قبل شهرين ونصف تقريبا، قرّرت الدائرة الجنائية الخامسة المختصّة بالنظر في القضايا الإرهابية بالمحكمة الابتدائية بتونس تأجيل النظر في قضيّة إغتيال الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد شكري بلعيد إلى 20 فيفري 2018. قرار لم يكن الأوّل، في ملفّ متشعّب ظلّ يراوح مكانه منذ خمس سنوات. صباح 06 فيفري 2013، كانت دويّ الطلقات التي اخترقت جسد شكري بلعيد شارة بداية لمرحلة جديدة في صراع ترتيب المشهد السياسيّ. بين رفاقه وأنصاره الذّين يصرّون على معرفة قتلته، وحزب شرّعت له الإغتيالات أبواب الحكم، وترويكا تحاول محو تلك الذكرى التي خلخلت حكمها، ومسار قضائيّ تاه في لعبة امساك الخيوط وتجميعها، ما يزال هذا الملفّ حتى كتابة هذه الاسطر مفتوحا على كلّ الإحتمالات، وهو الذّي خطّ آثاره على ملامح المسار السياسيّ للبلاد طيلة السنوات الخمس الفارطة.

الدّم يَهدم ويَجمع

منذ اللحظات الأولى لاستشهاده، بدى جليّا أنّ المشهد السياسيّ قبل هذا التاريخ لن يبقى على ما هو عليه. اللحظة المثقلة بالغضب والأسئلة ودعوات الثأر ودعوات التهدئة، كانت انعكاسا لمشهد شارع الحبيب بورقيبة الذّي خيّم عليه دخان قنابل الغاز المسيّلة للدموع، وسحب الدخان الأسود المتصاعدة من السيارات المحترقة في محيط مقبرة الجلاّز. تلك الأيّام الفاصلة مثّلت كابوسا لترويكا حاكمة انسحبت من المشهد لتخلّف حالة مخيفة من الفراغ، في المقابل كانت قوى أخرى تتحفّز لالتقاط اللحظة وقلب المعادلة.

ساعات قليلة بعد إغتيال الشهيد شكري بلعيد، وبعيدا عن صخب التصريحات الآنية لسياسيّي المعارضة والحكم على حدّ سواء، انتظر الجميع خطاب رئيس الحكومة حينها حمّادي الجبالي الذّي ألقى مبادرته بتشكيل حكومة كفاءات وطنيّة كمحاولة أولى لامتصاص غضب شارع أثقلته خيبات سنتان من حكم حركة النهضة وحلفائها وارتدادات إضراب عام أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم جنازة شكري بلعيد في 08 فيفري 2013. ما أن ووري جثمان الشهيد الثرى، حتى انطلقت السباق المحموم بين قوى تسعى لتخفيف حدّة الزلزال السياسيّ وقوى أخرى لا تريد تفويت الفرصة، ليتمّ الإعلان في 11 فيفري 2013 عن تشكيل جبهة سياسيّة وانتخابيّة ضمّت كلّ من حزب نداء تونس والحزب الجمهوري وحزب المسار والحزب الإشتراكي وحزب العمل الوطني الديمقراطي. في المقابل، إنهارت حكومة حمّادي الجبالي ليعمد الأخير إلى تقديم استقالته إلى رئيس الجمهورية في 19 فيفري 2013 بعد فشل مبادرته، تماما كما فشلت مبادرة الترويكا لعقد حوار وطني واسع إثر رفض الاتحاد العام التونسي للشغل وأحزاب المعارضة المشاركة في 15 أفريل من نفس السنة.

تزامنا مع مسار حشر الترويكا في الزاوية، كان ملفّ قضيّة الإغتيال يتقدّم تحت ضغط الجبهة الشعبية التي أعلنت عن وقفات أسبوعيّة أمام وزارة الداخليّة حتى الكشف عن قتلة الشهيد شكري بلعيد. أسابيع قليلة كانت كافية لوزارة الداخليّة، لتعلن تحديد الجناة المنتمين إلى تنظيم أنصار الشريعة الذي تمّ تصنيفه في 27 أوت    2013 كتنظيم إرهابي. مرحلة أدّت إلى تقسيم الملّف يشمل الجزء الأول منه 13 متهما يمثلون أمام الدائرة الجنائية الخامسة المختصة في جرائم الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس الذي انطلقت أولى جلساته يوم 30 جوان 2014، في حين تمّ تخصيص جزء ثان للمتورّطين الفارّين وهم سيف الله بن حسين (أبو عياض) وأحمد الرويسي ومروان الحاج صالح وسلمان المراكشي.

دم شكري بلعيد، الذّي خلخل حكم الترويكا قبل اسقاطه عقب اغتيال الشهيد الثاني للجبهة الشعبية محمد الإبراهمي، وأنهى التواجد العلني لتيّار أنصار الشريعة وأجبر قياداتها على الفرار خارج البلاد، كسر بدوره الجليد بين الجبهة الشعبيّة وحزب نداء تونس الذّي سارع مؤسّسه الباجي قائد السبسي إلى بيت الشهيد يوم اغتياله لتعزية زوجته ورفاقه وعلى رأسهم حمه الهمّامي. باب انفتح وفتح معه قنوات تواصل وتشاور بلغت أوّجها في 26 جويليّة 2013 مع الإعلان عن تأسيس جبهة الإنقاذ الوطني والتنسيق بين الحزبين خلال اعتصام الرحيل وجلسات الحوار الوطني، وليتجلّى كخيار لا مفّر منه لقطع الطريق أمام عودة الترويكا خلال الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة في نوفمبر 2014.

هذا العقد الجديد بين حلفاء الضرورة، سرعان ما انفرط مع اعلان نتائج الانتخابات وتملّص نداء تونس من حلفائه السابقين لترسيخ حكمه بإعلان حكومة وحدة وطنية مع عدوّ الأمس. تغيير سياسيّ ألقى بضلاله على مسار تطوّر ملفّ إغتيال شكري بلعيد الذّي اعتبره رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي ذات مرّة قضيّته الشخصيّة.

المشهد السياسي الجديد بعد نوفمبر 2014: الملّف يراوح مكانه

دم الشهيد الذّي استثمر إلى أقصاه خلال حرب الاستقطاب في الحملات الانتخابيّة أواخر سنة 2014 لم يكن سوى سلاحا لا غير في الحرب المفتوحة بين “الشيخين”. حركة النهضة التي خرجت من السباق نحو كرسيّ رئاسة الجمهورية، كانت تعي أنّها تدفع ثمنا مقبولا لركن بعض الملفّات والمحافظة على تواجدها السياسي. بل وفهمت مغزى رسائل الباجي قائد السبسي الذّي لوّح أكثر من مرّة بملفّ قضيّة إغتيال شكري بلعيد كلّما بدى له أنّ غريمه السياسيّ يحاول تعطيل طريقه المعبّد إلى قرطاج. هذا السباق الذّي انتهى إلى تكوين حكومة ائتلافيّة طوى معه فصلا من العداوة الدامية بين الشيخين، لتتحوّل قضيّة شكري بلعيد إلى عبئ يثقل كاهل صنّاع المشهد السياسيّ الجديد. النسق المتسارع نسبيّا لتطوّر هذا الملّف خلال سنة 2014، والذّي تمّ خلاله إيقاف أغلب المتورّطين وتصفية أبرزهم على غرار كمال القضقاضي في 04 فيفري 2014، بدأ يأخذ منحى مغايرا نحو الجمود.

خلال السنوات الثلاث اللاحقة، دخل هذا الملّف مسارا متشعبّا بعد توجيه هيئة الدفاع في ملف إغتيال الشهيد شكري بلعيد الاتهامات إلى مكتب التحقيق عدد 13 وحاكم التحقيق الاول المتعهد بالملف “تهمة المشاركة في القتل بالتراب التونسي، إضافة إلى قتل نفس بشرية عمدا مع سابقية الإضمار”. إتهامات ارتكزت إلى تعمّده حسب البيانات الصادرة عنها وعن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد، إبقاء بعض الإعترافات سرية، خاصة منها المتعلقة بإخفاء السلاح، وأن لا يضمّن بملف قضية الشهيد شكري بلعيد سواء الأصلي أو المفكّك أيا من تلك المعطيات. تغيير قاضي التحقيق سنة 2016 لم يدفع بالأمور قدما، إذ قرّرت الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف بتونس إرجاع القضيّة إلى مكتب التحقيق لإعادة النظر في موضوع آلة الجريمة. بين مكتب التحقيق والدائرة الجنائية الخامسة المختصّة بالنظر في القضايا الإرهابية بالمحكمة الابتدائية بتونس، وانقسام الملفّات، ظلّت هذه القضيّة تراوح مكانها من تأجيل إلى تأجيل كان آخره يوم الثلاثاء 21 نوفمبر 2017، إثر قرار الدائرة المعنيّة تأجيل النظر إلى 20 فيفرى 2018.

دم الشهيد من فكرة إلى ذكرى

هذه السنة، وتزامنا مع الاحتفاء الباهت بذكرى إغتيال الشهيد شكري بلعيد، لم يجد رئيس الجمهورية في رزنامة أعماله وقتا كافيا لاستقبال أرملته بسمة بلعيد وبناته، وهو الذّي دأب على هذه العادة منذ وصوله إلى قصر قرطاج. تزامن لا يقرأ خارج مسار “الاستثمار السياسيّ” لتلك الحادثة والتغييرات التي شهدتها الساحة السياسيّة خلال السنوات الثلاث الماضية. فالجبهة الشعبيّة التي كان الشهيد صوتها العالي بلغت مرحلة اللاعودة في مواجهة الباجي قائد السبسي وحكومة يوسف الشاهد المدعومة من حركة النهضة. والمسار الثوري الذّي لم يغب عن لسان بلعيد في كلّ خطاباته ومداخلاته صار عبئا ومصطلحا مزعجا للحليفين الحاكميْن وهما يخطّان مسارا موازيا يجتّر وزراء الماضي وقانونا للمصالحة ينجيهم من تبعات ممارساتهم. أمّا عبارته الشهيرة “لازمنا ناقفوا لتونس” فكيّفها رئيس الحكومة يوسف الشاهد وفق منظوره الخاصّ خلال خطاب تنصيبه في مجلس نوّاب الشعب صيف 2016. هؤلاء الذّين رفعوا صورة شكري بلعيد وبكوه أمام الكاميرات أكثر حتّى من رفاقه، يحاولون اليوم تجريد الشهيد من المعنى وتحويل الفكرة التي سقط من أجلها إلى رمزية جافّة اختزلوها في نصب رخاميّ واستقبال مناسباتي لعائلته لم يطل.

في 24 أفريل 2012، وخلال اجتماع لمكتب الجبهة الشعبيّة في جرجيس، ذكر شكري بلعيد أنّ “الخطر الرئيسيّ يكمن في تحالف الرجعيّتين، وأنّ نداء تونس كظاهرة إعلاميّة دون قدرة تعبويّة حقيقيّة يستثمر الخوف للوصول إلى الحكم لكنّه لن يتردّد في التحالف مع عدوّ الأمس ما إن تستّب له الأمور”. بعد أربع سنوات، أعلن راشد الغنّوشي أنّ تونس صارت “طائرا جناحاه النهضة والنداء”. لم يعش شكري ليرى قراءته تتحوّل واقعا، وربّما كان محظوظا بالغياب قبل أن يشهد دمه يعبّد الطريق لتشكيل هذا “الطائر”.