أصدرت وزارة الفلاحة بيانا في أفريل الفارط، تُبشّر فيه بإمكانيّة التخفيف من الحصيلة السلبيّة لنسبة تغطية الواردات الفلاحيّة لعجز الميزان الغذائيّ الذّي بلغ 1354.6 مليون دينار سنة 2017، بفضل الارتفاع الاستثنائيّ لإنتاج زيت الزيتون خلال السنة الجارية. تطمينات لا تحجب الوضعيّة الهشّة للقطاع الفلاحيّ ككلّ في ظلّ مؤشّرات تتقاطع حول جدّية التهديدات التّي تحوم حول قوت التونسيّين وأمنهم الغذائيّ، وفي ظلّ تقدّم المفاوضات حول اتفاق التبادل الحرّ والشامل والمعمّق مع الاتحاد الأوروبي خصوصا بعد تعهّد رئيس الحكومة يوسف الشاهد خلال زيارته الأخيرة لبروكسيل في 24 أفريل 2018 بإمضاء الاتفاق سنة 2019.
بعد نصف قرن، من الجلاء الزراعي إلى الفقر الزراعي
تؤكّد الإحصائيّات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء أنّ أزمة القطاع الفلاحيّ ليست أزمة عابرة أو ظرفيّة مرتبطة بظرف سياسيّ أو مناخي بعينه. إذ اتّخذت مؤشّرات الإنتاج الفلاحيّ خلال السنوات المنصرمة منحى تنازليّا يعكس عمق الخلل الهيكليّ الذّي يعاني منه هذا القطاع. حيث تطوّرت الواردات الغذائيّة بين سنوات 2013 و2017 بنسبة 23.9% لتبلغ 5786 مليون دينار بالتزامن مع تواصل تدنّي سعر صرف الدينار التونسي. ليبلغ العجز المالي في الميزان التجاري الغذائي 1354.6 مليون دينار مقابل 1075.7 مليون دينار خلال سنة 2016، بما يمثل 8.7% من إجمالي عجز الميزان التجاري. وقد شمل تطوّر الواردات بالخصوص المنتجات الفلاحيّة الأساسيّة على غرار القمح الصلب بنسبة 15% والقمح اللين بنسبة 27% ومشتقات الحليب بنسبة 70%، تزامنا مع تراجع إنتاج مشتقات الحليب على الصعيد الوطني بنسبة 15% سنة 2017 مقارنة بسنة 2014. هذا بالإضافة إلى تطوّر استيراد السكّر بنسبة 21% مقارنة بسنة 2016. ويشير بيان وزارة الفلاحة للسنة الماضية إلى تضاعف قيمة شراءات مادتي البطاطا واللحوم الحمراء بهدف “تعديل الأسعار في السوق المحليّة” حسب البيان المذكور.
هذه الإحصائيّات السلبيّة للميزان التجاريّ الغذائيّ التونسي، تعكس بوضوح وضعيّة الإنتاج الفلاحيّ بالأخصّ على مستوى المواد الأساسيّة وأهمّها الحبوب. حيث تراجعت المساحات الزراعيّة المخصّصة للحبوب بشتّى أنواعها خلال السنوات الخمس الأخيرة بنسبة 10.7%، لتنخفض على سبيل المثال المساحة المُخصّصة لزراعة القمح الصلب من 678 ألف هكتار سنة 2011 إلى 540 ألف هكتار نهاية سنة 2015. تراجع المساحات الزراعيّة لم يقتصر على حقول القمح والشعير، إذ انخفض إجمالي الأرض الزراعية من 97900.1 كم مربّع سنة 2012 إلى 97607 كم مربّع سنة 2015، في حين تشير نفس البيانات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء إلى تراجع المساحات المخصّصة للغراسات بنسبة 29.7% خلال نفس الفترة تقريبا، أي من 6671 هكتار سنة 2012 إلى4690 هكتار سنة 2016.
التلاعب بالأمن الغذائي يهدّد الاستقرار الاجتماعي
ارتدادات الأزمة الفلاحيّة التونسيّة لم تنحصر على تراجع الإنتاج أو ارتفاع الواردات الغذائيّة أو انحسار المساحات الزراعيّة. بل امتدّت لتشمل تقلّص نصيب الفلاحة من الناتج الوطنيّ الخام خلال السنوات الخمسين الماضية من 24.6% سنة 1968 إلى 8.8% سنة 2017 بحسب منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتحّدة. مسار تنازليّ ارتبط بتغيّر رهانات الدولة على مختلف القطاعات الاقتصاديّة، خصوصا منذ سنة 1986 تاريخ طرح برنامج الإصلاح الهيكليّ من قبل صندوق النقد الدوليّ، واتجاه الاستثمار أكثر فأكثر نحو الخدمات والصناعات التصديريّة. منعرج تاريخيّ ارتبط بتراجع متسارع لنصيب الفلاحة من الناتج المحليّ الخام من 18.6% سنة 1988 إلى 9.32% سنة 1998، أي خلال أقلّ من عشر سنوات.
نتائج التوجّهات الجديدة للدولة، لم تهدّد قوت التونسيّين فحسب، بل انعكست بشكل مباشر على 495200 عاملا في القطاع الفلاحي بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء. إذ أدّى تراكم مخلّفات الأزمة التّي يشهدها القطاع الفلاحيّ منذ سنوات إلى تضخّم ديون الفلاّحين لتناهز 1200 مليون دينار سنة 2017 بحسب تصريح إذاعي لعبد المجيد الزار، رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري. رقم يعكس بدوره التهديدات المحدقة بمستقبل قطاع يشغّل أكثر من 16.8% من اليد العاملة ويساهم في ضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لسكّان المناطق الريفية الذين يمثلون 35٪ من مجموع السكان.
الفلاحة ضمن اتّفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق: التوازن المختّل
أعلن هشام بن أحمد، كاتب الدولة للتجارة الخارجيّة، في 28 أفريل الفارط عن استئناف المحادثات بين تونس والإتّحاد الأوروبي في إطار اتّفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق بداية من 28 ماي إلى 31 ماي 2018. وستُركّز هذه الجولة الجديدة على توسيع الاتفاق ليشمل كل القطاعات بما فيها الفلاحة. نوايا توسيع نطاق الاتفاقيّة ليشمل هذا القطاع المتأزّم منذ سنة 2015، أثارت مخاوف عديد المختصّين في المجال الاقتصادي على غرار الخبير الاقتصادي سامي العوّادي الذّي قدّم ورقة بتاريخ 16 سبتمبر 2015، فكّك من خلالها المخاطر المحدقة بمختلف القطاعات الاقتصاديّة إذا ما تمّ إمضاء الاتفاقيّة المذكورة. وقدّ علّق هذا الأخير حول التهديدات التّي قد تطال القطاع الفلاحيّ موضّحا:
“الفلاحة التونسية غير مستعدة لمواجهة منافسة الفلاحة الأوروبيّة التي تمتعت طيلة سنوات بدعم حكوماتها في إطار السياسة الفلاحية المشتركة (PAC) في حين كانت فلاحتنا مقصيّة من تدخلات برنامج التأهيل بل كانت ضحية سياسة تأطير الأسعار الفلاحية لفائدة تحرير الأسعار الصناعية. وهناك حاجة إلى سياسة تأهيل نوعي للمناطق الفلاحية، وتصفية مديونية الفلاحين والإشكالات العقارية، ومعالجة هشاشة البنية التحتية وفكّ عزلة المواصلات قبل فتح القطاع على المنافسة الأجنبية.”
في نفس السياق، أكّد مصطفى الجويلي، الخبير الاقتصادي والمستشار لدى منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتحّدة، لنواة أنّ مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي يُعدّ تطبيقا للتوصيات الصادرة في اتفاق الشراكة لسنة 1995. ليواصل موضّحا “تحرير المبادلات وفتح الاسواق أمام المنتوجات الفلاحية يطرح إشكالية الفوارق الشاسعة في مستويات الإنتاجية. حيث أن متوسط انتاجية الفلاحة الأوروبية أعلى بسبع مرات من متوسط انتاجية الفلاحة التونسية وهو ما يجعل هذه الأخيرة موضوعيا غير قادرة على المنافسة”.
يسترسل الخبير الاقتصادي مصطفى الجويلي شارحا الاختلال الهائل بين الطرفين على مستوى الفلاحة قائلا: “تحظى الفلاحة الأوروبية بدعم هائل بمقتضى السياسة الفلاحية المشتركة PAC التي تستحوذ على 40% من ميزانية الاتحاد الأوروبي. وقد خُصّصت لهذه السياسة 362,8 مليار أورو للفترة الممتدّة بين 2014- 2020. وطبعا لا يمكن لتونس أن تُؤمِّن دعما مماثلا للفلاحة ويعود ذلك بالأساس إلى أنّ برامج دعم القطاع الفلاحي في تونس قد وقع إلغائها أو التقليص منها في إطار برنامج الإصلاح الهيكلي وما صحبه من خيارات ليبرالية، بالإضافة إلى أن اتفاق المنظمة العالمية للتجارة يمنع إحداث برامج دعم جديدة ما لم تكن موجودة قبل 1986.”
ويرّد مصطفى الجويلي على وجهة النظر القائلة بأنّ هذه الاتفاقيّة ستتيح تعزيز الصادرات الفلاحيّة لتمويل توريد المواد الأساسية وتعديل الميزان التجاري قائلا “هذه الرؤية تتجاهل أن ما يمكن تصديره نحو الاتحاد الأوروبي يتمثل أساسا في بعض الخضر والغلال، وهي منتوجات مستنزفة للموارد المائية المحدودة. أي أن هذا التمشي سيدفع نحو هيكلة النشاط الفلاحي في تونس بشكل يتعارض مع الموارد المتاحة وخاصة الموارد المائيّة”. كما أشار إلى أنّ الدفع باتجاه التصدير يتطلب موارد مالية هامة وتحكّما في التقنيات الإنتاجية. وهي إمكانيات لا تُتاح إلاّ للمستغَلاّت الكبرى. في حين سيكون مصير صغار ومتوسطي الفلاحين وهم يمثّلون حوالي 80% من المنتجين التفقير والتهميش. ويختم الخبير الاقتصادي مصطفى الجويلي مؤكّدا أنّ “الحصيلة النهائيّة لمثل هذه الخيارات التي تستجيب لبرامج مسقطة ولا تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحليّة للقطاع الفلاحي، ستؤدّي إلى تدمير هذه النشاطات وتعميق التبعية الغذائية وربط غذاء التونسيين بتقلبات الأسواق الأوروبية”.
ارتدادات الأزمة الفلاحيّة وتفاقم العجز الغذائيّ ومواصلة الحكومة في خيارات الشراكة الأوروبيّة ورفع يدها عن حماية هذا القطاع الاستراتيجيّ، يضع مستقبل الأمن الغذائي للتونسيّين على المحّك، خصوصا مع شموليّة الأزمة الإقتصاديّة التّي لم تستثني أيّ قطاع. تهديدات تتزامن مع طفرة استهلاكيّة خلال شهر رمضان ألقت بضلالها على مائدة التونسيّين الذّين بدأوا يتحسّسون خطر “الفقر الغذائيّ”.
iThere are no comments
Add yours