلّ الطبقات الحاكمة لترويض المجتمع إيديولوجيًا وقيميًا. أمّا الثالث فهو العصا التي تؤدّب بها الطبقة الحاكمة الفئات المُهمّشة والمُضطهَدة عندما تنجح في التحرّر من قيود الهيمنة الثقافية وتبادر إلى تنظيم نفسها والنضال من أجل افتكاك بعض حقوقها. وفي نفس المعنى، يقول المفكّر اللاسلطوي ناعوم تشومسكي:
تلعب الدعاية في النظام الديمقراطي، نفس الدور الذي تلعبه عصا البوليس في الديكتاتوريّات.
استنتاج تشومسكي كان بالأساس من خلاصات تحليله للديمقراطيات الليبرالية المستقرّة في الغرب، وهو ما يفسّر استمرار الاعتماد بشكل أكبر – وان كان أقلّ ممّا كان في عهد بن علي – إلى عصا البوليس في السياسات الخاصّة بـ ”حالتنا الانتقاليّة“.
كيف يعمل مخطّط ضرب الحراك الاجتماعي؟
لا بدّ من الاشارة أوّلاً إلى أنّ تعاطي الاعلام السائد (أيْ الاعلام التقليدي، خاصّة التلفزي والاذاعي، المملوك للدولة ولرؤوس الأموال) مع الحراك الاجتماعي (وهو يشمل كلّ مظاهر الاحتجاج الحامل لمطالب اقتصاديّة واجتماعيّة بالأساس) يختلف نسبيًا حسب هويّة أطراف التحالف الطبقي الممسك بالسلطة. إذ وجب التذكير بأنّ الجزء الأكبر من هذا الاعلام كان أكثر ولعًا بالعدالة الاجتماعيّة والجهويّة عندما كان مالكوه، المرتبطين عضويًا بالنخبة الحاكمة قبل الثورة، مُكلّفين بمهمّة تعديل ميزان القوى الذي كان مائلاً إثر انتخابات 2011 لصالح حركة النهضة. وما إن تمخّض ”التوافق“ برعاية القوى الغربيّة عن حكومة المهدي جمعة، المدير السابق بإحدى شركات مجموعة طوطال، حتّى اكتشفت جميع وسائل الإعلام السائد أنّ الحراك الاجتماعي يضرّ بـ”الاقتصاد الوطني“ وبـ”الوحدة الوطنيّة“ وأنّه حان وقت ”العودة إلى العمل“. وعمومًا يمكن تقسيم المخطّط المُتبّع في ضرب الحراك الاجتماعي إلى مراحل متتالية، يتمّ الانتقال إلى كلّ واحدة منها إثر فشل سابقتها:
- تجاهل الإعلام السائد الاحتجاجات الاجتماعيّة عند بدايتها عسى أن تنتهي من تلقاء نفسها: وقد أمسى هذا التجاهل أصعب بعد ”الثورة“، خاصّة عندما تكون شرارة الاحتجاجات حدثًا دراميًا يُفضي إلى هبّة شعبيّة أو مواجهات مع الأمن (سليانة 2012 أو القصرين 2016). لكنّ ذلك ممكن وقتما يتعلّق الأمر باحتجاجات محدودة، خاصّة اذا كانت بعيدة عن العاصمة، تقوم بها مجموعات صغيرة لا تفلح في بناء تحالفات مع قطاعات أخرى من المجتمع (اعتصامات المعطّلين الأخيرة في الحوض المنجمي وفي الدهماني)، أو عندما تكون مصالحها متضاربة مع أطراف اجتماعيّة يُتوقَّع منها المساندة (خاصّة التحرّكات العمّالية ومن آخرها اعتصام حرّاس شركة ”الستاڨ“ الذين خذلتهم نقابات اتحاد الشغل).
- الاهتمام النسبيّ مع ترسيخ سرديّة العصابة الحاكمة: يقع المرور إلى هذه المرحلة الثانية عندما يكون الحراك الاجتماعي قويًا ويخلق ميزان قوى يسمح له بتجاوز محاولات تجاهله اعلاميًا. وهناك عمومًا نوعيْن من الاحتجاجات الاجتماعيّة القويّة: الأوّل، هبّة شعبيّة تندلع فجأة كردّ فعل على حدث دراميّ يهزّ مشاعر الناس ويتصادم خلالها المحتجّون مع قوّات الأمن ويستهدفون مقرّات السلطة السياسية (مثلاً وفاة الشابّ رضا اليحياوي في الڨصرين)؛ الثاني تحرّك اجتماعي يبدأ على مستوى ضيّق وبدون جلَبة اعلاميّة، لكنّه ينجح في تطوير تكتيكه إلى حدّ خلق حالة ضغط ميداني تمسّ بمصالح أحد أركان ”العصابة الحاكمة“ (تعطيل انتاج شركة بتروفاك في قرقنة أو تعطيل نقل فسفاط الحوض المنجمي). في الحالة الأولى يحصل التدخّل الأمني منذ البداية لكنّ سقوط ضحايا يؤدّي إلى افقاده فاعليّته والى توسيع حالة التضامن الجماهيري، فتضطرّ السلطة إلى الاستغناء عنه مؤقّتًا ويتمّ التركيز أكثر على الجبهة الاعلاميّة. ولاشكّ في أنّ من أهمّ الدروس التي تعلّمتها السُلطة من انتفاضة 17 ديسمبر، بتوجيه ونصح من مستشاري القوى الغربية ”الراعية للتحوّل الديمقراطي“، يتمثّل في عدم الاعتماد المبالغ فيه على القمع الأمني والتعويل قدر الامكان على ”القوّة الناعمة“. إذ أثبتت الوقائع أنّ استعمال الرصاص الحيّ وسقوط شهداء يؤدّيان إلى تأجيج الاحتجاجات لا اخمادها.
أمّا في الحالة الثانية من الحراك القويّ، فإنّ التدخّل الأمني يأتي لاحقًا. إذ عندما يفشل التجاهل الاعلامي وينجح المحتجّون في ادامة حالة الضغط الميداني ما يكفي من الوقت لإيلام رأس المال، يضطرّ الأخير إلى استدعاء حليفته الدولة (الاسم الحركي للسلطة السياسية)، التي تتدخّل لانقاذه عبر جهازها القمعي. وعندما ينجح الحراك الاجتماعي في الصمود أمام الهجمة البوليسيّة وفي توسيع حلقة التضامن معه (كما جرى في قرقنة في الأيّام الأخيرة) يضطرّ الاعلام السائد إلى المرور من مرحلة التجاهل إلى مرحلة ”التفهّم مع فرض سرديّة العصابة”. وهي المرحلة التي سادت الأسبوع الماضي، قبل التصريحات الأخيرة المذكورة في مطلع المقال.
في هذه المرحلة يُبدي الاعلام السائد شيئًا من التعاطف والتفهّم لمطالب الفئات المُهمّشة، لكنّه يحاول أن يُلزمها بقواعد اللعبة المناسبة للعصابة الحاكمة. ففي كلّ الحالات، يردُ هذا ”التعاطف“ مشروطًا بالحفاظ على ”سلميّة الاحتجاج“، وكأنّه يحقّ لأشباه الاعلاميين والسياسيين و”الخبراء“ المُترفين أن يُحدّدوا للمضطهَدين كيف يكسرون قيود اضطهادهم. ولا بأس كذلك في أن يكون هذا ”التفهّم” مقرونًا بشيء من النقد لـ”عجز السلطة وفسادها“، مع افساح المجال لممثّليها بأن يقدّموا وعودهم المعهودة بـ”محاسبة المذنبين“ و”إصلاح الأوضاع“. ويتوازى ذلك مع استدعاء فيلق ”الخبراء الاقتصاديين“ ليقدّموا تحاليلهم المُنقَّعة في الحساء النيوليبرالي، ليُفهموا المشاهدين – خاصّة أبناء الطبقة الوسطى الذين لا يمنعهم تعاطفهم الانساني من استعجال عودة الاستقرار – أنّه لا بديل من ”التسريع في الاصلاحات الاقتصاديّة الكفيلة بجلب المستثمرين الأجانب” لأنّ ”الدولة عاجزة عن خلق الثروة وحلّ معضلة البطالة“.
أمّا في حال لم ينجح المحتجّون في خلق حالة تعاطف جماهيري أو توتّر ميداني وازن، فإنّه يُحبّذ الحديث عنهم في الاعلام بضمير الغائب. وعادةً ما يكون ذلك في معرض سرد ممثّل السلطة السياسية أو الاقتصاديّة للرواية التي يراها مناسبة حول ما يجري. وهذا ما حصل عند بداية قضيّة شركة بتروفاك بقرقنة، كما حصل مع الاعتصامات الأخيرة بالحوض المنجمي والدهماني وغيرها. إذ رأينا طيلة الشهور الأخيرة كيف كان عماد درويش، ممثّل الشركة البتروليّة، ينتقل ضيفًا مبجّلاً بين وسائل الاعلام السائد من اذاعات وتلفزات ونشريات اقتصادية متخصّصة. وطبعًا لم يجرُأ أيٌّ من ”الاعلاميين“ الذين حاوروه على مساءلته بخصوص ورود اسمه كمشتبه به في ”مافيا النفط“ في تقرير المرحوم عبد الفتاح عمر. كما لم نرَ ممثّلي المعتصمين المعطّلين عن العمل في ”البلاتوهات“ أو نشرات الأخبار قبل اندلاع المواجهات الأخيرة. وفي هذه الحالة الثانية (قرقنة مقارنة بالڨصرين) يقتصر الاستدعاء والتناول الاعلامي لممثّلي السلطة – رغم تداخلهم المباشر مع القضيّة – على توبيخهم لتقصيرهم في حماية مصالح ”المستثمرين“ وعدم نجاحهم في إعادة الاستقرار.
وفي حال لم تُتوّج المرحلة 2 ، بعد مرور أسبوعيْن على أقصى تقدير، بإخماد الاحتجاجات، يتمّ الانتقال إلى المرحلة الثالثة.
- تشويه وتجريم الحراك واختلاق ”الأطراف المحرّكة“: إلى جانب خطاب ”التفهّم“ ووعود ”الحلول التنمويّة“، يتمّ تشويه الاحتجاجات بشكل تدريجي مدروس بغاية تجريمها وتفتيت حالة التعاطف العامّ معها. ويكون ذلك عبر تركيز الاعلام السائد على حوادث ”العنف“. ومعلومٌ أنّ هذا الاعلام قرّر سلفًا أنّه لا يحقّ للمضطهَدين اعتماد العنف كوسيلة لردّ العنف المادّي وغير المادّي الممارس ضدّهم من قبل أركان العصابة الحاكمة وأذرعها القمعيّة. وخاصّة العنف الأكبر المتمثّل في تفقيرهم واقصائهم من دورة توزيع الثروة التي يحتكرها أعضاء الطبقة الحاكمة. وهنا تبادر الأخيرة، عبر تسريب تصريحات غير مؤكّدة لمسؤولين سياسيين أو عبر تكليف بعض صغار مرتزقتها بالظهور في الاعلام، إلى اتّهام ”أطراف لا علاقة لها بالمحتجّين ومطالبهم المشروعة“ بـ”الوقوف وراء أحداث العنف“ أو بـ”توزيع أموال على المتظاهرين“. وعادةً ما يقع الاختيار على العناوين السياسيّة المغرّدة خارج السرب كالجبهة الشعبيّة وحزب المؤتمر وحزب التحرير والخ. ولإضافة المزيد من التشويش، يتمّ اعتماد النسخة المنقّحة الأكثر إثارة، ومفادها أنّ هنالك ”خلايا ارهابيّة نائمة تسعى لاستغلال حالة الفوضى والفراغ الأمني من أجل افتكاك الأسلحة واسقاط الدولة“ والخ. حصل هذا أثناء انتفاضة ديسمبر، وقبل ثلاث شهور في الڨصرين، وقبلها في احتجاجات الجنوب، واليوم في قرقنة. ولا ندري أين ستستيقظ ”الخلايا النائمة“ صباح غد؟
- استنزاف الحراك والعودة إلى التجاهل: عادة ما تنجح المرحلة الثالثة في اخماد الاحتجاجات، أو على الأقلّ في اضعافها وتهميشها. وهذا النجاح نسبيٌّ ومؤقّتٌ دائمًا لأنّه لا يقضي على أسبابها (احتجاجات الڨصرين والدهماني والحوض المنجمي). لكنّ حتّى هذا النجاح المؤقّت غير مضمون لأنّه مرتبط بطبيعة الحراك وبالتكتيكات التي سيعتمدها أصحابه. ففي حالة انتفاضة الڨصرين الأخيرة، اكتفت العصابة الحاكمة باخلاء مقرّات السلط الجهويّة ليعتصم فيها المُعطّلون عن العمل. بالمقابل لم ينجح هؤلاء في الابقاء على جذوة التضامن الجماهيري والضغط الميداني المحلّي مشتعلة. وذلك لعدم توفقّهم في تطوير خطاب يتجاوز حدود مجموعتهم الضيّقة واكتفائهم بشعارات فضفاضة عن ”التشغيل والتنمية لولاية الڨصرين“. كما لم يطالبوا بتنفيذ اجراءات ملموسة تُحرج السلطة وتساعدهم على حصد دعم قطاعات أوسع. ورغم أهمّية قرار نقل جزء من المعركة إلى العاصمة وصمودهم البطولي طيلة شهريْن في العراء أمام وزارة التشغيل، فإنّ عدم سعيهم إلى بلورة تحالف أوسع مع المُعطّلين القادمين من جهات أخرى حرم هذه الخطوة الجريئة من امكانات تطوّرها. هذا كلّه وغيره سمح، في حالة اعتصامات القصرين والاعتصامات الأخيرة بالحوض المنجمي، للسلطة بالاكتفاء بحصارها أمنيًا وتجاهلها اعلاميًا. لكن هل سينجح كذلك مع قرقنة؟
- الإجهاز على الحراك عبر الهرسلة القضائيّة والأمنيّة: بعد أن يقع استنزاف المحتجّين وعزلهم عن حاضنتهم الشعبيّة المحلّية، ومع تحوّل أنظار الرأي العامّ إلى قضايا جديدة، يصير من السهل على العصابة الحاكمة أن تُجهز على التحرّكات الاجتماعيّة. ويتمّ ذلك عادة عبر الملاحقة القضائيّة للمعتصمين، ثمّ مداهمتهم أمنيًا، وايقافهم وتعنيفهم بعيدًا عن أضواء الاعلام. تؤدّي الايقافات إلى حملة تضامن من الناشطين السياسيين، فيقع الافراج عن المعتصمين بعد فترة قصيرة. يذهب هؤلاء لبيوتهم لأخذ قسط من الراحة المستحقّة، ويعود مناصروهم إلى معاركهم اليوميّة المتعدّدة. هكذا ينتهي التحرّك، لكن عدم انتفاء أسبابه يجعل تجدّده مستقبلاً احتمالاً واردًا.
ما الذي يميّز حراك قرقنة؟
يتميّز الحراك الاجتماعي في قرقنة بعدد من الخصائص المميّزة. أوّلها – أو بالأحرى آخرها كرونولوجيًا – أنّه نجح في صدّ هجمة الآلة القمعيّة، بل وفي إهانتها.
ثانيًا، النضج التكتيكي اللافت للمحتجّين. إذ اعتمد هؤلاء خطّة مُحكمة تُبِين عن ذكاءٍ حادّ. أبرز ملامحها استهدافهم مباشرة لرأس المال الكبير وعدم الاكتفاء بالضغط على الدولة. فهم يعلمون جيدًا أنّ مركز القرار الحقيقي بيَد الأوّل. وأنّه لا يضير الثانية في شيء ترك مقرّاتها الاداريّة للمعتصمين – بل أنّها تراهن على غضب بقيّة المواطنين بالجهة نتيجة لتعطلّ الخدمات الاداريّة – ولا حتّى إخلاء مقرّاتها الأمنيّة وتركها للجيش. أمّا رأس المال – بتروفاك في قضيّة الحال – فإنّه يستطيع أن يتحمّل لفترة ما أن يعطلّ المعتصمون عمليّة الانتاج. لكن عندما يصل ضغط المعتصمين إلى تهديد أرباحه، فانّ هذا الأخير يجد نفسه مضطرًا إلى ردّ الفعل، وبشراسة ان لزم الأمر. وهنا يتمّ الالتجاء من جديد للدولة، ممثّلة في جهازها القمعي، للبطش بالمحتجّين. فالدولة ليست سوى أداة تنفيذيّة في يد رأس المال، وخاصّة الكبير والأجنبي منه. أو هيَ، كما ينقُل لينين عن ماركس في كتابه الثورة والدولة: «هيئةٌ للسيادة الطبقية، هيئةٌ لظلم طبقة من قِبل طبقةٍ أخرى، هيَ تكوينُ ”نظام“ يمسَح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطّده». وهذا يحيلني إلى مجادلة الصديق ثامر المكّي بخصوص العنوان الذي اختاره لأهمّ وأفضل عمل اعلامي جادّ تمّ انجازه حول أحداث قرقنة. إذ أنّ وصف موقف الدولة حيال ما يجري بـ”الاستقالة“ و”الضعف“ يوحي بأنّها محايدة أو غير قادرة على التدخّل. فيما يدلُّ توظيفها لجهازها القمعي لفائدة رأس المال الأجنبي على المعسكر الذي تقف في صفّه. كما أنّ تنصّلها من إنفاذ الاتّفاق الذي وقّعت عليه مع المعتصمين لا يدلّ على ”استقالة“، بل هو تراجعٌ محسوب لكون هذا الاتفاق لا يخدم مصلحة الشركة البتروليّة. ولأنّ نجاح هذا الأسلوب في قرقنة، بعد أن فشل ذلك سابقًا في اعتصام الفوّار، سيُعدُّ تطوّرًا نوعيًا، وسيُقدّم نموذجًا قد يسعى لاتبّاعه معطلّون آخرون عن العمل في جهات أخرى. وبالتالي سيمثّل نجاح اعتصام المعطّلين في قرقنة ”سابقة خطيرة“، لا يمكن لرأس المال الكبير وحلفائه في العصابة الحاكمة أن يسمحوا بترسّخها.
إلى ذلك، تَميّز معتصمو قرقنة بخطابهم الاعلامي الرصين. فرغم استهدافهم لرأس المال استفادوا بذكاء من كون أغلبية الحقل الذي تستغلّه شركة بتروفاك يعود إلى المؤسّسة التونسية للأنشطة البتروليّة. فهم يعرفون بلا شكّ أنّ هذا ليس سوى تفصيل شكليٌّ. لكنّه ساعدهم في الردّ على من يعتقدون بوجود فرق بين الدولة ورأس المال، ويستنكرون عليهم ”تعطيل انتاج الشركة“ بينما الدولة هي من تخلّت عن الاتفاق الذي وقّعته معهم. أيضًا، يجب التنويه بتوفيق المعتصمين في الربط بين قضايا متعدّدة تهمّ غيرهم من مواطني قرقنة، تحديدًا الأضرار البيئيّة التي تسبّبها شركات الطاقة وتهديدها لرزق الصيّادين بالجزيرة. وأخيرًا، قرارهم الفَطِن بتحويل مكان اعتصامهم من أمام موقع الانتاج التابع للشركة إلى طريق قريب من المنطقة السكنيّة، ممّا منع قوّات القمع من الاستفراد بهم وأفضى إلى حالة تضامن واسعة من قِبل المواطنين.
أخيرًا، لا شكّ في أنّ ”الحلّ الأمني“ للعصابة الحاكمة لاقى فشلاً ذريعًا في قرقنة. ولذلك نراها الآن تطبّق المرحلة عدد 3 من خطّتها المعهودة لكسر الحراك الاجتماعي، أيْ تشويهه بهدف تجريمه. لكنّ ذلك لا يعني الاستغناء عنه مطلقًا، بل قد تعود إليه العصابة الحاكمة بصيغ أخرى في حال لم تنجح عمليّات تشويه المُعطّلين واستنزافهم. وخاصّة في حالِ واصل هؤلاء حفاظهم على وضوح الرؤية واستهدافهم لصاحب السلطة الحقيقي: رأس المال.
iThere are no comments
Add yours