دلالة هذا القرض المجمّع تتجاوز ترجمة الواقع المالي الكارثيّ واستمرار نسق التداين لسدّ عجز الموازنات العموميّة، إذ يأتي كأوّل تطبيق حرفي للفصل 25 من القانون عدد 2015/64 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي الذي تمّ المصادقة عليه في 11 أفريل 2016، والذّي يحرم الدولة من الاقتراض من البنك المركزي ويجبرها على التوجه حصرا للبنوك التجاريّة وهيئات النقد الدوليّة لسدّ احتياجاتها الماليّة بعد بتر أحد أهمّ أذرعها الماليّة.

13 بنكا لسدّ 8% من احتياجات الدولة المالية

على عكس المعمول به عادة لسدّ العجز المزمن للمالية العموميّة، التجأت الدولة التونسيّة يوم الخميس 6 جويلية 2017 لإمضاء اتفاقية مع 13 بنكا محليا لتعبئة الموارد المالية بالعملة الأجنبيّة لتمويل ميزانية الدولة لسنة 2017. هذا القرض الذي بلغت قيمته 250 مليون أورو على امتداد 3 سنوات، سيتمّ سداده بالعملة الصعبة بنسب تتراوح بين 2% على أقساط سنويّة بالنسبة لعدد من البنوك و2.25% دفعة واحدة للباقين.

وقد ضمّت قائمة البنوك المحليّة المُقرضة كلّا من بنك تونس العربي الدولي، بنك الأمان، الاتحاد الدولي للبنوك، بنك الإسكان، الشركة التونسية للبنك، البنك الوطني الفلاحي، التجاري بنك، البنك العربي لتونس، البنك التونسي، بنك قطر العربي، البنك التونسي الإماراتي، مصرف شمال افريقيا الدولي، المؤسسة العربية المصرفية وبنك تونس العالمي.

القرض الذي سيناهز بالعملة الوطنيّة 696 مليون دينار، يأتي في إطار سعي الدولة للحدّ من تفاقم عجز الموازنات العمومية والبحث عن موارد ماليّة جديدة مع تزايد حجم القروض الخارجيّة التي ناهزت 63% من الناتج المحلي الخام للبلاد. إضافة إلى سياسة المماطلة والمساومة التي تنتهجها هيئات النقد الدولية في تسليم أقساط القروض المتفّق عليها على غرار تأخير القسط الثاني من قرض الصندوق الممدّد طيلة 6 أشهر وما رافقها من زيارات تفقديّة لبعثات صندوق النقد الدولي واملاءات اقتصاديّة وضعت الحكومة في حرج أمام المعارضة السياسيّة والاتحاد العام التونسي للشغل. في المقابل، فإنّ قيمة القرض الجديد الذّي يمثّل سابقة في تاريخ المالية التونسيّة، لا تعكس حجم الهالة التي أحيطت به ولا يمثّل حلاّ حقيقيا لمعضلة العجز المالي المتزايد، إذ تتجاوز احتياجات البلاد بحسب تأكيدات وزير المالية 8500 مليون دينار، وهو ما يمثّل أكثر من عشرة أضعاف قيمة القرض المجمّع. وهو ما يعني أنّ الاتفاق الأخير مع البنوك التجاريّة لن يساهم سوى بتوفير 8% من إجمالي احتياجات الدولة العاجلة لنفقات التصرّف، لتجد هذه الأخيرة نفسها مجبرة على استكمال سياسة التداين الخارجي واللجوء مرّة أخرى لتعبئة موارد جديدة من السوق النقدية الدوليّة والعودة إلى المربّع الأوّل.

البنك المركزي على حياد: “مكره أخاك لا بطل”

اتفاقيّة القرض المُجمّع الذّي تمّ إمضاؤها منذ أسبوعين تقريبا تتجاوز البعد التقني البحت ومسألة تعبئة الموارد العمومية، بل ترتبط مباشرة بسلسلة القوانين والإجراءات المالية خلال السنوات الأخيرة تلبية لبرنامج الإصلاح الهيكليّ لصندوق النقد الدوليّ أو ما يصطلح على تسميته بـ”قرض الصندوق الممدّد”. فاللجوء إلى البنوك التجاريّة يأتي بعد سنة من المصادقة على القانون عدد 2015/64 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، المعروف بقانون استقلالية البنك المركزي. هذا النصّ التشريعيّ أثار جدلا واسعا إبان مناقشته في مجلس النواب في أفريل 2016، لارتداداته السلبية المتوقّعة على الماليّة العمومية وما اعتبره كثير من نوّاب المعارضة حينها ضربا لأحد الأذرع المالية الرئيسيّة للدولة. الفصل 25 من هذا القانون والذّي ينصّ على أنّه“لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة”، كان أكثر الفصول إثارة للجدل والخلاف بين نوّاب الائتلاف الحاكم ونوّاب المعارضة الذين تقدّموا بتعديلات تمنح للدولة الحقّ في إقراض نفسها وفق صيغتين، تمّ رفضهما ليتّم تمرير الفصل المذكور سابقا بصيغته تلك. وتكمن خطورة هذا الفصل في حرمان الدولة من تنويع مصادرها وتضييق خيارات التمويل الذاتي عبر البنك المركزي بنسب متدنيّة، وهو ما تمّ تطبيقه على أرض الواقع من خلال اتفاق القرض الأخير.

خطوة جديدة تؤكّد التوجه الاقتصاديّ والمالي القائم على الفصل التام بين السياسة النقديّة والسياسات المالية والاقتصاديّة للدولة والتي كان آخرها تدهور سعر صرف الدينار التونسي وإخضاعه لتسعير السوق المالية الدوليّة. سياسة ماليّة تكرّس قسرا “الانفتاح اللامشروط” للسوق التونسيّة وفق ما يلائم مصالح الدوائر الاقتصادية الدولية والمحليّة حتّى لو تعارضت مع مقوّمات السيادة الوطنيّة والواجب الاجتماعي للدولة.