كان ضربا من المغامرة أن يقوم ”رفيق“ آخر بالكتابة بعد كل ما صدر، إذ لم تمض بضعة أشهر عن خروج ”سارق الطماطم“ للصادق بن مهني. تصبح المهمة أعسر مع تعدد الكتابات. ليس خوفا من تعدد الأناجيل السجنية لليسار، وإنما مغبّة ألا تستطيع شذرات القصّ هذه أن تُزاحم جماليات ما سبق من ”كريستال“ لجيلبار نقاش و”عم حمدة العتال“ لمحمد صالح فليس و”الحبس كذاب والحي يروح“ لفتحي بلحاج يحيى.
قرية الحزق، أم البدايات
”العالم يبدأ من قريتي“، هكذا تكلّم غارسيا ماركيز، ومثله فعل عزالدين في كتابه، إذ حملنا إلى عوالم القرية، حزق، عبر أبطالها المنسيين، فيتذكر ويسرد لنا قدوم الهادي شاكر إلى القرية وحيلة أبيه محمد العروسي للتملص منه، ويحفر في التاريخ بحثا عن عمر القرّاش بوّاب العرش وفاتح الأرزاق بالقرية، ويحدثنا عن الحاج بشير أحد أعيانها الذي يمشي البختريّة وسط شوارع القرية مادّا يده للتقبيل وكأنه يقول على لسان الوزير خير الدين باشا حينما خطب في الناس وسط السوق: ”قبّلوا لا بارك الله فيكم“، ومن ثم يعرّج بنا على خالد السكير عاشق اللاقمي الذي دفعه سُكره إلى التطاول على رتبة الحاج العظيمة أمام جامع سيدي عبد العزيز –وياله من ذنب عظيم- وحسمه النقاش مع العمدة بتساؤل وجودي شلّ مسامع الرجل المغتاظ الذي استسلم للضحك. نجح عزالدين في تقطيع النص عبر إخراج ذو طابع سينمائي ممتع، فنراه ينتقل من مشهد إلى آخر من خلال نوافذ يفتحها في جدران الذاكرة، ليطرز قصة على شاكلة ”سهرت منه الليالي“ لعلي الدوعاجي ويمر بين الأماكن والشخصيات في سلاسة عجيبة.
صفاقس، المدينة الرحم
في نصه صفاقس في السبعينات، قام الكاتب بتحويلها إلى مدينة دوعاجية فاضلة من خلال سردياته المدينية ويومياته المفعمة بالأحداث والحبلى بالمغامرات. قد لا يكون لصفاقس ”تحت سورها“ أسوة بتونس الثلاثينية وروادها من الحركة المسماة تيمنا بالمقهى المشهور، ولكنها لها جمالياتها. فما كنا نتصوره عن مدينة عمّالية تسير على وقع آلات المصانع ودبيب المحركات، هي في الأصل تضج بالحياة، تغص بباراتها ومقاهيها، مقهى السلام، شاطئ الكازينو حيث روائح الشواء والسمك والمرقاز، ديدي وزوجته في الحانة التي سُميت باسمه الواقعة قبالة سور صفاقس العتيق بين باب القصبة وباب الديوان، الكَمية وصحون التريلية والبولات والعقد، نوادي قصة وسينما عمّالية وتجمعات بالمقاهي فيها الغناء والقصص والسياسة والكر والفر مع أمن الدولة.
مسكونا بالمغامرة، يسرد علينا في إمتاع مثير تفاصيل العومة مع هرماس المسؤول الأمني في شاطئ الكازينو، ويحدثنا عن الجموح الروبنهودي الذي دفعه ورفاقه إلى محاولة سرقة آلة طباعة من واجهة إحدى المحلات لتكثيف أنشطتهم الدعائية السرية. نص مثل كأسي شراب في دار الحاج، يفيض بالنوستالجيا إلى الماضي والحي القديم، وكأننا أمام إحدى مشاهد ”ريح السد“ لرفيقه النوري بوزيد. لم يغفل عزالدين عن ذكر يومياته كعصفور سطح في حمام الدوالي بقفصة وزيارته الأولى إلى ماخور نهج الجم الشهير بصفاقس، ولا يتورع على مكاشفتنا بمغامراته الطفولية والحديث عن منزلقات الشهوة والرغبات. يفصح عن ذلك من دون مساحيق تجميل أدبية أو أخلاقية، يصنع من عجينة ذكرياته مادة قصصية ممتعة تكتنز بالنوادر والنكت، مراوحا بين الألم والسخرية السوداء والضحك العابث.
بين المباشرة والترميز
بين المؤانسات الدوعاجية والمغامرات المدينية، لا يتوارى عزالدين عن المكاشفة النقدية. إذ مارس نقدا ذاتيا صادقا، شمل شخصه ومنظمة برسبكتيف ككل. انتقاله من بعثي إلى شيوعي، وحديثه عن كل من عبد الرؤوف العيادي عندما طعن المنظمة في الظهر، وأحمد نجيب الشابي الذي انقلب عليهم. راوح عزالدين بين المباشرة والترميز في نقده الذاتي، فتكلم عن القط أبولو الذي حمل اسمه التاريخي من المركبة الفضائية التي حطت على سطح القمر وقتها، وورثه جيلبار نقاش عن المنصف الماطري الذي سجن في أحداث 1962. شهدت ساحات سجن برج الرومي صراع السيادة وجولات الوغى بين أبولو وابنه التيڨر. تحول القط إلى رمزية مضاعفة في طيات النص، من خلال الإشارة إلى التصدع الذي حصل بين منظمة برسبكتيف والعامل التونسي التي أعلنت عن نشأتها من المهجر. تعلق عز الدين بأبولو وكأنه الوريث الشرعي ليسار ستّيني حمل روحا تونسية حد النخاع، يظهر في اختياراته اللفظية المتحيزة والتي تهاجم التيڨر الذي ”شم صنانو“ وحاول اقتحام الحرمة الترابية لأبيه، تماما كأحمد نجيب الشابي. رثى عزالدين أبولو بمثل تحسره عن المنظمة، عبر منيار حفيدة أبولو التي تبناها الصادق بن مهني بعد أن أقِيمت جنازة مهيبة للجد. يستمر الترميز ويمر إلى مستويات مختلفة في نص التقييم الذي أكله الكلب. الحادثة تاريخية، وهي ليست بذات المنزلة للحديث الذي ورد في مسند أحمد وسنن ابن ماجة حول أكل الشاة لآيات من الذكر الحكيم كانت منسوخة على ورق في منزل عائشة. لم يكن الخوف من ضياع جهود التقييم والتحسر على تعويضه، بل مخافة من أن يقع بين أيدي الحراس وأمن الدولة. المهم، أن مَعدة الكلب الذي غص بما التهم كانت أرحم من الداخلية ولعلها أقل وطأة وأقرب إلى المغفرة من ذنوب الشاة المسكينة.
بين أسوار الرومي وسجن 9 أفريل، أبدع عزالدين في تصوير شخصياته. الباندية والكاريوكات، القارديانات وكبيرهم الحناشي شهر بنڨة، بوتشة وزميله حمة المكلفان بالتنصت على الرفاق من فوق الأسطح واللذان لم يستوعبا ”الفرانساوية متاع روسيا“، مؤخرة الحتحوت ومياه المولدي الساخنة، بالإضافة إلى الجرائد التي أصدروها، رومي رغم أنفه والرمال والبرج الرياضي التي كانت تغطي مباريات كرة القدم وفضائح الارتشاء التي تورط فيها الرفاق وعلى رأسهم الراحل أحمد عثماني حينما حاول استمالة الحكم مستنجدا بمحمد معالي. نجح ”بوالعز“ أسلوبيا وتاريخيا، فانتصر قَصّه الممتع على سوداوية الزنزانة وبؤس الأيديولوجيا، ليجعل من ”نظارات أمي“ دوعاجيات سجنية بامتياز. القص الممتع والترابط بين الشذرات وتشابكها، اختلاط الشخوص والأبطال والأمكنة، من حزق إلى صفاقس فقفصة وتونس مرورا ببرج الرومي والسجن المدني 9 أفريل. إذا كان جيلبار نقاش قد فتح نافذة على أدب السجون المكتوب لدى اليسار بتونس، وقام فتحي بالحاج يحيى فيما بعد بجعله شعبيا عبر رواج ”الحبس كذاب“، فإن عز الدين الحزقي قد أضاف إليه حمولة من الإمتاع والمؤانسة بنظارات أمه.
لقطات نقدية هامة جعلت نص الحزقي ثراء كبيرا في مجال الكتابات النضالية
كتبت للحاضر وللمستقبل..أي للأجيال الحاضرة والقادمة على أساس أنّ الاطلاع على تجارب الماضي هي ملك مشاع للاستخلاص العبر لفهم الحاضر من أجل مستقبل أفضل..وبالتحليل القيّم والتقيق للشاب هيكل الحزقي أعتقد أنّ الرساءل وصلت لعنوانها. لذلك لا يسعني الاّ أن أشكره
من الأعماق