برز الجدل مجددا داخل مجلس نواب الشعب حول لجان التحقيق البرلمانية، إذ تقدمت الكتلة الديمقراطية بمشروع قانون يتعلق بتنظيم عمل هذه اللجان، وقد شرعت لجنة النظام الداخلي في النظر فيه يوم أمس الخميس. هذا ومن المنتظر أن تُناقش الجلسة العامة المُبرمجة ليوم الثلاثاء 31 جانفي الجاري مقترح تشكيل لجنة تحقيق في شبكات تسفير الشباب التونسي إلى مناطق القتال الإقليمية.

عرِفت المؤسسات التشريعية في الخمس سنوات الفارطة -منذ المجلس التأسيسي- العديد من لجان التحقيق البرلمانية، التي ظلت أعمال ومقررات البعض منها قيد المسكوت عنه، وانتهى الحال ببعضها الآخر إلى التناحر السياسي والإعلامي دون أن تترك أثرا في الملفات التي تعهدت بها. ولعل إعادة التفكير في هذه اللجان يبدأ من استقراء فعاليتها الرقابية على السلطة التنفيذية وتركيبتها وصلاحياتها.

لجنة أوراق “باناما”: تضارب المصالح

منذ الإعلان عن تشكيلها أول شهر ماي 2016 لم تعقد لجنة التحقيق في ما يعرف بـ“وثائق باناما” سوى 4 اجتماعات، ولا يعرف الرأي العام شيئا عن أعمالها وتقاريرها سوى إعلانها الشروع في الاستماع لعدد من المسؤولين من بينهم محافظ البنك المركزي، الشاذلي العياري، ووزير المالية السابق سليم شاكر. تشكلت هذه اللجنة إثر الوثائق المسربة من مكتب المحاماة البنمي “موساك فونسيكا” التي نشر موقع “إنكيفادا” البعض منها بداية شهر أفريل من العام الفارط، والتي تُشير إلى تعامل سياسيين وإعلاميين تونسيين مع هذا المكتب.

تتكون هذه اللجنة من 20 عضو من بينهم 3 أعضاء فقط من المعارضة (2 أعضاء من الجبهة الشعبية وعضو من الكتلة الديمقراطية)، أما البقية من ضمنهم 14 نائب ينتمون إلى كتل الإئتلاف الحاكم، النهضة ونداء تونس وآفاق، إضافة إلى 3 نواب من كتلة الحرة المنشقة عن نداء تونس. يبرز من خلال هذه التركيبة هيمنة واضحة للائتلاف الحاكم على اللجنة من خلال تضخيمها عدديا، بالإضافة إلى هذا يلوح تضارب مصالح بين التركيبة السياسية للجنة وبين الملفات المعهود لها التحقيق فيها، إذ ورد في هذه الملفات شبهات فساد متعلقة بوجوه سياسية تنتمي للأحزاب المُهيمنة على تركيبة اللجنة من بينهم رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وعضوا مجلس الشورى، لطفي زيتون ورفيق عبد السلام، ومحسن مرزوق الأمين العام السابق لحزب نداء تونس والرئيس الحالي لحزب حركة مشروع تونس.

بالتوزاي مع المشاركة في لجنة التحقيق البرلمانية عمدت الأحزاب السياسية المعنية بوثائق باناما إلى التشكيك في مصداقية التسريبات التي نشرها موقع انكيفادا، من ضمنها تصريحات عماد الحمامي وزير التشغيل الحالي والقيادي بحركة النهضة، الذي أشار أواخر شهر أفريل 2016 إلى أنه “بان بالكاشف أن العمل الذي يقوم به الموقع غير جدي وغير حرفي، خاصة بعد حـشر رئيس الحركة راشد الغنوشي وقيادييه لطفي زيتون ورفيق عبد السلام في الموضوع دون وجه حق”. إضافة إلى تصريحات النائب عن كتلة الحرة حسونة الناصفي بداية أفريل 2016، التي شكك فيها في صحة الوثائق متهما القائمين على الموقع المذكور بأن “لديهم أجندات سياسية عالمية”.

تعكس هذه التصريحات الموقف السياسي للأحزاب المُهيمنة على تركيبة اللجنة البرلمانية، وهو ما اعتبره بعض نواب المعارضة أحد الأسباب التي أدت إلى تقييد اعمالها وتكبيلها. في هذا السياق أفاد غازي الشواشي، عضو اللجنة المذكورة والنائب عن حزب التيار الديمقراطي، لموقع نواة “ساهمت الأحزاب الحاكمة والأطراف المعنية بملف باناما في تعطيل عمل اللجنة وإفراغها من محتواها الرقابي، وقد تعزز هذا الدور في ظل غياب مرجع قانوني ينظم عمل لجان التحقيق البرلمانية ويحدد صلاحياتها وتركيبتها”.

لجان تحقيق لوأد الملفات

انطلق مسار تشكيل لجان تحقيق منبثقة عن السلط التشريعية منذ الأشهر القليلة التي تلت انتخاب المجلس التأسيسي، وقد تكونت آنذاك أول لجنة للتحقيق في أحداث 9 أفريل 2012، التي شهدت اعتداءات أمنية عنيفة على المتظاهرين بشارع بورقيبة وسط العاصمة. بدأت هذه اللجنة أشغالها في 6 جوان 2012، ولم يتوصل نشاطها إلى تحديد المسؤوليات الأمنية والسياسية للاعتداءات الموثقة، وانتهت باستقالة 10 من أعضاءها بداية شهر أفريل 2013، إذ أصدروا بيانا أكدوا فيه فشل اللجنة في القيام بدورها الرقابي، مُرجعين ذلك إلى “عدم تعاون الطرف الحكومي وغياب الآليات القانونية”. ويُذكر أن هذه اللجنة ترأسها القيادي في حركة النهضة ووزير التجارة الحالي زياد العذاري، الذي يتشارك في انتماءه الحزبي مع وزير الداخلية الأسبق علي العريض، المتهم الرئيسي من قبل بعض المنظمات وأحزاب المعارضة آنذاك بإعطاء الضوء الأخضر للاعتداءات.

وفي الأثناء تشكلت بعض لجان التحقيق الأخرى المشتركة بين البرلمان والحكومة، على غرار لجنة التحقيق في أحداث الاعتداء على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل في 4 ديسمبر 2012، أو لجان مستقلة على غرار لجنة التحقيق في أحداث الرش بسليانة المكونة من منظمات وجمعيات مستقلة. ولم تُأخذ تقارير هذه اللجان بجدية من قبل الأطراف الحكومية، وتعرضت تقارير البعض منها للتشكيك والطعن.

في الفترة التي تلت الانتخابات التشريعية أكتوبر 2014، تشكلت داخل مجلس النواب لجنة برلمانية للتحقيق في شبهة تعذيب 7 أشخاص تم إيقافهم من طرف فرقة مكافحة الإرهاب بالقرجاني شهر أوت سنة 2015 بتهمة الانتماء إلى خلية إرهابية بالقيروان، وقد شرعت هذه اللجنة في الاتصال بالمتهمين وببعض الإطارات الأمنية، لتنتهي أعمالها بانقسام في مواقف أعضاءها، بين من يعتبر أن شبهة التعذيب وقع تضخيمها على غرار ما ذهبت إليه رئيسة اللجنة بشرى بالحاج حميدة، وبين من يؤكد وجود آثار تعذيب وعدم قانونية الإيقاف على غرار النائب عن حزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي.


بعض اللجان البرلمانية الأخرى طواها النسيان من بينها لجنة التحقيق في شبهة فساد متعلقة بعقد أبرمه وزير التنمية السابق ياسين ابراهيم مع البنك الفرنسي “لازار” في إطار إعداد المخطط الخماسي للتنمية، وقد اندثرت هذه اللجنة التي تشكلت أول نوفمبر 2015 وترأسها النائب عن الحزب الجمهوري إياد الدهماني دون توضيح لمآلات أعمالها، وفي هذا السياق صرّح أحد أعضاءها، النائب عن الجبهة الشعبية فتحي الشامخي، لموقع نواة “لم تتعامل هذه اللجنة بجدية مع الملف قيد التحقيق، وقد اكتفت بمراسلة رئاسة الحكومة في الغرض دون أن تصل إلى تحديد المسؤوليات وكشف الحقيقة”. وأضاف الشامخي بأن “هناك تضامن حكومي- برلماني في التستر على الفساد بين المنتمين للأحزاب الحاكمة”.

يذهب العديد من النواب إلى أن فشل لجان التحقيق البرلمانية يعود إلى غياب قانون ينظمها ويحدد صلاحياتها الرقابية، خاصة أنه سبق وأن بعث قاضي التحقيق الأول بالقطب القضائي المالي في جوان 2016 رسالة إلى مجلس نواب الشعب أشار فيها إلى أن لجنة التحقيق البرلمانية المتعهدة بملف “وثائق باناما” تعد “قضاءا موازيا”. ومن هذا المنطلق تقدمت الكتلة الديمقراطية بمشروع قانون يتعلق بتنظيم عمل لجان التحقيق البرلمانية وتحديد صلاحياتها وإعطاءها طابعا إلزاميا إزاء الملفات والأشخاص موضوع التحقيق، وقد باشرت لجنة النظام الداخلي النظر في هذا القانون أمس الخميس 26 جانفي 2017.

من جهة أخرى يرى نواب من كتل المعارضة أن فشل لجان التحقيق البرلمانية يتجاوز تحديد صلاحياتها القانونية، إذ يعود أساسا إلى عدم قبول الكتل البرلمانية الحاكمة بمبدأي الرقابة والشفافية وسعيها إلى السيطرة على كامل الفضاء السياسي، وذلك من خلال هيمنتها على تركيبة لجان التحقيق التي عادة ما تكون موجهة للبحث في شبهات فساد مالي وإداري تورط فيها مسؤولون في الحكومة والأحزاب الحاكمة.