أولى الإجراءات التي أشارت إليها حكومة يوسف الشاهد في الوثيقة التي أطلقت عليها “خارطة طريق: البرنامج الاقتصادي والاجتماعي في أفق 2020” هي إعادة النظر في مسألة المديونية العمومية. وقد ذكر برنامج الحكومة الاقتصادي في بابه الأول حول الوضع العام والتحديات الاقتصادية والاجتماعية أن نسبة المديونية العمومية قد ارتفعت من 40% سنة 2010 إلى 62% سنة 2016. وذكر التقرير في النقطة الثالثة من الباب الثاني حول الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للحكومة في أفق 2020 أن الحكومة “تسعى إلى استقرار الدين العمومي والتحكم فيه حتى لا يتجاوز 70% من نسبة الناتج القومي الخام بحلول سنة 2020”.

⬇︎ PDF

لكن هذا الإجراء الذي تَسوّقه الحكومة داخليا يتعارض مع مضمون الرسالة الأخيرة التي بعث بها كل من رئيس الحكومة ومحافظ البنك المركزي إلى كريستين لاغارد، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، والتي عَرَضا فيها خطة العمل الحكومي في الأربع سنوات القادمة والاحتياجات التي تريدها تونس لتنفيذ تلك الإصلاحات وهي احتياجات مالية. أي أن التحكم في المديونية العمومية التونسية في الفترة المقبلة سيكون بقرض آخر من صندوق النقد الدولي، وهذا يتعارض مع الهدف المعلن والمتمثل في التحكم في المديونية.

تتزامن الرسالة الموجهة لمديرة صندوق النقد الدولي مع اتفاقات جديدة مع البنك الدولي تتمثل في الحصول على قرض بـ500 مليون دولار بعنوان “تحفيز مناخ الاستثمار ودعم المؤسسات الاقتصادية وتسهيل الحصول على دعم مالي” وقد تمت الموافقة على القرض من قبل مجلس إدارة البنك في جويلية الماضي. كما أعلن البنك الدولي في 12 سبتمبر الجاري عن تحويله لمبلغ قيمته 60 مليون دولار لصالح تونس من أجل دعم التشغيل في تونس. وبذلك فإن الاستراتيجية التي أعلنت عنها الحكومة في تعديل سياسة الاقتراض لا تجد صدى لها على أرض الواقع.

دعم التشغيل بإيقاف الانتدابات!

أشارت وثيقة “إعداد مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018” التي وزعتها رئاسة الحكومة على الوزراء وكتّاب الدولة ورؤساء الهيئات الدستورية والولاة ورؤساء البرامج العمومية، إلى أن سنة 2018 ستشهد ضغطا كبيرا في نفقات الأجور. وبرّرت الحكومة هذه السياسة بأن التطور الذي شهدته كتلة الأجور في السبع سنوات الأخيرة من 11 إلى %14 لا يمكن تحمّله في المستقبل.

وتضمنت الوثيقة قرارا بمواصلة العمل بخطة الانتدابات لسنة 2017 والتوقف عند ذلك الحد، ثم البدء منذ سنة 2018 في العمل على ما أسمته “الحد من تضخم الأعوان العموميين بالوظيفة العمومية والتخفيف من ضغط حجم الأجور للنزول به إلى نسبة 12,5%” وكذلك “برنامج الإحالة على التقاعد المبكر لعدد كبير من الموظفين الذي  ينطلق يوم 1 جانفي 2018 وينتهي يوم 1 جانفي 2021”. أما النقطة التي أثارت الانتباه في مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018 هي “عدم إقرار أية انتدابات جديدة لسنة 2018 مع عدم تعويض الشغورات الناتجة عن الإحالات على التقاعد أو عن حالات المغادرة الطارئة والاكتفاء بإعادة توظيف العنصر البشري الموجود فقط”. كما سيتم تغيير سياسة الترقيات بالنسبة للوظيفة العمومية، من خلال وضع سقف الـ50% من مستحقي الترقية للحصول عليها في الأسلاك الرقابية، و20% فقط في الأسلاك الأخرى.

هذه الإجراءات تبدو بوضوح مُناقضة للأهداف العامة التي نشرتها الحكومة في ما يتعلق بالمخطط الخماسي لحدود سنة 2020. فقد وردت في الأهداف الأربعة نقطتان رئيسيتان هما “تحسين ظروف العيش وتطوير أداء السياسات الاجتماعية” و”تقليص التفاوت وفك العزلة بين الجهات وإرساء مبادئ الحوكمة المحلية”. وللإشارة فإن تحسين ظروف العيش هدف قد لا يتحقق بإعلان رغبة الدولة في التخلص من موظفيها وأما عن الحوكمة المحلية فالأمر غير قابل للتحقق في غياب مجلة الجماعات المحلية.

ضغط ضريبي جديد

كما تضمنت الوثيقة المذكورة إجراءات ذات ضغط جبائي عالي. إذ أشارت إلى ترفيع منتظر في المعاليم الديوانية والمنتوجات الفلاحية المصنعة. أما بالنسبة للسيارات فهناك ترفيع في المعلوم على الاستهلاك وفي الأداء على القيمة المضافة للسيارات الشعبية من 12% إلى 19%. كما سيتم الترفيع في المعاليم على الجولان للسيارات الخاصة والنفعية بنسبة 25%. ومن المنتظر الترفيع في نسبة المعلوم على الاستهلاك الموظف على بعض المنتجات الكحولية والتبغ والرخام، وأيضا الزيادة في معلوم السفر من 60 دينارا إلى 80 دينارا. وفي هذا السياق أصدر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بيانا نبه فيه إلى ضرورة تفادي الإجراءات “التقليدية في الزيادة من العبء الجبائي للأجراء والمؤسسات المشتغلة في القطاع المنظم والركون المتكرر للزيادة غير المباشرة والتي أدت الى تدهور القدرة الشرائية للطبقات الدنيا والمتوسطة من جهة والى تهرئة القدرة التنافسية للمؤسسات من جهة أخرى”. وذكر البيان أنه وبالرغم من عدم وجود الوثيقة الرسمية والنهائية للميزانية العامة لسنة 2018 إلا أن التسريبات حول الميزانية والأرقام المتعلقة بها تشير إلى أنها إجراءات “ستنعكس بصفة سلبية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين”.

الهيئات الدستورية سيشملها الضغط

لم يكن تصريح رئيس الجمهورية المتعلق بالهيئات الدستورية الذي قال فيه أنها “تتغول على الدولة وتحرص على استقلاليتها إلى حد التعطيل والشلل”، بمعزل عن التوجه الحكومي العام الذي يسعى إلى التخلص من كل التزام يجمعها بالهيئات الدستورية وهي بالأساس هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري. وقد تمت الإحالة في وثيقة مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018 على الهيئات الدستورية، من خلال التأكيد على ضرورة “إعداد ميزانية الهيئات الدستورية والهيئات المستقلة في إطار ميزانية الدولة وحسب روزنامة منصوص عليها مسبقا” مع التأكيد على “ضرورة إحالة الميزانية لوزارة المالية لضبط الاعتمادات المطلوبة”. وقد كان هذا الاجراء محل طعن من الهيئات لدى الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين بعد أن أقر البرلمان القانون الأساسي المتعلق بالأحكام المشتركة بين الهيئات الدستورية المستقلة. وكان مرتكز الطعن أن القانون الأساسي المتعلق بالهيئات يمس من استقلاليتها المالية والإدارية خاصة وأن خطة المدير التنفيذي تركّز صلاحيات كبرى مالية وإدارية بين يديها وتعطل عمل أعضاء الهيئة. كما تعتبر إحالة ميزانيات الهيئات على وزارة المالية نوعا من الضغط على مصاريفها.

تدخل تونس بحلول سنة 2018 في مرحلة الإجراءات التي ستتسبب في إضطرابات عميقة على المستوى الإقتصادي والإجتماعي، بعد أن حاولت الحكومات المتتالية بعد الثورة أن تستميل الجمهور بالخطاب المتناقض مع الإجراء. لكن جل هذه الإجراءات من شأنها أن تدفع نحو تصادم منتظر بين الحكومة واتحاد الشغل من جهة، نظرا للخيارات التقشفية، وبينها وبين منظمة الأعراف من جهة أخرى، نظرا لترفيع مُرتقب في الضرائب على المؤسسات.