صادق وزراء ماليّة الاتحاد الأوروبي المجتمعين أمس الثلاثاء 05 نوفمبر 2017 في العاصمة البلجيكيّة بروكسيل، على قائمة من 17 دولة تمّ تصنيفها كملاذات ضريبيّة والتّي أبدت تقاعسا في مكافحة التهرّب الضريبيّ رغم النداءات الأوروبيّة المتكرّرة لهذه الدول. تونس التي تمّ إدراجها ضمن هذه القائمة، ردّت سريعا على قرار الاتحاد الأوروبّي معلنة انّها لا تسمح بالتدخّل في سياستها الجبائيّة ومعتبرة أنّها “لن تكون بأي شكل من الأشكال ملاذا جبائيا”.

قفزة المتر الأخير لم تمنع القرار الأوروبي

إدراج تونس ضمن هذه القائمة، لم يكن قرارا محض اللحظة الأخيرة من قبل الاتحاد الأوروبيّ، بل نتيجة تقاعس الحكومة التونسيّة على المستوى السياسيّ والإجرائي. تقاعس تجلّى من خلال ردّ الفعل المتأخّر قبيل ليلة من انعقاد اجتماع وزراء ماليّة دول الاتحّاد. حيث اشارت صحيفة لوموند في عددها الصادر يوم أمس الثلاثاء 06 نوفمبر 2017، أنّ ثلاث دول هم تونس والإمارات العربيّة المتحدة وبنما، أرسلوا تعهدّات جديدة بمراجعة منظوماتهم الجبائيّة، إلاّ أنّها رُفضت من قبل الوزراء المجتمعين في بروكسيل، نظرا لضيق الوقت واستحالة قيام الخبراء بتقييم مدى جديّة هذه الإلتزامات. قرار أعقبه تطمين أوروبيّ بإعادة النظر في القائمة السوداء إذا ما أبدت هذه الدول الثلاث حسن نيّتها وجدّيتها في الإيفاء بتلك الوعود.

إضافة إلى التراخي الحكومي في التعاطي مع الاجتماع الأخير لوزراء ماليّة الإتحاد الأوروبي، فإنّ تصنيف تونس كملاذ جبائيّ وضمّها إلى قائمة دول “الجنّات الضريبيّة” نجم عن عدم التعامل الجدّي مع تهديدات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) منذ سنة 2014 بتصنيف تونس كملاذ ضريبيّ نتيجة لارتفاع معدلات التهرّب الجبائي وفشل تمرير الفصل الخاصّ برفع السرّ البنكي الذّي لم يُصادق عليه مجلس نوّاب الشعب إلا في شهر ديسمبر الفارط ضمن نقاشات مشروع ميزانيّة سنة 2017.

معضلة التهرّب الضريبي أو الثورة المهدورة

الانزعاج الأوروبيّ من منظومة التشجيع على الإستثمار في تونس، وإن كان يندرج ظاهريّا ضمن إطار دعم مساعي محاربة التهرب الجبائي، إلاّ انّه يعكس الوعي بضرورة حماية الإقتصاديات المحليّة لدول الإتحاد الأوروبي والحدّ من نزيف الاستثمارات الخارجيّة وانعكاساتها على العائدات الجبائيّة للدول الأوروبيّة وسوق الشغل هناك مع تزايد معدّلات البطالة التي تناهز 11% كمعدّل عام وتتجاوز 24% في اسبانيا واليونان. وعي يترجم الانزعاج الأوروبي من منظومة التشريعات التونسيّة لتحفيز الاستثمار والتي تقدّم امتيازات هائلة وغير محدودة للاستثمار الأجنبي ومن أهمّها الإعفاء الضريبي وامكانية تحويل الأرباح والأجور إلى الخارج بالعملة الصعبة كما يرد في الفصل العاشر من مجلّة الإستثمار إضافة إلى الفصل 20 الذّي ينصّ على طرح الأرباح من قاعدة الضريبة على الشركات. نصوص قانونية تجعل من تونس وجهة مغرية لرؤوس الأموال الأوروبيّة على بعد أقلّ من مائتي كيلومتر من ضفاف الحوض الشماليّ للبحر الأبيض المتوسّط. لكنّ القلق الأوروبيّ يرتكز في مبرّراته على الخلل الكبير في المنظومة الجبائيّة التي تسبّب هدرا هائلا للعائدات الضريبيّة في تونس يناهز 10000 مليون دينار حسب الخبير الاقتصادي مصطفى الجويلي الذّي أكّد أن هذا الرقم يبقى غير دقيق في ظلّ غياب إحصاءات حقيقيّة وصحيحة لحجم التهرب الضريبيّ إضافة إلى غياب أي معلومات عن حجم الأموال المهدورة ضمن منظومة الاقتصاد الموازي البعيد عن رقابة أجهزة الدولة.

هذا التساهل في تعبئة الموارد الجبائيّة للدولة رغم تجاوز عجز الموازنة العموميّة سقف 6%، رغم التصريحات الحكومية المتكرّرة حول مساعي الإصلاح الجبائي وتعبئة موارد الدولة، تترجمه وضعيّة مشروع الإصلاح الجبائيّ المعطّل منذ سنة 2012. هذا البرنامج الذّي ما يزال حتى هذه اللحظة رهن التجميد في ظلّ تنامي الخلافات وتناقض الرؤى بين الاتحاد التونس للصناعة والتجارة والاتحاد العام التونسي للشغل والحكومات التونسيّة المتعاقبة. وهو ما يمثّل أحد العقبات الرئيسيّة أمام إيقاف هدر الموارد الجبائيّة ويضرب مصداقيّة الالتزامات الحكوميّة أمام الاتحاد الأوروبي ويعكس عدم جديّة الطرف التونسيّ في غلق ملفّ التهرّب الضريبيّ.

قرار سياسي بامتياز

مع تواصل ردود الأفعال الحكوميّة المستنكرة لقرار مجلس وزراء الماليّة في الاتحاد الأوروبي، ورغم التطمينات الحكوميّة بإمكانية استئناف القرار وإخراج تونس من هذه القائمة، إلاّ أنّ هذه الخطوة تضع الخيارات الاقتصاديّة والتنموية المعتمدة منذ سبعينات القرن المنصرم على المحكّ. التوجّه السياسي والاقتصاديّ القائم على معالجة معضلة التشغيل والتخفيف من الاحتقان الاجتماعي بتشجيع الاستثمار الخاصّ المحليّ والأجنبيّ وتوفير ترسانة من التشريعات والحوافز الجبائيّة والماليّة والاجتماعيّة للمستثمرين ولو على حساب التوازن الماليّ للدولة، أدّى بعد عقود إلى اختلال هائل في الميزانيّة العموميّة ليناهز العجز المالي سنة 2017 ما يفوق 6% من الناتج المحلي الخام. في المقابل، سعت الدولة لتغطية هذا العجز بالانجرار وراء التداين والاقتراض من هيئات النقد الدولية لتبلغ المديونية مع نهاية السنة الجارية 64% من الناتج الإجمالي للبلاد.

أمّا عن انعكاسات هذا القرار، فيؤكّد الخبير الاقتصادي مصطفى الجويلي أنّ إدراج تونس ضمن قائمة دول الملاذ الضريبيّ في هذا الوقت بالذات لا ينفصل عن زيارة وفد صندوق النقد الدوليّ، ويأتي في إطار ضبط السياسات الحكوميّة وابتزازها لمزيد تقديم التنازلات خصوصا على صعيد التفويت في المؤسسات العمومية والانفتاح الكامل والغير مشروط على السوق الدوليّة. ليذكّر في هذا السياق بأنّ مجلّة الاستثمارات التونسيّة نوقشت في البرلمان الأوروبيّ قبل طرحها على مجلس نوّاب الشعب، وأنّ الحوافز الاستثماريّة كانت بضغط وتوجيه من الدول الأوروبيّة وصندوق النقد الدولي التي كانت تنتقد سابقا الإجراءات الحمائيّة والجمركيّة. ليخلص في النهاية أنّ القرار الذّي صدر عن اجتماع مجلس وزراء ماليّة الاتحاد الأوروبي قرار سياسي بامتياز ولا يمتّ بصلة لمسألة التهرّب الضريبيّ خصوصا وأنّ جميع الخطوات التي اتخذتها الحكومات التونسيّة المتعاقبة في الشأن الاقتصاديّ كانت بمباركة ودعم هذه الدول والهيئات الماليّة الدوليّة.