تمّت المصادقة ليلة أمس الثلاثاء 11 أفريل 2016 على مشروع القانون عدد 2015/64 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، بحضور 105 نائبا لاغير.

هذا القانون الذّي تمّ تحويله منذ 06 أفريل الجاري إلى الجلسة العامة مرفقا بتقرير لجنة المالية والتخطيط والتنمية، أثار عدد من فصوله الكثير من الخلافات، خصوصا فيما يتعلّق باستقلاليّة البنك ووسائل الرقابة والمسائلة. ولكنّ الفصل الأخير قبل اسدال الستار على هذه الخطوة الجديدة لتجريد الدولة من أدواتها المالية لم يخلو كالعادة من جرعة جديدة من “الانفتاح” على حساب السيادة ليتمّ اسقاط مقترح التنصيص على ضرورة ان تكون جنسية محافظ البنك المركزي ونائب المحافظ ” تونسية بالولادة”.

قانون “استقلالية” البنك المركزي: قانون عاديّ بالحد الأدنى من الحضور

منذ تأسيسه في 19 سبتمبر 1958، كمؤسّسة عمومية تتمتع بالشخصية المدنية والاستقلال المالي فإنّ الدفع باتجاه تقنين استقلاليّة البنك، واعفاءه من دوره في تمويل الخزينة العموميّة عبر الإقراض أو شراء سندات الدولة، لم يكن وليد هذا المشروع الجديد، حيث سبق لتونس سنة 2006 أن ألغت الفصل 50 من القانون عدد 90 لسنة 1958 المؤرخ في 19 سبتمبر 1958 تحت ضغط صندوق النقد الدوليّ، ليتم تعوضه بالفصل الفصل 47 مكرر الذّي نصّ على: “لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العمومية تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة.” وهو ما يتطابق تماما مع ما جاء في الفصل 25 من القانون الجديد المصادق عليه في 12 افريل 2016.

الخلافات داخل لجنة الماليّة بدأت منذ الشروع في تصنيف القانون، فبينما كان من المفترض أن يكون هذا المشروع لقانون أساسيّ تمّ اعتماد الصيغة العاديّة، وذلك لتسهيل عمليّة تمريره، حيث لن يقتضي في هذه الحالة سوى تصويت ثلث الحاضرين أو اعتماد صيغة 50 زائد واحد من الحاضرين، في حين يتطلّب تمرير القانون الاساسيّ 109 صوتا كحد أدنى. هذا السعي لتسريع تمرير القانون يأتي تجاوبا مع شرط الأجل الممنوح للدولة التونسية من قبل صندوق النقد الدولي كأحد شروط امضاء القرض الذي تعتزم الدولة الحصول عليه قبل شهر ماي القادم حسب ما جاء في الوثيقة الصادرة عن المرصد التونسي للاقتصاد.

هذا وقد تمّ تمرير مشروع القانون للجلسة العامّة في ظرفيّة تميّزت بانشغال النواب بمهام برلمانيّة وتنقّل العديد منهم إلى الولايات ضمن أنشطة أسبوع الجهات. في هذا السياق، وعلى الرغم من تناول المباحثات قطاعا استراتيجيا بمثل هذه الأهميّة، إلاّ أنّ العديد من اجتماعات لجنة المالية اقتصرت على خمس أو ستّ نواب لا غير، وحتّى عند تمرير مشروع القانون، لم يكن حاضرا للتصويت سوى 105 نائبا من إجمالي 217.

قانون لتكريس “الاستقلاليّة” أو لتجريد الدولة من أدواتها الماليّة؟

تمّ طرح مشروع القانون عدد 2015/64 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي في ظلّ التدهور المتواصل للأوضاع الاقتصاديّة، إضافة إلى انطلاق الحكومة في عمليّة “اصلاح” القطاع البنكيّ، عبر إقرار رسملة البنوك العموميّة، وتجهيز مشروع قانون إصلاح البنوك والمؤسسات المالية. وقد قدّم البنك المركزيّ لمجلس النوّاب شرحا مقتضبا للأسباب التي تدفع نحو صياغة مشروع القانون الجديد. إذ إعتبر محافظ البنك أنّ الوقت قد حان “للاستجابة لمتطلبات الحوكمة النقدية العصرية” وفكّ الارتباط “بمزاج السياسيين وإملاءاتهم مثلما كان في الماضي القريب”.

الغاية من المشروع، والفصول التّي تضمّنها والتي تجاوزت المائة فصل، أثارت الجدل حول الهدف الحقيقيّ من تمرير مثل هذا القانون ومدى خدمته للسياسة الاقتصاديّة والمالية للدولة.

البداية كانت بالفصل الثاني من مشروع القانون المعروض على مجلس النوّاب، حيث لا يبدو مفهوم الاستقلاليّة واضحا بخصوص العلاقة بين السلطة النقديّة والسياسات الاقتصاديّة للدولة، بحيث لا تتعارض أهداف البنك المركزيّ للمحافظة على استقرار الأسعار مع الخيارات الاقتصاديّة والمالية للدولة.

كما جاء النصّ الأصليّ المقترح من الحكومة خاليا من ضرورة المراقبة أو المسائلة والمحاسبة. ممّا فتح الباب أما التعديلات التي افضت إلى إقرار النقطة التالية؛ “ويخضع البنك المركزي لرقابة مجلس نواب الشعب على أساس معايير كمية ونوعية وذلك فيما يتعلق بتنفيذ مهامه وتحقيق أهدافه.” لكن تبقى المعضلة هنا غياب آليات أو معايير للمراقبة والمراجعة، كما تطرح مسألة اسقاط المسائلة على عدم بلوغ الأهداف المرسومة أسئلة كثيرة حول الجدوى من تنصيص هذه النقطة والمدى الفعليّ “لاستقلاليّة” البنك المركزيّ.

الفصل 25 كان بدوره أحد الفصول المثيرة للجدل والخلافات صلب مجلس النواب خلال الجلسة العامة. حيث ينصّ هذا الأخير في صيغته النهايّة وفي النقطة الرابعة بالتحديد: “لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة”. العديد من نواب الجبهة الشعبيّة اقترحوا تعديلات تمنح للدولة الحقّ في إقراض نفسها وفق صيغتين، تمّ رفضهما ليتّم تمرير الفصل المذكور سابقا بصيغته تلك.

وتطرح النقطة الرابعة بالذات جدلا واسعا حول الهدف الحقيقيّ من التنصيص عليها، حيث تصبح الدولة في هذه الحالة غير قادرة على الاقتراض من البنك المركزي، وفق نسب فائدة متدنيّة. هذا ما يفضي في نهاية المطاف إلى اجبار الدولة على التوجه حصرا للبنوك التجاريّة وهيئات النقد الدوليّة للاقتراض أو بيع السندات، وبالتالي حرمانها من تنويع مصادرها للتمويل. هذه النقطة من الفصل 25 تتبنّى بشكل واضح املاءات صندوق النقد الدوليّ وتجريد الدولة من أدواتها الماليّة وتضييق خياراتها للتمويل الذاتيّ، بل ويؤكّد التوجه الاقتصاديّ والمالي القائم على الفصل التام بين السياسة النقديّة والسياسات المالية والاقتصاديّة للدولة بما يتطابق وما جاء في الفصل الثاني حول المفهوم الحقيقيّ “للاستقلاليّة.”

“المجلس الحاكم” للسلطة النقديّة الجديدة

أمّا الفصل 59 الخاصّ بتركيبة مجلس الإدارة والتي تضمّنت المحافظ ونائبه ورئيس هيئة السوق المالية، ممثلين عن وزارة الماليّة، وبنكيّان إضافة إلى استاذين جامعين متخصّصين في المجال الاقتصادي والمالي.

إذن على عكس الفصل 19 من القانون عدد 90 لسنة 1958 المؤرخ في 19 سبتمبر 1958 المنظّم لتركيبة مجلس إدارة البنك المركزيّ، والذّي كان يحتّم تواجد ثمانية ممثلين عن مختلف “الإدارات الاقتصادية والماليّة والاجتماعية التابعة للدولة أو الهيئات العمومية أو شبه العمومية التي تساهم في التنمية الاقتصاديّة”، فقد كرّس الفصل الجديد احتكار مجلس إدارة البنك المركزي على ممثلي وزارة الماليّة والشخصيات المقترحة من المحافظ.

كما أثار الفصل 49، الخّاص بتعيين مستشارين من خارج إطارات البنك المركزّي جدلا واسعا، حيث اعتبر البعض من المراقبين أنّ هذا الفصل بشكله الذّي تمّ المصادقة عليه يفتح الباب أمام تعيين ما أسماه المرصد التونسي للاقتصاد “بمستشاري الظلّ” وهو ما قد يرجّح إمكانية تقاطع المصالح أو تكييف التوجهات والقرارات لصالح أطراف أخرى قد تكون مؤسسات مالية محلية أو دوليّة.

يبدو القانون الجديد لضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسيّ، خطوة أخرى في مسار السياسة الاقتصاديّة القائمة على إقالة الدولة من وظيفتها الاقتصادية ضمن سلسلة من الاملاءات الصادرة عن هيئات النقد الدوليّة والتي يتم من خلالها ابتزاز الدولة عن طريق القروض والمساعدات المالية. فقانون رسملة البنوك العموميّة ومشروع مجلّة الاستثمار المؤجّلة، ومشروع اصلاح النظام الجبائيّ، والقانون الجديد الخاص بالنظام الأساسي للبنك المركزيّ واتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي تكرّس “الانفتاح اللا مشروط” للسوق التونسيّة وفق ما يلائم مصالح الدوائر الاقتصادية الدولية والمحليّة حتّى لو تعارضت مع مقوّمات السيادة الوطنيّة والواجب الاجتماعي للدولة.