كشَف الحراك الاجتماعي الأخير بجزيرة قرقنة عن الأوضاع الداخلية لمنظومة الحكم ومقاربتها في معالجة المطالب الاجتماعية. وظهر الترابط جليا بين الأزمة السياسية التي يعيشها الائتلاف الحاكم وبين الأزمة الاجتماعية، رغم هيمنة المنهج التعويمي على الخطاب السياسي الحاكم، الذي انعكس بشدة في تصريحات رئيس الحكومة الحبيب الصيد أثناء اللقاء الدوري الذي جمعه برؤساء تحرير الصحافة المكتوبة يوم السبت الفارط.
التصريحات الرسمية الناعمة، المُشِيدة بالتضامن الحكومي، لم تُفلح في إخفاء خطوط التصدّع البادية على جدران البيت الحاكم. وقد شكّل الاجتماع الثنائي، الذي جمع مساء أمس حزبي نداء تونس وحركة النهضة، منطلقا لتحوّل جديد، قد ينتهي بتغيير تركيبة الائتلاف الحاكم، خصوصا وأن هذا اللقاء الغير مرتقب لم يستسغه بقية ”شركاء الحكم“، كحزب آفاق تونس.
منهج تسفير الأزمة
اندلع الحراك الاجتماعي بجزيرة قرقنة، في الوقت الذي يشهد فيه الائتلاف الحاكم تناقضات حادة بين مكوناته، بلغت ذروتها عند مطالبة رئيس حزب آفاق تونس ووزير التنمية والتعاون الدولي، ياسين إبراهيم، بإجراء تعديلات على حكومة الحبيب الصيد. وفي ظل غياب استراتيجيا لمواجهة المطالبات التي رفعها الحراك، التجأت الحكومة إلى الحلول الأمنية. ولكن تماسك الجبهة الاجتماعية أدى إلى تراجع الحكومة عن المنهج الأمني، باحثة عن إيجاد مسوغات دعائية لتبرير هذا التراجع.
نهضت الدعاية الرسمية على آلية رئيسية، يمكن وصفها بـ”تسفير الأزمة“، وذلك من خلال تقويض الخلفيات الحقيقية للحراك الاجتماعي، واستبدالها بخلفيات جديدة. حيث تجاهل رئيس الحكومة الأساس الاقتصادي الذي أدى إلى اندلاع الاحتجاجات وأرجع أسبابها إلى التحريض السياسي الذي مارسته بعض الأحزاب السياسية، خصوصا الجبهة الشعبية وحزب التحرير.
يعكس هذا المنهج الدعائي التوجه الفوقي السائد في إدارة الأزمات الاجتماعية والسياسية، وذلك بغية الحد من فعالياتها الأفقية وحصرها في دوائر نخبوية ضيقة، لتصبح بذلك “أزمة أحزاب” وليست أزمة مجتمع، ومن هذا المنطلق يجري الترويج لشعارات ”الحوار الوطني“ و”الوحدة الوطنية“ و”التوافق“ للإيهام بأن المشاكل الاجتماعية لا يمكن حلها إلا من خلال تقريب وجهات النظر بين الأحزاب والهيئات الفاعلة، بغظ النظر عن الشروط الاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في صناعتها. وبقدر ما ساهم هذا المنهج في الحفاظ على الأزمة الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها في كل مرة، فإنه يوفر للحكومات هامشا للمناورة من أجل ترتيب أوضاعها الداخلية وتصريف أزماتها.
هشاشة الائتلاف الحاكم
رغم الاتفاق الحاصل بين مكونات الائتلاف الحاكم حول الخيارت العامة للحكم، فإن خلافاتها بدأت تطفو على السطح، خصوصا أثناء رفض الكتلة البرلمانية لآفاق تونس التصويت على القانون الأساسي الجديد للبنك المركزي، ليس من باب عدم الاقتناع بهذا المشروع وإنما في إطار مناورة سياسية من داخل الائتلاف الحاكم، وهو ما اضطر الحبيب الصيد إلى الإقرار بأن حكومته لا تحظى بدعم مطلق من رباعي الحكم.
إن الانتقادات التي يوجها حزب آفاق تونس لحكومة الصيد -وبمعاضدة من حزب الاتحاد الوطني الحر في بعض الأحيان- تعكس إرادة في إعادة التموقع داخل الخارطة الإئتلافية، لأن ”مياهٍ كثيرة جرت تحت الجسر“ كما يقال، حيث تغيرت موازين القوى الانتخابية مقارنة بأواخر سنة 2014، خصوصا بعد الأزمة التي عصفت بحزب نداء تونس وأدت إلى تناقص كتلته البرلمانية. ومن هذا المنطلق طالب آفاق تونس في مرات سابقة بإجراء تعديلات على الحكومة تحت يافطة إضفاء ديناميكية جديدة على عملها، وعندما لقي صدّا من أغلبية الائتلاف الحاكم أصبح يلعب دور المعارضة البرلمانية من داخل الحكم.
إن التمثيلية الانتخابية التي هيمنت على تشكيل الإئتلاف الحاكم، خَلقت تناقضا طبيعيا بين الكتل الكبيرة والأخرى الأقل حجما، وباتت هذه الأخيرة تعبّر عن تذمرها من سياسة التهميش التي تتعرض لها، من خلال الإشارة إلى تجاوزها في اتخاذ القرارات، وهو ما عبر عنه مرات عديدة قياديون في حزبي آفاق تونس والاتحاد الوطني الحر. علاوة على أن اقتراب موعد الانتخابات البلدية أصبح يطرح الكثير من التساؤلات حول إمكانية تعميم التجربة الإئتلافية الهرمية على الانتخابات القاعدية، خصوصا وأن آخر المعطيات تشير إلى أن هناك تحالفا يُطبَخ على مَهلٍ بين نداء تونس وحركة النهضة، دون مشاركة حليفيهما في الحكم.
تعزيز التحالف الثنائي بين النهضة ونداء تونس
انعقد يوم أمس الاثنين لقاء ثنائي جَمع حزبي نداء تونس وحركة النهضة، وقد أعلن المجتمعون أن الغاية من هذا اللقاء تفعيل تنسيقية الإئتلاف الحاكم. ولكن يَلوح بشدة تهافت هذا المحور المُعلَن لأن الاجتماع المذكور لم يحضره الحليفين الآخرين، آفاق تونس والاتحاد الوطني الحر، وقد جاءت تصريحات ياسين ابراهيم معاكسة لمزاعم تفعيل التنسيقية، حيث أكد أن حزبه لم يكن على علم باللقاء الذي جمع النهضة ونداء تونس.
رغم التكتّم حول المحاور التي طُرِحت في هذا اللقاء، فإن الأوضاع السائدة داخل الائتلاف الحاكم تشير إلى أن الحزبين الكبيرين يسعيان إلى إعادة ترتيب الأزمة من خلال وضع شروط جديدة للتحالف. ولعل التوجه نحو فرض الانضباط داخل الائتلاف الحاكم سيشكل قاعدة للقبول بتواجد آفاق تونس والاتحاد الوطني الحر في الحكم مستقبلا. وفي حالة استمرار تمرد الأقلية على سطوة الأغلبية فإن التوجه نحو تعزيز التحالف الثنائي بين حركة النهضة ونداء تونس يصبح أمرا واقعا، خصوصا وأن كل مقوماته السياسية والحزبية متوافرة، ويلعب الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي دورا كبيرا في التعجيل به.
إن المضي في هذا التوجه سيؤثر حتما على التشكيلة الحكومية الحالية، وقد يضع النهضة ونداء تونس أمام فرضية تشكيل حكومة حزبية صرفة، أو الإبقاء على المنهج الذي تشكلت بمقتضاه حكومة الصيد. ولكن يظل تصليب التحالف الثنائي مشروطا بتسوية العديد من الملفات العالقة بين الحزبين تحت عنوان ”المصالحة الوطنية“، وهو ما عبر عنه رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي عقب اللقاء الذي جمعه بالرئيس قايد السبسي يوم السبت الفارط، حيث أشار إلى أن تقدم الأوضاع مشروط بإنجاز المصالحة.
iThere are no comments
Add yours