بدأ شكري بلعيد كتابة الشعر وهو في سنّ السادسة عشر، عندما كان تلميذا يقرأ كتب الفلسفة التي علّمته المناقشة النقديّة وكتب الشعر التي نمّت خياله. لم يكن بلعيد في تلك السنّ الصغيرة قارئا نهما وكاتبا خجولا للشعر فقط بل مرّ بتجربة الحركة التلمذيّة وكان يقود المظاهرات ويوزّع المناشير وقد تمّ إيقافه سنة 1984 على خلفيّة أحداث الخبز. يقول شكري مبخوت الذي كان أحد أصدقائه في مقدمة ديوان ”أشعار نقشتها الريح على أبواب تونس السبعة“:
من أوّل ما عرفته وهو تلميذ سنة 1981، شاعرا يبني شخصيّته الثقافيّة والفكريّة بمطالعة الأدب شعرا ومسرحا ورواية بقدر ما يبنيها بمطالعة الكتابات ذات الطابع الفلسفيّ والإيديولوجيّ والسياسيّ.
لم يحل انخراطه فيما بعد في الحركة الطلابيّة بزخمها وصخبها السياسيّ دون مواصلته كتابة الشعر، فقد كانت الكتابة ملاذه الأخير وسلاحه الوحيد ضدّ ”أعداء الذكاء“ على حدّ قوله. عاش شكري منذ تأسيسه سنة 1984 للفصيل الطلابيّ ”الوطنيون الديمقراطيون“ على وقع أحداث عديدة ساهمت في نحت شخصيّة المعارض لنظام بورقيبة، ولعلّ أبرز تلك الأحداث اعتقاله وإخضاعه إلى التجنيد الإجباريّ مع العديد من الطلبة المعارضين لبورقيبة آنذاك. كان بلعيد في تلك الفترة يكتب الكثير من القصائد التي يتركها لنفسه أو يقرأها لأصدقائه المقرّبين، وقد كتب قصيدة ”القرمطي“ التي رثى فيها المفكر والفيلسوف اللبناني حسين مروة إثر اغتياله سنة 1987، حيث يقول في بدايتها: ”سقطت في المدى طيرك المتعبة، لم تكن دمعاتك لتروي التراب الحزين، إنّما الحبر بين يديك، يطاول آلهة الكافرين بخير البلاط“. لبنان ليست فقط، بالنسبة إلى شكري بلعيد، بلد حسين مروة الذي كان أحد مريديه والمتأثرين بأفكاره الماركسيّة، بل هي أيضا ”آخر وردة عشق في عيني يساريّ“، كما وصفها في قصيدته ”للحبّ طقوس“.
بعد رحيله إلى العراق بسبب التضييق الأمنيّ لنظام بن علي، كتب قصائد عشق لحبيبته التي كان يُكنّيها بـ”مليكة النوّار“، وبهذا تكون العراق محطّة فاصلة في حياته على جميع المستويات. في العراق قرأ لكبار الشعراء أمثال مظفر النواب وسركون بولص ونازك الملائكة وأديب كمال الدين وعبد الوهاب البياتي، وفي العراق أيضا أحبّ شكري بلعيد، وكتب
يا امرأة خبّأت فيها أدمعي، كي لا أراني واقفا في المجزرة، وحدي أناديك، وأطلب من إله قام فيك أن يستعيد الذاكرة.
لم يقتصر الشاعر على كتابة قصائد عشق أو مرثّيات لشخصيّات تأثّر بها وبأفكارها، بل كتب العديد من الأشعار السياسيّة والتي نجدها في ”دفتر المصارع الطبقي“ من ديوانه ”أشعار نقشتها الريح“، وهي قصائد، كما يذكر ذلك شكري مبخوت في المقدمة، تعود في أغلبها إلى أواسط الثمانينات. الشعر جميل فقط لأنّه يدافع عن القضايا العادلة، كانت هذه أزمة الشعر العربي أواخر الستينات إلى حدود السبعينات. لذلك يمكن أن نطرح العديد من التساؤلات في هذا السياق، هل القصيدة ناجحة لا لجماليّاتها ومستواها الفنيّ ولغتها المتجدّدة بل بفضل مضمونها السياسيّ وجرأتها في النقد؟ وعليه كيف يمكن أن نتعامل مع قصائد شكري بلعيد التي كان يكتبها بالموازاة مع نشاطه السياسيّ؟ هل نقيّمها لجماليّاتها ونفصل بالتالي كاتبها وإرثه الثقيل عنها أم نتعامل معها بعاطفة على اعتبار أنّنا أمام شخص تحوّل إلى رمز وطنيّ؟ وهل يجوز تقييمها من أساسه خاصّة وأنّ شكري لم يُقدّم نفسه يوما على أساس أنّه شاعر؟ وعليه سنحاول فقط التجوّل في عالم شكري بلعيد الشاعر الذي غمرته السياسة ولكنّها لم تقتل فيه حسّه الإبداعيّ.
شكري بلعيد هو ”العاشق المرتبك الذي ماجت روحه في عينيها الناعستين“ كما يصف نفسه في إحدى قصائده، فـ”الحب تيهَه الأبديّ وبوصلة الذكرى والأشياء“. لم تكن قصائد شكري عن الحب تسير في اتّجاه واحد وقد كسر بعض الكليشيهات عن الرجل اليساريّ الذي سينسى حبيبته ويفكّر في العمال والكادحين. لن يحدّث شكري بلعيد حبيبته ”في الليالي الرومانسية عن الثورة والخبز والسلام“ بل دعاها إلى أن تقول كلامها الأخير ”عن الحب والأرض والرفض والثورة القادمة“. كان يتكلم في أغلب قصائده عن الوحدة: وحدته القاتلة، وحدته السافرة، وحدته الكافرة. شكري المعارض النشيط المحاط بالناس والذي ينتقل من اجتماع شعبي إلى آخر ومن حراك اجتماعي إلى آخر، هو نفسه شكري الشاعر المغترب والوحيد الذي ”ينسحب إلى ظلّه“ مع ”الآفلين مع الشمس“. شكري المغترب والحزين هو نفسه أيضا شكري الذي يسكن داخله زوربا الراقص والمحبّ للحياة والذي يصنع من العدم ممكنا ”فتتشكّل ثانية من دمائه، ولد ملأ البحر في كفّه ومضى ينشد أن لا إله سواي“. كتب إلى حبيبته التي ”يرقص بين تضاريسها“، إلى رفاقه الذين ”يخرجون كما الفرح النبويّ إلى الفجر والأغنية“، ومنهم نبيل الزغدودي الذي أفرده بقصيدة ”ولد من سفر“، إلى حسين مروّة ”الفارس وكاشف السرّ“ وإلى بابلو نيرودا الذي ”اغتاله الصوت المفاجئ بين حمامتين“. كانت المعرفة والكلمة الحرّة سلاحه الوحيد ضد ”تجار الكلمة“ و”كهنوت الوهم“، قبل أن ”يمضي نحو نهايته الممكنة“ وينادي:
لا تطردوني،
أنا الوقت في وقتكم مذبحة
أنا وجع أو نشيد قديم
أنا لعنة قادمة
سوف أحمي تفاصيلكم
واحدا واحدا
من الريح والغثيان
ولكن إلى جهة هائمة.
iThere are no comments
Add yours