على مشارف مدينة بئر بن خليفة (صفاقس) تُطل مصبات المرجين التي لا تبتعد كثيرا عن مصنع تحويل نواة الزيتون ”الفيتورة“. وفي أوّل المدينة ينتصب المستشفى الجهوي الذي لم يفتح أبوابه منذ انتهاء أشغاله سنة 2012، ومازالت السلطات تعِد بفتح جزء منه في شهر جوان 2017. بئر علي بن خليفة التي تبعد 68 كلم عن مركز الولاية، ذات ملامح زراعية قائمة أساسا على غراسة الزيتون ويمتهن الكثير من سكانها التجارة مع المناطق الحدودية خاصة مدينة بن قردان، هذا النشاط يُعرف في بئر علي وفي مناطق مجاورة بـ”الكنترا“.

المفترق الرئيسي وسط المدينة غاب وراء ضباب الدخان المُنبعث من العجلات المطاطية، حيث تجمهر المئات من الشبان احتجاجا على سياسات التهميش والتفاوت الجهوي. تزامن الاحتجاج مع تجمع دعى إليه الاتحاد المحلي للشغل، سببه الرئيسي انتشار وباء الالتهاب الكبدي صنف (أ) بالعديد من المدارس الإبتدائية وبعض المعاهد. ومازال الأهالي يتذاكرون حكاية بنت الـ12 سنة، مريم زهمول، التي سبّب لها المرض مضاعفات صحية، أدت إلى وفاتها يوم الخميس 09 فيفري 2017.

مدارس بملامح سبعينيات القرن الماضي

كانت مريم تدرس بالصف السادس من المرحلة الابتدائية بمدرسة بئر الغرايبة، التي تبعد حوالي 17 كلم عن وسط مدينة بئر علي بن خليفة. يؤم المدرسة 131 تلميذ، انتشر في صفوفهم مرض الالتهاب الكبدي صنف (أ) بداية من شهر نوفمبر 2016، وقد بلغت الحالات حسب ما أفادنا به المربون 33 حالة. تتكون مدرسة بئر الغرايبة من 5 قاعات، تتوسطها ساحة صغيرة، وفي ركنها المطل على الطريق تُوجد المجموعات الصحية التي لم تفلح جهود النظافة الأخيرة في ترميم بنيتها القديمة، حتى أن بعض الأولياء الذين التقيناهم أكدوا لنا أن المجموعات الصحية مازالت تحافظ على ملامحها التي عرفوها في سبعينات القرن الماضي.

رفض مدير مدرسة بئر الغرايبة، الذي بلغ سن التقاعد ومازال يباشر الخدمة، الحديث معنا متعللا بالمنشور الوزاري الجديد الذي يحجّر على الأعوان الإداريين التصريح لوسائل الإعلام. ولكن هذا المنشور لم يحل دون الوصول إلى المجموعات الصحية والتقاط صور لها. شكلت هذه الأمكنة حاضنة لانتشار فيروس الالتهاب الكبدي، مراحيض بالية، أحواض شرب جماعية غابت عنها أبسط شروط الوقاية الصحية، يزدحم أمامها عشرات التلاميذ يوميا من أجل التقاط قطرات الماء المتقطعة، التي لا تأتي بانتظام، إذ انقطعت المياه عن المدرسة حوالي شهر أول السنة الدراسية.

قبل انتشار المرض سبق لإدارة المدرسة أن راسلت المندوبية الجهوية للتربية بصفاقس في أربع مناسبات، مُنبهة للأوضاع المتردية للمجموعات الصحية، كان آخرها يوم 18 جوان 2016. هذه المراسلات تجاهلتها المندوبية، التي أيقظها مؤخرا وفاة التلميذة مريم زهمول، لتحاول بذلك أول الأمر احتواء احتجاج الأهالي من خلال الإيهام أنها ستشرع في أشغال الترميم دون الإعلان عن طلب عروض. وأثناء الجلسة التي التأمت أمس الأربعاء 15 فيفري 2017 بولاية صفاقس بين ممثلي اتحاد الشغل والمجتمع المدني وممثلين عن وزارتي التربية والصحة تم الاتفاق على إدخال بعض الإصلاحات بـ14مدرسة ببئر علي بن خليفة إلى حدود سنة 2018. وتحتوي المعتمدية على 54 مدرسة ابتدائية، تفتقد أغلبها إلى مجموعات صحية مهيأة.

الطب المدرسي بين عدم الاستجابة وضعف الإمكانيات

الأوضاع الصحية للمدارس سهّلت انتشار العدوى في صفوف التلاميذ، وسُجّلت العديد من الحالات في مدارس العْروق، بئر الغرايبة، واد الرخام، الناظور، أم شوشة، 2 مارس، الخمايسة، وفي المعهد الثانوي ابن أبي الضياف كذلك. إزاء هذا الانتشار اشتكى الأولياء والمربون من ضعف الإحاطة الطبية وعدم الاستجابة لإجراء تحاليل لأبناءهم المصابين، في هذا السياق أشارت سنية غرايبي، أم تلميذين مصابين بالالتهاب الكبدي صنف (أ) لموقع نواة أن ”الطبيب المدرسي رفض منحي شهادة لإجراء تحاليل لأبنائي رغم أنهم يحملون عوارض المرض“. وأضافت غرايبي أنها قامت بإجراء تحليلات على حسابها الخاص لتكتشف أن ابنيها حاملان لفيروس الالتهاب الكبدي. عدم منح التلاميذ شهادات تمكنهم من إجراء تحليلات طبية بالمستشفى المحلي برّرها رئيس الدائرة الصحية، محسن لحمر، في اتصال أجراه معه موقع نواة بـ”أن فحص العوارض يشكّل مدخلا للسماح للتلاميذ بإجراء التحليلات، التي لا يمكن تعميمها“. وأضاف محسن لحمر بأن ”هناك عيادة يومية بوحدة الطب المدرسي مفتوحة للأولياء الذين لديهم شكوك في إصابة أبناءهم بالفيروس“. تأكيدات رئيس الدائرة الصحية نفاها كمال بن علي، والد طفلة مصابة، الذي أفادنا بأنه لم يتمكن من إجراء تحليلات طبية لابنته بالمستشفى المحلي ببئر علي بن خليفة رغم أنها مصابة بالمرض منذ 15 يوم، مشيرا إلى أنه ليست لديه الإمكانيات لإجراء التحليلات الطبية في مخابر خاصة.

عدم القيام بفحوصات شاملة أرجعه عبد الله بن سالم، ممرّض بفريق الطب المدرسي، إلى أسباب متعلقة بنقص التجهيزات الطبية في تأمين الفحص الشامل لمدارس متباعدة جغرافيا، مشيرا في هذا السياق ”الفريق الطبي يتكون عادة من طبيب وممرضين، ليس بإمكانهم في الأوضاع العادية أداء رسالتهم في التثقيف الصحي والفحص الطبي، فما بالك بوضع انتشار الوباء الذي يستحق إمكانيات استعجالية“. وأضاف بن سالم أنه كان بإمكان الطبيب المدرسي أن يستجيب لطلبات المواطنين في القيام بتحليلات طبية. ويُذكر أن وزارة التربية تعهدت يوم أمس إثر احتجاجات الأهالي بإجراء فحوصات شاملة لتلاميذ المدارس التي ظهر فيها فيروس الالتهاب الكبدي صنف (أ).

بئر علي بن خليفة: الماء مفقود أو ملوّث

كغيرها من المدن والقرى الممتدّة على هوامش مراكز الثروة والقرار، لم تكن معتمدية بئر علي بن خليفة استثناء على مستوى المعاناة من عطش قسري تساوت فيه الأفراد والمؤسسات العموميّة. في الطريق نحو مدرسة بئر الغرايبة، أين كانت تدرس الضحيّة الأولى لفيروس التهاب الكبد من صنف أ، مريم زهمول، اعترضتنا أولى الشواهد على أزمة العطش التي فاقمت من معاناة الأهالي المحاصرين بالمرض والفقر والتهميش. معهد ابن ابي ضياف، مؤسسّة تعليميّة تُحرم من الماء لأكثر من عشرين يوما، نظرا لعدم خلاص الجمعية المائية المسؤولة عن توزيع الماء ديونها المتخلّدة لدى الشركة التونسية للكهرباء والغاز. انقطاع نهائيّ كان خاتمة سلسة يومية من الانقطاعات الدورية للمياه من الساعة العاشرة صباحا حتّى السادسة بعد الزوال طيلة سنة ونصف.

على امتداد الطريق، وصولا إلى وجهتنا الأولى، لم نجد محطّة ربط واحدة لشبكات توزيع المياه خالية من الأوساخ. مشهد فسّره الرئيس السابق للنيابة الخصوصية في بئر علي بن خليفة، محمد زرّوق باضطراب عمل الجمعيات المائيّة المسؤولة عن تزويد المعاهد والمتساكنين بالماء الصالح للشراب وغياب فرق الشركة التونسيّة لاستغلال وتوزيع المياه المسؤولة عن الرقابة الصحيّة والصيانة منذ أكثر من أربع سنوات. يسترسل محدّثنا في شرح معضلة العطش والتلوّث في بئر علي بن خليفة موضّحا انّ عدد عدّادات الماء لا يتجاوز 2650، في منطقة يتجاوز عدد ساكنيها 60 الفا وتضمّ 54 مدرسة و7 معاهد وإعداديّات. رقم يفسّر انتفاضة العطش والمرض التي عايناها في مركز المعتمدية يوم 13 فيفري 2017، حين أقدم شباب المنطقة على إغلاق مفترق الطريق الرئيسي للمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن تفشّي المرض وتواصل عطش الأهالي وهلاك مريم.

ويشير السيّد محمد زرّوق أنّ معضلة العطش تبدو أكثر حدّة وخطورة في المؤسّسات التعليميّة، خصوصا وأنّ معظم التلاميذ الذّين يرتادونها هم من المناطق الريفية والقرى المعزولة على امتداد المعتمديّة. حيث لا تتمتّع سوى 10 مدارس من بين 54 بالربط المباشر والمنتظم بالماء الصالح للشراب. أمّا الباقي فهي مضطرّة إلى جلب الصهاريج وبناء المواجل لتلبية حاجياتها من المياه.

غير بعيد عن معهد ابن أبي الضياف، لم يشفع العجز الجسدي أو الذهني لبعض متساكني بئر علي بن خليفة من ارتدادات أزمة العطش في الجهة. فأكثر من 60 تلميذا من ذوي الاحتياجات الخاصّة محرومون من الماء الصالح للشراب في مركز شمس لرعاية المعاقين. مأساة متواصلة منذ أفريل 2015، بعد ان عمدت الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه إلى قطع الماء واسترداد العدّاد. ويؤكّد طارق الشبالي، مدير المركز، أنّ الشركة رفضت استئناف تزويدهم مجدّدا بالماء الصالح للشراب رغم أنّ المتخلّد من قيمة الفاتورة الاستهلاك لا يتجاوز الألف دينار. وضعيّة دفعت بمدير مركز شمس إلى اللجوء لاستخدام مياه الصهاريج من أجل أعمال النظافة وإبلاغ أولياء الأطفال بتزويد أبناءهم بقوارير المياه من مصادرهم الخاصّة.

لكنّ، حتّى ”المحظوظين“ بالربط بشبكات توزع المياه، كانوا ضحايا للتلوّث وانتشار الأمراض والأوبئة. عدى فيروس التهاب الكبد، أكّد الرئيس السابق للنيابة الخصوصيّة أنّ العديد من الأطفال والبالغين أصيبوا بالجرب وانتشار القمل نتيجة المياه الملوثّة. ويعود هذا التلوّث بالأساس إلى غياب الرقابة الصحيّة على نقاط الربط وقنوات التوزيع، إضافة إلى اهتراء البنية التحتية لشبكة توزيع المياه. أما ما توافر من مرافق صحيّة في المدارس والمعاهد، فتحوّلت نتيجة غياب الصيانة والنظافة إلى حواضن للجراثيم التي تفتك بصغار الجهة المخيّرين بين العطش أو الماء الآسن.

الجمعيات المائيّة: حلّ يتحوّل إلى وبال

بين العطش والتلوّث، تنحصر خيارات أهالي بئر علي بن خليفة ويدفع مواطنوها ثمن الحلول الوقتية والمرتجلة وتجاهل تحذيرات الخبراء من تواصل الاعتماد على آلية الجمعيات المائيّة لتزويد المناطق الريفية بالماء الصالح للشراب. في هذا السياق، يؤكّد الناشط في المجتمع المدني، محسن الكلبوسي، أنّ كلا المعضلتين ناجمتان بالأساس عن الجمعيات المائيّة المسؤولة عن تزويد أهالي الريف بحاجياتهم من المياه، وهي معاناة لا تقتصر على ريف بئر علي، بل تشمل أرياف جميع الولايات وخصوصا ذات الكثافة السكانية المرتفعة على غرار القيروان. ويفسّر محدّثنا تفاقم ظاهرة قطع الماء عن المؤسّسات العمومية في الجهة إلى سوء التصرّف في المال العمومي من قبل المشرفين على الجمعيات المائيّة، حيث يتحمّل تلاميذ المدارس والمعاهد ارتدادات الفساد والتلاعب بالمال العمومي وتراكم ديون الجمعيات المائية لدى الشركة التونسية للكهرباء والغاز، وهو ما يضطرها إلى قطع الكهرباء عن مولّدات ضخّ الماء. لكن المسؤولية لا تتوقّف هنا بحسب السيّد محسن كلبوسي، الذّي اعتبر وزارة المالية المسؤول الأوّل عن تفاقم العطش في الأرياف نظرا لتهاونها في الرقابة المالية والإدارية على الجمعيات المائية.

أمّا بخصوص مشكلة تلوّث المياه، فتعود بالأساس إلى غياب الصيانة والرقابة في قنوات التوزيع التابعة للجمعيات المائيّة والخاضعة بدورها لرقابة وزارة الفلاحة، إذ لا يتم الاعتماد على فرق مختصّة للقيام بأعمال الرقابة والصيانة على قنوات التوزيع ونقاط الربط. كما يلعب غياب الصيانة في المؤسّسات التربوية في المناطق الريفيّة وتقادم المدارس وضعف ميزانياتها إلى اهتراء البنية التحتية وتقادم دورات المياه ممّا يفسح المجال لتلويث المياه المقدّمة للتلاميذ أو تحوّل المرافق الصحيّة إلى مصدر مباشر للإصابة بفيروس الالتهاب الكبدي صنف أ.