تواصلت مساء السبت 18 مارس 2017، سلسلة حلقات النقاش المفتوحة التي تنظّمها “جمعيّة راج تونس” تحت اسم “الڤعدة”. هذه التجربة التي تهدف إلى خلق فضاء تفاعلي بديل عن المنابر الرسميّة والقنوات الإعلاميّة والتواصليّة المهيمنة، جعلت محور حلقة النقاش الخامسة “حكومة الشاهد وين هازّة البلاد؟”. إضافة إلى الحضور الذّين غلب عليهم الشباب، تمّ استضافة كلّ من عبيد البريكي، وزير الوظيفة العمومية والحوكمة المستقيل والنائب منجي الرحوي، رئيس لجنة المالية بمجلس نواب الشعب. أما السيّدة روضة قرّافي، رئيسة جمعية القضاة التونسيين التي كانت الضيفة الثالثة المبرمجة لتأثيث جلسة النقاش المفتوح فقد اعتذرت في اللحظات الأخيرة لالتزامها بحضور اجتماع المجلس الوطني للقضاة.

“القعدة 5″، استطاعت طيلة أكثر من ساعتين، الخوض في نقاشات حقيقيّة سدّت الثغرات واستثارت الأسئلة المهملة التي اسقطتها المنابر الأخرى حول صيرورة الشأن السياسي والاقتصادي وجديّة الحرب على الفساد إضافة إلى مآل البلاد في ظلّ الهرولة الحكوميّة نحو سيناريو الخوصصة ومعالجة الأزمة الاقتصاديّة بمعزل عن المعطى الاجتماعي.

عبيد البريكي ومأزق التبرير

كلمة البداية كانت للوزير المستقيل-كما يحلو له أن يصف نفسه- عبيد البريكي الذّي استهل مداخلته بتبرير انسحابه من التشكيلة الحكوميّة. هذا الأخير أفصح عن اكتشافه للبون الشاسع بين الشعارات التي رفعها الشاهد خلال خطاباته المختلفة وممارسات الحكومة على أرض الواقع. بل يذهب البريكي إلى اعتبار الحكومة المنبثقة عن اتفاق قرطاج انحرفت بشكل واضح عن بنود تلك الوثيقة لتختار السير قدما نحو “إصلاحات” اقتصاديّة للقطاع العمومي قائمة بالأساس على الخوصصة دون الأخذ بعين الاعتبار ارتداداتها السلبية على المستوى الاجتماعي. من ثمّ عرّج الوزير السابق نحو كواليس خروجه من الوزارة، ليكشف أنّ ما دفعه لانهاء تجربته في السلطة، كان اقدام رئيس الحكومة على سحب الملفّات التي كانت من اختصاص وزارته وتحويلها إلى رئاسة الحكومة وبالتالي تجريده من أي قدرة فعلية على آداء المهام التي أوكلت إليه والتي اعتبرها خطوة تمهيدية لإلغاء الوزارة فيما بعد. وقد حذّر عبيد البريكي في خاتمة المداخلة الافتتاحيّة من خطورة هذه الخطوة وانعكاساتها على جهود مقاومة الفساد، إذ اعتبر إلحاق هياكل الرقابة ولجنة الصفقات العموميّة برئاسة الحكومة سيمثل أرضية خصبة أخرى لاستشراء الفساد في القطاع العام.

البريكي الذّي أكّد عدم تراجعه عن تصريحاته السابقة بخصوص ملفّات الفساد، أعلن عن إحالتها للقضاء وإصراره على تتبّعها. لكنّ هذه المداخلة ومناورات تبرير اصطفافه لأكثر من ستة أشهر ضمن الفريق الحكومي الذّي يهاجمه بشراسة اليوم، لم تقنع الشباب الحاضر الذّي حاصره بأسئلة حادّة حول أسباب موافقته على تولّي الحقيبة الوزارية رغم ادراكه لطبيعة السياسة الحكومية تجاه القطاع العام. هذا الهجوم أجبر الوزير السابق على الغوص في التبريرات النظريّة والفكريّة وضرورة التمييز بين التكتيكي والاستراتيجي ومحاصرة الخصم السياسي ومحاربة الفساد والمنظومة من الداخل، كما لجأ إلى استحضار محطّات من تاريخه السياسي والنقابيّ ليصنع اسقاطات تبرّر خياره الأخير. التوتّر الذّي نشأ لفترة خلال النقاشات مع عبيد البريكي، فتح المجال لاحقا لتعميق النقاش الذّي انتقل من التساؤل حول نتائج الخيارات الحكوميّة الراهنة إلى البحث عن بدائل حقيقيّة لإدارة الصراع السياسيّ وفرملة السياسة الحكومية الليبرالية، ليختم عبيد البريكي محذّرا من أنّ التجربة الديمقراطيّة التونسيّة بهنّاتها مستهدفة وأنّ العمل الحقيقي يجب ان يرتكز حماية البلاد من  سيناريوهات دول مجاورة متسائلا عن توقيت إعادة طرح قضايا عودة الارهابيّين واللاجئين وتعميق الخلافات الداخليّة وتعميق  الأزمة الاجتماعية والاقتصاديّة محمّلا الجميع مسؤولية الانزلاقات التي شهدها المسار السياسي والوضع الاقتصادي بعد سنة 2011.

منجي الرحوي الأوفر حظّا

رئيس لجنة المالية والتخطيط والتنمية منجي الرحوي، الذّي قدم للحديث عن البنوك العمومية وسياسة الحكومة للتفويت في المؤسّسات العمومية للقطاع الخاص، كان أوفر حظّا من الضيف الأوّل عبيد البريكي، حيث كانت الأسئلة الموجّهة إليه أقلّ حدّة سواء خلال مداخلته الافتتاحيّة أو لاحقا في النقاش المفتوح مع الحضور.

هذا الأخير بدأ بمحاولة تقديم إجابة عن السؤال المركزي لحلقة النقاش، معتبرا أنّ حكومة الشاهد لا يمكن أن تتحرّك وتمضي قدما في تنفيذ سياساتها لولا دعم الكتل البرلمانية للائتلاف الحاكم الذّي يقدّم الغطاء التشريعي لما يسمّى “الإصلاحات الاقتصاديّة” المفروضة من هيئات النقد الدولية. هذا وعرّج النائب منجي الرحوي على عمليّة إقالة رئيس الحكومة السابق حبيب الصيد، التي مثّلت مفاجئة للأطياف السياسيّة من خارج الفريق الحكومي، ليشخّصها كمناورة من الحزبين الحاكمين لتجديد انفاسهما وتنفيس حالة الإحتقان الشعبي المتزايد في مواجهة الفشل السياسي والاقتصادي المستمّر منذ الانتخابات الأخيرة.

وفي علاقة بالخطّة الحكوميّة لتصفية القطاع العام، اعتبر منجي الرحوي أنّ الحكومات المتعاقبة، وبالأخصّ حكومة يوسف الشاهد تعمل على تطبيق املاءات هيئات النقد الدولية والاستسلام للحرب الدوليّة التي نخوضها هذه المؤسسات المالية لتصفية أي سياسات محليّة تحافظ على الحدّ الأدنى لدور تعديلي للدولة في الشأن الاقتصاديّ. وقد ذكّر هذا الأخير أنّ الخيارات الاقتصاديّة القائمة على تصفية القطاع العام بدأت منذ سنة 1995 وهو ما ادّى على تراجع موارد الدولة من المؤسّسات العمومية من 20% إلى 2.5% خلال العشريتين الأخيرتين.

الأسئلة التي وجّهت إلى رئيس لجنة المالية راوحت بين مسار الخوصصة وقانون الطوارئ الاقتصاديّة ومدى فاعليّة القطاع العام في دفع الإنتاج والنموّ. وقد اعتبر منجي الرحوي في إجاباته أنّ مسار الحالي يدفع بالبلاد إلى الغرق أكثر في دوامة المديونية وترسيخ آليات التشغيل الهشّ والقضاء على أي دور اجتماعي للدولة في الدورة الاقتصاديّة. ولكن وجب التفريق بين الخوصصة القائمة على فتح الباب على مصراعيه امام الخواص أو ما اسماه بالليبرالية المتوحشّة وبين الحفاظ على حضور الدولة الرقابي والتنظيمي للسوق وحماية الفئات الأضعف من الطبقة العاملة. أمّا بخصوص قانون الطواري الاقتصادي، فذكّر الرحوي أنّ القانون تمّ الطعن فيه سنة 2016 إثر تعديلات أعطت صلاحيات واسعة للحكومة في علاقة بمسلة الصفقات العموميّة ودون ضمانات حقيقيّة للرقابة على عمل اللجان. وقد تمّ التوصّل إلى صيغة جديدة سيتمّ عرضها مجددا على مجلس النواب.

أمّا عن الهجمة الراهنة على القطاع العام ككلّ، فاعتبر النائب منجي الرحوي أنّ القطاع الخاصّ ليس بمعزل عن الفشل والإفلاس، ولن يكون التفويت في المؤسّسات العمومية للقطاع الخاصّ ضمانة لتدارك عجزها أو المتاعب الاقتصادية التي تعيشها. حيث يكمن الحلّ في إعادة النظر في حوكمة المؤسّسة الاقتصاديّة عمومية كانت أو خاصّة وطرق التسيير والرقابة. ليعرّج على حادثة شركة الخطوط التونسيّة للطيران، والتي تمّ استغلالها لمزيد الضغط نحو مسار الخوصصة واستعمالها ذريعة لتبرير هذه الخيارات والتركيز على المشاكل والهنّات التي تنخر القطاع العام كمقدّمة لتصفيته، ليختم بالعودة إلى سؤال حلقة النقاش، معتبرا أنّ الحكومة الحالية وكتلها النيابيّة تدفع نحو القضاء بشكل نهائي على احد مقوّمات السيادة الوطنيّة المتمثّلة في المؤسّسات الوطنيّة وتسليم البلاد إلى رؤوس الأموال المحليّة والأجنبيّة دون شروط أو ضوابط تحت مسميّات الإصلاح والهيكلة.