يوسف الشاهد الذي شَحَذَ رصيده السياسي -بفضل حملة الإيقافات التي طالت بعض رموز الفساد- لم يذهب بعيدا في انفراده بهذا الملف. واحتكم في نهاية المطاف إلى بنود منظومة التوافق، التي كان من ضمنها الإنهاء الفوري لـ”الحملة الحكومية على الفساد”، لأن الأهداف السياسية والدعائية لهذه الحملة تَنَاقضت مع مصالح جزء من القاعدة المالية المتشابكة مع الحزبين الكبيرين (نداء تونس وحركة النهضة).

رغم أن رئيس الحكومة اجتهد في صرف شبهة الرضوخ الحزبي عن نفسه، فإن التحوير الوزاري الأخير كان صدًى لترتيبات الغرف الحزبية النافذة. وقد حظي التحوير بمنح ثقة مُعلن من الأغلبية البرلمانية قبل ثلاثة أيام من ذهاب يوسف الشاهد إلى البرلمان. هذه الثقة لم تكن صكّا على بياض، بل تأسست على جملة من الاتفاقات، أهمها مراجعة أشكال التدخل الحكومي في ملف الفساد -سياسيا ودعائيا وإجرائيا- ثم تهيئة المناخ السياسي لمشروع قانون المصالحة، وهو ما انعكس في استقدام آخر رجالات بن علي وتعيينهم في مناصب وزارية حيوية (المالية والتربية).

التحوير، بوابة القصر نحو تفعيل المصالحة

لئن كانت المُصالحة الرسمية مُعَلقة في جانبها القضائي والقانوني، بسبب تعطل مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية ثم تأجيل النظر في قانون العفو الإداري، فإنها بصدد المُمارسة كتوجه سياسي لمنظومة الحكم من خلال التعيينات الخفية والمعلنة في جهاز الدولة، والتي بلغت ذروتها أثناء إعادة آخر وزيرين في نظام بن علي إلى مناصبهم السابقة، حاتم بن سالم وزيرا للتربية ورضا شلغوم وزيرا للمالية.

رضا شلغوم، عين القصر على القصبة، تم تعيينه في 22 جوان 2017 مديرا لديوان رئاسة الحكومة، وقد شغل قبلها خطة مستشار مكلف بمتابعة الإصلاحات الاقتصادية لدى رئاسة الجمهورية. برز ارتباطه بمشروع قانون المصالحة من خلال وثيقة مُسربة نشرها موقع نواة أواخر شهر أفريل الفارط، تضمنت خطة رئاسة الجمهورية لتمرير قانون المصالحة، وقد كُلف خلالها وزير المالية الجديد بـ”عقد لقاءات مع الخبراء الاقتصاديين لعرض الصيغة الجديدة لمشروع قانون المصالحة وتوضيح أهداف التعديلات التي أدخلت عليه وإبراز نتائج المصالحة على المستوى الاقتصادي والمالي والتصرف الإداري، وإعداد وتقديم الإحصائيات والتقديرات المنتظرة من إجراء المصالحة قصد إبرازها ضمن الحملة الإعلامية”(مثلما ورد في نص الوثيقة المُسربة).

تعيين رضا شلغوم وزيرا للمالية يشكل تقدما في مسارات “رسكلة وزراء العهد السابق”، وهو الوجه الآخر لتنفيذ فلسفة المصالحة الرسمية، التي لا ترمي فقط إلى العفو عن رموز الفساد في النظام السابق وإنما إعادة إدماجهم في مراكز القرار، للاستفادة من شبكة الولاءات القديمة وتطويعها لخدمة نسيج المصالح الجديد.

الحرب على الفساد: من الولادة المُشوهة إلى الإنهاء القسري

لا يمكن قراءة “الحملة الحكومية على الفساد” بمعزل عن سياقاتها السياسية والذاتية. فقد انبثقت في لحظة تاريخية اتحدت فيها الحاجة الموضوعية إلى الخروج من المأزق السياسي –الذي فرضته الحركات الاجتماعية أساسا اعتصام الكامور- بالحاجة الذاتية لرئيس الحكومة نفسه إلى إيجاد مشروعية تضمن بقاءه على رأس الحكومة، إثر بروز نزعات قوية داخل الائتلاف الحاكم تدعو إلى تغييره.

من رحم هذا المزيج وُلِدت الحملة على الفساد، حاملة لمقومات الهشاشة والانتقائية وفيها ضرب من التناقض بين العنوان السياسي (الفساد) والخلفيات القانونية للإيقاف (تهديد الأمن العام). على هذا الأساس لم تندرج “الحملة الحكومية” ضمن مسار سياسي وطني يهدف فعلا إلى مكافحة الظاهرة وتفكيكها، وهو ما جعلها تحظى باحتفاء إعلامي وشعبي سرعان ما تلاشى مع تراكم الأحداث وتغير الأجندات، ولكنه ساهم في إطالة انفاس الحكومة التي كادت تنقطع في دوامة الحركات الاحتجاجية النفطية. هدأت الحملة إثر المعارضة القوية التي جُوبهت بها من قبل حزبي حركة النهضة ونداء تونس. احتجت الأولى على أشكال الإيقاف معبرة بذلك عن قلق من تمدد الحملة لتشمل رموز فساد مقربين منها، وهو ما انعكس في الحوار الأخير لراشد الغنوشي على قناة نسمة الذي دعى فيه صراحة إلى إيقاف الاعتقالات متذرعا بالقانون والدستور، ولعل اختيار قناة نسمة للحديث في الموضوع يعكس رسالة مشفرة لرئيس الحكومة، لأن مالك القناة نبيل القروي يعد أحد المشمولين بالحملة. بينما اعترض حزب نداء تونس على الحملة من خلال التلويح مجددا بورقة التحوير الوزاري، وقد كان قلقا من انفلاتها لتشمل قيادات حزبية تربطها مصالح عينية برموز الفساد على غرار شفيق الجراية.

“الحملة على الفساد” التي بدأت بقرار سياسي مُنفلت إلى حد ما من منظومة التوافق النهضوي-الندائي، ستنتهي قسريا بقرار سياسي مُنبثق عن نفس المنظومة. وقد اقترن الحديث عن الفساد في خطاب رئيس الحكومة يوم أمس بالانخراط في مسار تعزيز التشريعات، ويبدو هذا المسار مُتَحكّما فيه من طرف الأغلبية البرلمانية لأنها تملك كلمة الفصل في تعديل القوانين وتأجيلها أو إسقاطها وفقا لمصالحها الحزبية، ولعل الدورة البرلمانية الاستثنائية –التي تعقد حاليا- تم ترتيبها باتفاق بين حزبي حركة النهضة ونداء تونس، يبحث فيها الأول عن تفعيل الأجندا الانتخابية عبر سد الشغور في الهيئة المستقلة للانتخابات، بينما يطمح الثاني إلى تمرير قانون المصالحة الإدارية.