سأسدّد ديوني وأخلي ذمتي من كلّ الالتزامات الماديّة والأضرار التي تسبّب فيها غلق المحلّ –أو المشروع إن شئنا تسميته كذلك- ثمّ سأغادر البلاد.
فراس زيّود ليس الشاب الوحيد الذي يفكّر بهذه الطريقة بعد غلق المقهى الثقافي الذي كان يديره بالمرسى، فقد سبقه وائل محمدي صاحب مقهى ” Whatever Saloon” -أو كما يسمّيه مرتادوه مقهى اللوح– ثم تلاهم طارق الصردي صاحب مقهى سرّ وكمون. بالرغم من الجرعة الإيجابية، خلال الفترة الموالية لـ2011، والتي قادت عدد من المغتربين إلى العودة والاستثمار في المجال الثقافي والفنّي وبعث مشاريع صغرى تؤسس للتصالح مع الفضاء العمومي الذي كانت تحكمه لسنوات طويلة قاعدة واحدة، هي حفظ الأمن العامّ. ورغم محاولات هؤلاء الشباب الشحيحة لممارسة الفنّ والثقافة وخلق فضاءات بديلة للتواصل، تعود المعاملات الأحادية الجانب وأدوات التضييق من جديد، لتصبح إمكانية استغلال المحلاّت العمومية للتعبير الحرّ صعبة ومرتبكة، وسط تراتيب إدارية وأمنية تبدأ من المصالح البلدية وأجهزتها الرقابية القديمة أو الجديدة على غرار الشرطة البيئية.
التراتيب البلدية: ازدواجية في المهام وضبابية في المعاملات
تجاوزت عمليات الرقابة، حسب إدارة حفظ الصحة ببلدية تونس في السنوات الخمس الأخيرة، 25 ألفا، وتشمل 15300 تنبيه كتابي، من بينها 3080 خطيّة، وأكثر من 342 قرار غلق. هذا وتُشير هذه الأرقام إلى العمل الرقابي الذي تقوم به إدارة حفظ الصحّة التي لحقها مؤخرا جهاز الشرطة البيئية، هذا بخلاف الشرطة البلدية التابعة لمشمولات وزارة الداخلية والأعمال الرقابية لإدارة حماية المحيط أو لوزارة الصحّة أو التجارة التي تتدخّل هي الأخرى في هذا المجال.
قال طارق الصردي، صاحب مقهى “سرّ وكمّون” وأحد المتضرّرين من قرارات الغلق، لنواة “لقد تلقّيت خطيّة أولى بقيمة 60 دينار متعلقة بسوء صيانة المعدّات، إثر معاينة أولى من مصلحة حفظ الصحّة ببلديّة تونس، إلاّ أنّ قيامي بخلاص الخطيّة مباشرة لم يمنع تدخّل الشرطة، التي تقدّمت بقرار غلق فوري للمحلّ دون سابق تنبيه أو إنذار”.
بدى طارق متأكّدا في حديثه، من أنّ الأسباب المصرّح بها في قرار الغلق، والتي اقتصرت على “مخالفة مقتضيات كرّاس الشروط والتراتيب البلدية”، ليست الأسباب الصريحة. مُشيرا إلى أنّ أخبارا وصلته تفيد بانزعاج المصالح المحليّة من طبيعة النشاط الثقافي بفضاء “سرّ وكمّون” ومن هيئة مرتاديه، وهي حجّة أخرى متداولة غير منصوص عليها بالتراتيب. يُذكر أنّ فضاء “سرّ وكمّون” احتضن مبادرات فنية وثقافية عديدة منها حملة زبّلتونا وأنشطة متفرّقة أخرى، آخرها الندوة الصحفية للمترشّح للانتخابات الجزئية بدائرة ألمانيا عن قائمة القراصنة سليم عمامو يوم 31 أكتوبر 2017. وأضاف طارق في نفس السياق “وصلتني بعض التهديدات مفادها التزام الاحترام والكف عن إزعاج الجيران، لكن على لسان الأمنيين الذين رفضوا الإفصاح عن مصدر الشكاوي”.
من جهته أشار مدير حفظ الصحّة، عمر النيفر، إلى أنّ إدارة حماية المحيط هي المعنية بالشكاوي من هذا النوع، أي معاينة الضجيج، موضّحا “دورنا -ويقصد الشرطة البيئية وإدارة حفظ الصحّة- يقتصر على مراقبة الجانب الصحّي والنظافة العامّة”، وواصل حديثه قائلا “لوزارة الصحّة أعمال رقابية في نفس المجال، كما يمكن كذلك تكوين لجان مشتركة تضمّ أعوانا من الصحة والتجارة والحماية المدنية والشرطة البيئية وإدارة حفظ الصحة وحماية المحيط”.
هذا التداخل في المهام والازدواج الوظيفي تنضاف إليه مشاكل أخرى مثل الضبابية وعدم الإعلام المسبق بالتراتيب للمعنيين خصوصا. وهو ما لم ينفه مدير حفظ الصحّة ببلدية تونس، مقرّا اللبس الذي حصل عقب إحداث جهاز الشرطة البيئية. لكنّه صرح بالمقابل “تتوضّح مجالات تدخّل الشرطة البيئية شيئا فشيئا، فهي مرتبطة أساسا بالمجال البيئي، وتشمل 3 نقاط أساسية وهي مراقبة المركّبات الصحية والمياه، توفير الحاويات حسب المواصفات، والتثبّت من اتفاقيات رفع الفضلات بالنسبة للمحلات المفتوحة للعموم كالمقاهي والمطاعم وغيرها”.
مع كلّ ما سبق ذكره من تعدّد المصالح المعنية على المستوى المحلّي والجهوي خاصّة في ولاية تونس، تثقل الأداءات كاهل أصحاب هذه الفضاءات، لاسيما إذا لم يتمّ الإعلام المسبق والتحسيس بها. في هذا السياق، يُشير طارق الصردي، “لقد تمّ إبلاغي من قبل الشرطة البيئية بالاتفاقية المتعلّقة بالأداء على النفايات، وتتضمّن هذه الاتفاقية أداءا سنويا على النفايات، وعندما استغربت المطالبة بضرورة دفع القسط السنوي كاملا رغم أنّ المحلّ لم يفتح أبوابه سوى مدة ستّة أشهر تمّ تغريمي”.
هذا وتمرّ عمليّة مراقبة الفضاءات المفتوحة للعموم بـالتنبيه الكتابي، ثمّ خطية مالية تتراوح بين 40 و60 دينار وفق القانون عدد 30 لسنة 2016 المُنقّح للقانون عدد 59 لسنة 2006 والمُتعلّق بمخالفة تراتيب حفظ الصحة والنظافة العامّة بالمناطق الراجعة للجماعات المحلية. أمّا المعاينة فتتمّ عبر فرق من المراقبين المؤهلين للغرض، ويمكن كذلك استدعاء صاحب المحلّ قبل أن يصل الأمر إلى الغلق. وحسب إدارة حفظ الصحّة والشرطة البيئية، هو إجراء أقصى يتمّ استخدامه في صورة تَعذّر على شاغل المحلّ تجاوز الإخلالات أو تعمّد تجاهلها بعد التنبيه. وإجرائيا يمرّ قرار الغلق عبر رئيس البلدية وجوبا، وتقوم في أغلب الحالات الشرطة البلدية بالتنفيذ. غير أنّ التعاطي مع قرار الغلق بالنسبة للمقاهي الثقافية، سواء في الحالات التي تناولناها في هذا المقال أو في مقالات سابقة، لم يكن بالدقة والوضوح المنصوص عليهما قانونيا.
تعسّف وتورّط أصحاب النفوذ
يُحاول صاحب المحلّ في معظم الحالات إعادة الفتح. وهو ما يستوجب جملة من التراتيب التي تشمل بالضرورة رفع الإخلالات المرصودة، وتتم معاينة المحلّ من جديد قبل تقديم قرار الفتح. إلاّ أنّ فراس زيّود صاحب فضاء “في الدار” بالمرسى، لم يتمكن من إعادة فتح محلّه للعموم، في ظل انعدام أي إمكانية لذلك.
صاحب الفضاء الثقافي الذي لم يفتح أبوابه سوى لأقلّ من شهرين بين ماي وجوان 2016، صرّح في حديثه لنواة “انطلقت المشاكل حين قام أحد متساكني الحيّ غير المجاور للمحلّ وهو أحد رجال الأعمال النافذين بالمرسى، بتهديدي شفويا بالغلق، مصراً أنّه قادر على ذلك”. مضيفا “لقد بلغني قرار الغلق بسرعة شديدة، مُمضى من طرف رئيس النيابة الخصوصية محمد الرياحي الذي استعمل نفس حجّة صاحب الشكوى، والتي يشير مضمونها إلى أن المنطقة سكنية وغير مناسبة لأي نشاط ثقافي أو فنّي يستقطب مجموعات كبيرة من الناس، ويخلّف الكثير من الضجيج. وذلك دون إجراء أي معاينة على عين المكان”. فراس اكتشف لاحقا، بعد إصدار قرار الغلق وحرمانه من دخول المحلّ، عن طريق المصلحة الاقتصادية التابعة لبلدية المرسى أنّ لا علم لهم بالقرار وأنّه لم يتمّ تسجيل شكوى رسمية أو أي مخالفات باسم المحلّ المسجّل بصبغة قاعة عرض وقاعة شاي.
يُذكر في هذا السياق أن المرجع القانوني الجاري به العمل ينصّ على حذف الترخيص المسبق، وفق قانون 75 لسنة 2004 المتعلّق بحذف رُخص ومراجعة موجبات إدارية تخصّ بعض الأنشطة التجارية والسياحية والترفيهية، لتقتصر المصالح الجهوية والمحليّة على الرقابة البعدية انطلاقا من بداية نشاط المحلّ وذلك عن طريق المعاينة الدورية. وينصّ الفصل الثاني من نفس القانون على أن “يخضع استغلال كل من المقاهي من الصنف الأول والقاعات التي تنظّم بها ألعاب للعموم إلى كراس شروط. ويتولى الشخص الراغب في ممارسة أحد الأنشطة المنصوص عليها بالفقرة الأولى من هذا الفصل سحب كراس الشروط من القباضة المالية المختصة ترابيا أو عن طريق شبكة الانترنيت أو يتولى نسخها من الرائد الرسمي للجمهورية التونسية”.
“لم أتحصّل على إجابات كافية من المصالح البلدية مما لم يسعفني في اتباع أية تراتيب أو إجراءات قانونية، حتى عندما قمت بتقديم موافقة ممضية من الجيران المحاذيين للمحلّ، لم يأخذوها بعين الاعتبار، مقتصرين بذلك على الشكوى الرئيسية التي تبيّن أنّ لصاحبها -رجل الأعمال- نفوذ واسع في المنطقة البلدية”، هذا ما أضافه فراس بنبرة حانقة، مواصلا “قال لي صاحب الشكوى بشكل مباشر أنه لا يناسبه قيام شخص غريب مثلي بالاستثمار في منطقتهم”. وتدلّ هذه الحالة على وجه آخر من أوجه الأزمة التي تعيشها الفضاءات البديلة، وهي الانتقائية في المعاملة مع المواطنين والمنتفعين بالخدمات البلدية. حيث يبدو أنّ البلدية، خاصّة منها البلديات الكبرى كبلدية المرسى، تخضع لمصالح بعض متساكنيها دون غيرهم، فنفس المنطقة تحتوي على عدد هام من المحلاّت المفتوحة للعموم، منها متجر بول Paulفي نفس المربّع السكني والذي لم يزعج نفس الجار، على ما يبدو، بل بالعكس تمتّع برخصة بيع خمور. ويضيف فراس، “اتجهت في نهاية الأمر نحو طلب تغيير صبغة المحلّ والنشاط، وفي كلّ مرّة أُجابَه بالرفض، رفض غير معلّل ولا كتابي. لم ألقى أي ردّ، بخلاف قرار الغلق الذي كان نهائيا وتمّ بمقتضاه حرماني من دخول المحلّ، وفي كلّ مرة أحاول فيها إعادة فتح الموضوع يتمّ طردي من البلدية”.
هذا ويؤكّد فراس أنّه حرص –رغم قصر فترة نشاط فضاء “في الدار”- على تنويع الأنشطة الفنّية والثقافية المجّانية، حيث يقوم بعرض اللوحات الفنية وتوقيع كتب وقراءات وتدريبات لتلاميذ الباكالوريا، وغيرها من العروض الموسيقية المضيّقة، مشيرا بعد ذلك، “لقد تكبّدت خسائر مادية جسيمة بلغت حدود 60 ألف دينار، إلى جانب الضرر المعنوي الكبير والإهانة التي طالتني بوصفي بالدخيل عن المنطقة، أعمل حاليا على سداد ديوني وتسوية وضعيتي بشكل نهائي في اتجاه التخلّص من كلّ الالتزامات المادية قبل مغادرة البلاد”.
لم يساعد تدخّل بعض الأطراف على غرار معتمد الجهة، فراس في تجاوز قرار الغلق لمحلّه الذي لم يفتح أبوابه من جديد في المرسى. فالأجهزة والإدارات المحلية مع تعدّدها تستند لترسانة من التراتيب تقوم بتوظيفها بما يتلاءم مع مصالح المقربين من أصحاب القرار. أمّا طارق الصردي فيتابع ملفّه عن كثب، في انتظار إعادة فتح فضائه من جديد لمُرتاديه. في الأثناء يتواصل عزوف السلط عن تقديم غطاء قانوني واضح لمثل هذه الفضاءات البديلة لحمايتها واحترام صبغتها الثقافيّة، ليتواصل في الأثناء الصراع مع أصحاب النفوذ والأجهزة الإدارية والأمنية التي مازلت قادرة على وضع يدها وتضييق الخناق على كلّ فضاءات التعبير الحرّ والثقافة البديلة.
iThere are no comments
Add yours