habib-essid-accord-carthage-essebsi-nidaa

بعد الإفصاح عن رغبته في التوجه إلى البرلمان من أجل طلب تجديد الثقة لحكومته، اكتسحت صورة الحبيب الصيد واجهات الصحف وكأنه بطل قومي، وقِيل كلام كثير عن شجاعة الرجل أمام أمواج الصراع الحزبي على السلطة. هذه الصورة الإعلامية المتماسكة لم تصمد كثيرا أمام الإطلالة المحتشمة لرئيس الحكومة على قناة التاسعة أول أمس، فقد كان محاوره برهان بسيس يجرّه إلى الحديث عنوة عن خفايا استقالته، وفي بعض الأحيان تنقلب الأدوار فيجيب المحاور عوضا عن رئيس الحكومة، ويكتفي هذا الأخير بالإيماء برأسه.

حوار الحبيب الصيد لم يعكس فقط المكونات الحقيقية لشخصية رجل القصبة، بل تجلّت فيه أيضا توجهات الحكم المتصارعة والمتحولة، والتي يبدو وسطها الحبيب الصيد أشبه بالبيدق الذي تتقاذفه  أهواء المتنافسين على رقعة الشطرنج.

الحبيب الصيد ليس سيد نفسه

شبّهَ الحبيب الصيد رفضه الاستقالة بصورة “الجندي الذي لا يفر من ساحة المعركة”، وهنا يبرز سؤال ملح: بأي سلاح يقاتل؟ الأكيد أن الرجل يخوض معركة على أرض السياسة، هذا المجال الذي يتطلب من الخائضين فيه حنكة استثنائية وقدرة على المناورة والقيادة وتمرّس على صياغة الموقف. ولكن بتحكيم هذه المعايير سيبدو الحبيب الصيد فاقدا لشروط خوض المعركة، فهو رجل تنفيذي إداري في المقام الأول. تمّ الدفع به إلى حلبة السياسة في إطار توجّه حكم ذهب فيه حزب نداء تونس الفائز في انتخابات 2014.

الإطلالة الأخيرة طغت عليها الإجابات التقنية الإدارية العامة التي تعكس ضعفا في تشكيل الموقف السياسي، حيث لم يقدّم رئيس الحكومة في نهاية المطاف إجابة سياسية على الضغط الذي مارسته عليه الأحزاب، والذي اتخذ في بعض الأحيان طابعا أخلاقيا مبتذلا. بل اكتفى بالتوصيف ملوّحا في بعض الأحيان بتلميحات عامة تكشف عن شخصية لا تمتلك أدوات المواجهة. ولعل البرود التقنوي للرجل وتعاطيه مع الفعل السياسي بوصفه نجاعة إدارية قبل أي شيء آخر، كانا سببان رئيسيان دفعا الحزب الحاكم بالأمس القريب لترشيحه لهذا المنصب في إطار توجه سياسي فرضته الأوضاع الداخلية والخارجية.

ومن جهتها سعت حركة النهضة لاستثمار هذه الخصائص أثناء الأزمة الداخلية التي شهدها نداء تونس، حيث عرضت خدماتها على رئيس الحكومة بوصفها الأقدر على مساعدته في إدارة شؤون الحكم في ظل انكفاء الحزب الأول على صراعاته الداخلية. وبالفعل تقرّب الرجل من قادة النهضة الأمر الذي ألّب عليه مراكز القرار في نداء تونس وخصوصا شق نجل الرئيس، الذي يلوح الأكثر تمسكا بإزاحة الحبيب الصيد.

الصّيد في قلب صراع المصالح

رغم النزعة الدبلوماسية التي هيمنت على حوار رئيس الحكومة فإنه لم يخف صراع المواقع الذي يعتمل داخل الائتلاف الحاكم، خصوصا عندما يتعلق الأمر بتعيين المعتمدين والولاة أو بتسميات إدارية أخرى، وقد ذكر الحبيب الصيد أيضا قصة الصراع على التحوير الوزاري الأخير. وفي هذا السياق يلوح تغيير حكومته والدفع بمبادرة حكومة الوحدة الوطنية جزءا من هذا الصراع الذي تدفع إليه بالأساس الرغبة في تحسين مواقع الحكم سواءا بالنسبة لحزب نداء تونس أو حركة النهضة وبقية أحزاب الائتلاف. ولعل هذا الصراع كان سببا رئيسيا في أزمة الحكم الحالية. وساهم في خلق تناقضات حادة صلب حكومة الصيد بين وزراء موالين لأحزابهم وبين رئيس حكومة يبحث عن النجاعة الإدارية وغير قادر على إدارة حرب المصالح الحزبية. وقد سبق أن عبّر الحبيب الصيد عن هذا التناقض عندما أشار إلى أن حكومته لا تحظى بدعم مطلق من أحزاب الإئتلاف الحاكم.

رغم أن جل الأحزاب الحاكمة سعت بشكل أو بآخر إلى الاستفادة من الحبيب الصيد إثر تعيينه وتسعى اليوم للاستفادة من رحيله، فإن حزب نداء تونس يظل المتحكم الرئيسي في مصير رئيس الحكومة. ولئن لم يحظى الحبيب الصيد في أول الأمر بدعم كلي من الحزب الفائز في الانتخابات نظرا لبروز توجه يدافع عن ضرورة تقليد المنصب لشخصية من نداء تونس، فإنه حظي بمساندة الشق المتحكم  في الأوضاع آنذاك والمعروف بمجموعة القصر، والتي تضم أساسا صديق الحبيب الصيد رضا بالحاج الذي يعود له الفضل في تعيينه رئيس حكومة بعد أن كان مطروحا لحقيبة الداخلية. ولعل تغير الموازين في نداء تونس أدى إلى تراجع المركز الداعم للحبيب الصيد وبروز شق نجل الرئيس الذي سرعان ما طالب بتغيير خارطة الحكم في إطار ترتيب جديد للأوضاع. وشكل مؤخرا تدخل رئيس الجمهورية عاملا حاسما في إزاحة الحبيب الصيد من خلال مبادرة حكومة الوحدة الوطنية، وهكذا ساهم في إضعاف موقف الجهات الداعمة لرئيس الحكومة الحالي، ولكن هذا لا يمنع تمسكها به كورقة مناورة لم تنته بعد، ويظهر هذا من خلال إصراره على عدم الاستقالة الذي لا يبدو قرارا ذاتيا بقدر ما هو انعكاس لمصالح شق من داخل الحزب الحاكم يخوض صراعا مع شق نجل الرئيس. وفي هذا السياق ذكرت النشرية الإلكترونية Maghreb confidentiel (14/07/2016) نقلا عن مصادر مقربة من دوائر الحكم أن الحبيب الصيد محاط بطبقة رجال الأعمال المنحدرة من الساحل، وأوردت في هذا الصدد اسم رجل الأعمال الثري محمد إدريس، ورئيس الوزراء الأسبق حامد القروي. ويفسّر هذا الأمر اختيار الحبيب الصيد للقناة الخاصة التاسعة لإجراء الحوار، وهي قناة مقربة من الدوائر التي ذكرتها النشرية ويملك فيها شقيق رجل الأعمال والنائب عن نداء تونس رضا شرف الدين أسهما كبيرة.