في خضّم الاحتجاجات التي اندلعت في العديد من الجهات خلال الأسبوع الثاني من شهر أفريل الجاري، على خلفيّة تواصل الوضعيّة المزرية على الصعيدين الاجتماعيّ والاقتصادي في أغلب مناطق البلاد، كانت مقّرات الفاعلين الاقتصاديّين والسياسيّين والمنظّمات الوطنيّة، تشهد حركيّة كبيرة واجتماعات متواصلة مع أعضاء وفد صندوق النقد الدوليّ.

هذه البعثة التي وصلت تونس في السابع من أفريل الجاري واستمرّت زيارتها 11 يوما، تمثّلت مهمّتها في إجراء المراجعة الأولى لبرنامج الإصلاح الهيكلي وفق شروط قرض “تسهيل الصندوق الممدد” والذي تمت الموافقة عليه في شهر ماي 2016. زيارة عكست تململ صندوق النقد الدولي من “تباطؤ” حكومي في تنفيذ إملاءاتها وترجمته بتعطيل صرف القسط الثاني من القرض المتفّق عليه، والذّي لم تفرج عنه إلاّ إثر تعهّدات حكوميّة جديدة بتسريع الإستجابة العمياء لوصاياها.

زيارة لضبط “التراخي” الحكومي

في نهاية زيارتها إلى تونس يوم 18 أفريل الجاري، أصدرت بعثة صندوق النقد الدولي بيانا أعلنت من خلاله صرف القسط الجديد من قرض “تسهيل الصندوق الممدّد” بقيمة 308 مليون دولار أمريكي. قرار جاء إثر مباحثات مطوّلة مع الأطراف التونسيّة ذات العلاقة بالشأن الماليّ والإقتصاديّ، على غرار المسؤولين الحكوميّين والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة. وقد تمّ تجميد صرف هذا القسط من القرض الجملي البالغ 2.9 مليار دولار، والذي كان مقررا في ديسمبر 2016 بسبب ما اعتبرته هيئة النقديّة الدوليّة حينها بطأ في تنفيذ الإصلاحات في قطاع الوظيفة العمومية والقطاع البنكي.

البيان المذكور أشار إلى تواصل ارتفاع مستويات العجز المالي والخارجي، وتزايد الديون، وإخفاق الحكومة في تحقيق نسب النمو المرجوّة لتخفيض البطالة. إشارة عكست تململ صندوق النقد الدولي من “التراخي الحكومي” في الاستجابة لشروط اتفاق القرض المذكور، خصوصا مع تراجع يوسف الشاهد عن تعهّدات أطلقها وزراؤه بخصوص قطاع الوظيفة العموميّة بعد تصاعد المواجهة مع الاتحاد العام التونسي للشغل بخصوص تجميد الزيادات المقرّرة للأجور في القطاع العام وإقرار الإضراب العام في الثامن من شهر ديسمبر الفارط. الأزمة وإن مرّت “بسلام” من منظور الحكومة التونسيّة، إلاّ انّها اعتبرت ضربة لمسار تنفيذ برنامج الإصلاح الهيكليّ القائم على خفض النفقات الحكوميّة خصوصا على مستوى كتلة الأجور ونصيب الدولة من المؤسّسات العموميّة وهيكلة القطاع البنكي.

هذه الزيارة انتهت إلى اتفاق فرض مزيدا من التشدّد على الفريق الحكومي، وهو ما تمّ إعلانه صراحة في بيان اختتام زيارة وفد صندوق النقد الدوليّ، حيث أشار إلى ضرورة ” اتخاذ إجراءات قوية وعاجلة” إضافة إلى الإلتزام “بالأولويات المحددة في “اتفاق قرطاج” والخطة الخماسية للتنمية. وتعمل السياسات التي يدعمها “تسهيل الصندوق الممدد” على ترجمة جدول أعمال السلطات إلى إجراءات محددة.” بل ومضى البيان إلى تحديد اولويّات السياسة الاقتصادية الوطنيّة، في نقاط أهمّها المضيّ قدما في برنامج “إصلاح” الوظيفة العمومية والتخفيض في كتلة الأجور، التقليص من الدعم الموجه إلى المحروقات، إصلاح أنظمة الضمان الاجتماعي و” زيادة مرونة سعر الصرف” أو بمعنى آخر تخفيض سعر صرف الدينار التونسي.

الدينار التونسي في مهبّ السوق الماليّة الدوليّة

تتالت التصريحات الحكوميّة حول نتائج وارتدادات قرار الافراج عن القسط الثاني من قرض “تسهيل الصندوق الممدّد”. لكنّ أهمّ الخلاصات هو ما جاء على لسان وزيرة الماليّة لمياء الزريبي التّي أشارت في أحد الحوارات على إذاعة خاصّة إلى الخطوات الحكومية القادمة في مسار التعاطي مع شروط الهيئة المالية الدوليّة. فعلاوة على التأكيد على التزام الفريق الحكومي بالنقاط السابقة الخاصّة بشروط اسناد القرض المذكور، تناولت وزيرة الماليّة مسألة تخفيض سعر صرف الدينار التونسي. هذه الأخيرة أشارت إلى أنّ انخفاض سعر صرف العملة الوطنية يعود بالأساس إلى خضوع قيمتها لحركة المبادلات التجاريّة، مضيفة أنّ البنك المركزي قلّص من تدخله لتعديل قيمة الدينار مقابل العملات الأجنبية، كما سيواصل على هذا المنوال تدريجيا في الفترة المقبلة استجابة لوصيّة صندوق النقد الدولي الذّي شدّد على ضرورة “المرونة” في التعاطي مع سعر صرف الدينار والعمل على تخفيض قيمته تدريجيا كونها “ستساعد على تضييق فجوة العجز التجاري الكبيرة.”

هذه النقطة التي طرحها صندوق النقد الدولي واستجابت لها المؤسسات المالية التونسيّة ومنظومتها السياسيّة، تعني بشكل آخر المضيّ في تخفيض قيمة العملة الوطنيّة وتعويم الدينار التونسي. سياسة ترتكز على مبدأ تحديد قيمة العملة وفقا للعرض والطلب، أي أن تكون العملة الوطنيّة بمنأى عن تدخّل الدولة المباشر ويتمّ تحديد سعر الصرف بالعودة إلى ميزان المبادلات التجاريّة.

التبرير الحكومي يعتمد على تأثير انخفاض الدينار على حجم الصادرات التونسيّة وارتفاع الطلب على الإنتاج التونسي. تعلّة تسقط طبيعة الصادرات التونسيّة منخفضة القيمة بالمقارنة مع واردات البلاد من الطاقة والمواد المصنّعة والغذائيّة. أي انّ انخفاض قيمة الدينار التونسيّ سيؤدّي بشكل مباشر إلى ارتفاع الأسعار وتفاقم تدهور المقدرة الشرائيّة للتونسيّين وارتفاع نسبة التضخّم وارتفاع تكلفة الإنتاج. نتائج مباشرة ستكون لها ارتدادات كارثيّة على جهود الاستثمار لتراجع الإنتاج كانعكاس لتباطؤ نسق الاستهلاك وانكماش الدورة الاقتصاديّة وهو ما يعني تعميق أزمة البطالة وتراجع مؤشّرات التنمية.

أمّا عمليّة تحييد البنك المركزيّ فقد بدأت في 11 أفريل 2016 بالمصادقة على القانون عدد 2015/64 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي كان خطوة تمهيديّة لمسار تعويم الدينار التونسي. هذه الخطوة التي نفاها البنك المركزي التونسي في نوفمبر الفارط، تؤكّدها وزيرة المالية التي اعتبرت خيار تخفيض قيمة العملة الوطنية حلاّ لا مناص منه لتعديل الميزان التجاري لتتحدّث عن تقليص تدخّل البنك المركزي التونسي تدريجيّا وهو الذّي أوقف سنتي 2013 و2014 انزلاق العملة الوطنيّة بضخّ ما يناهز 2400 مليون دينار ليستقر سعر الصرف حينها في حدود 1.64 بالنسبة للدولار و2.14 بالنسبة للأورو.

الفريق الحكومي: ملحق صحفي لتلاوة قرارات صندوق النقد الدولي

إطلالة رئيس الحكومة يوسف الشاهد في الحوار التلفزيّ مساء يوم الأحد 16 افريل 2017، تناولت مواضيع الساعة السياسيّة منها والاقتصاديّة. هذا الظهور الذّي ترجم ارتباك الحكومة وانحسار هامش المناورة لديها إزاء الاحتجاجات التي عمّت عددا من جهات البلاد خصوصا في ولايات تطاوين والكاف والقيروان، كشف عن قلق الشاهد مما يمكن اعتباره عزلة سياسيّة وتوجّسا من نوايا بعض “حلفاء” الحكم.

أمّا على الصعيد الاقتصاديّ، فلم يتجاوز دوره إستباق بيان بعثة صندوق النقد الدوليّ بسويعات، حيث لم تخرج حزمة الحلول والتصريحات التي استعرضها هذا الأخير عّما جاء في البلاغ الصادر في اختتام الزيارة “التفقديّة” لوفد الهيئة النقديّة الدوليّة من ضرورة المضيّ قدما في عمليّة “الإصلاح الهيكليّ” للمؤسّسات العمومية والبنوك الحكوميّة وصناديق الضمان الإجتماعيّ، إضافة إلى التأكيد دائما على السعي المتواصل لتنفيذ برنامج إصلاح الوظيفة العموميّة تحت غطاء تخفيض النفقات. هذه التلاوة الاستباقيّة، شبه الحرفيّة لبيان صندوق النقد الدوليّة تلقّفها خبراء “الحكومة” ومسؤولوها الماليون ووزيرة الماليّة ليتمّ اجترارها تباعا في وسائل الإعلام تعليقا على الخطوات المستقبليّة “لإنقاذ” الاقتصاد والذّي كانت العملة الوطنيّة آخر ضحاياها في مسار “الانفتاح الغير مشروط” للسوق التونسيّة وفق ما يُلائم مصالح الدوائر الاقتصادية الدولية والمحليّة حتّى لو تعارضت مع مقوّمات السيادة الوطنيّة والواجب الاجتماعي والتعديليّ للدولة.