الرئيس الباجي قائد السبسي يسلم كأس تونس للنادي الإفريقي مرفوقاً برئيس الحكومة يوسف الشاهد و رئيس البرلمان محمد الناصر، ماي 2018

أظهرت مشاركة المنتخب التونسي لكرة القدم بالمونديال مؤخرا انهيار الشقف وتحطّمه الدرامي خاصة بعد الهزيمة ضد المنتخب البلجيكي. لم يكن ذلك عنوان خيبة فقط بقدر ما كان أيضا تتويجا للأزمات الهيكلية العميقة التي عاشتها كرة القدم وتفشي الفساد الإداري في دواليب التسيير. على سبيل المثال، حصيلة الموسم الأخير من كرة القدم كانت إحصائيات عنف واحتجاجات وفضائح وضحايا أيضا. وصلت الأحداث إلى ذروتها مع مقتل الشاب عمر العبيدي اثر مطاردته من قبل البوليس في أعقاب مباراة النادي الإفريقي وأولمبيك مدنين 31 مارس 2018، واختُتِم الموسم بمشهد حضر فيه السقوط الكروي والسياسي في نفس الصورة، حدث ذلك أثناء مباراة “الباراج” 18 ماي 2018 التي جمعت القوافل الرياضية بقفصة واتحاد بنقردان. انتهى الشوط الأول على أحداث عنف وتبادل لكمات، ومع بداية الشوط الثاني انسحب لاعبو القوافل من المباراة بعد مهزلة تحكيمية فاضحة، فيما اقتحم رئيس الكتلة النيابية لنداء تونس سفيان طوبال أرضية الملعب وشارك في مشهد الهرج، مع تواجد عمار عمروسية أيضا، النائب عن الجبهة الشعبية. المباراة تحولت إلى تعبيرة سياسية مكثفة، إذ مثلت واجهة لصراع لوبيات داخل الجامعة، واختزلت داخلها تصادما جهويا جَعلها عرضة للشحن والتصعيد.

سفيان طوبال وعمار عمروسية يتدخلان على أرضية الملعب خلال مباراة القوافل الرياضية بقفصة واتحاد بنقردان، 31 مارس 2018

كرة القدم بين مضخات الشركات الكبرى ورَحَى السياسة

لا تحتاج كرة القدم منا إلى ذكاء كبير لنَحدس ارتباطها بالاقتصاد والسياسة، فمضخات النوادي الكبرى ليست إلا الشركات القوية التي تتحكم في جزء كبير من اقتصاديات البلاد، على غرار شركات الإتصالات الثلاث ودِليس وشركة صنع المشروبات بتونس وشركة فسفاط قفصة وغيرها. زد على ذلك بدأنا نلاحظ في السنوات الأخيرة اختلاط الأدوار التسييرية بالنوادي مع مهام سياسية قيادية، ولنا في سليم الرياحي عن الإتحاد الوطني الحر (النادي الإفريقي) ورضا شرف الدين عن نداء تونس (النجم الرياضي الساحلي) ومهدي بن غربية الذي انتمى في وقت سابق إلى الحزب الديمقراطي التقدمي والتحالف الديمقراطي (النادي الرياضي البنزرتي) نماذج لذلك. حتى استقرار بعض الأحزاب تأثر بأحداث كرة القدم. جميعنا يتذكر ما حدث في مباراة الترجي الرياضي التونسي والنجم الرياضي الساحلي بالبطولة أثناء مرحلة الإياب، ومحاولة النجم الالتجاء إلى الفيفا لـ”محاربة الفساد”. تلك الأحداث ألقت بظلالها على نداء تونس خاصة إذا علمنا أن حافظ قايد السبسي انتمى في وقت سابق في سبتمبر 2012 إلى الهيئة الإدارية للترجي فيما قاد النائب عن نداء تونس رضا شرف الدين حملة التشهير بالترجي و”محاربة الفساد”.

سليم الرياحي في صورة مع المدرب الإيطالي ماركو سيموني اثر ابرام عقد معه، جويلية 2017

تاريخيا، هنالك أمثلة عديدة في تاريخ البطولة التونسية حول ارتباط فرق كرة القدم بشركات عمومية راعية تحضنها بشكل مباشر، مثل الجريصة والأولمبي للنقل والشيمينو ونادي سكك الحديد الصفاقسي. لكن الأزمات الاقتصادية التي أضرت بتلك الشركات، أثرت على استمرارية الفرق التابعة لها. على سبيل المثال، منذ سنة 1960 أصبح فريق الرالوي تابعا لشركة سكك الحديد بصفاقس ولم يتخلص من تلك الهيمنة الإدارية إلا مع المرسوم 66 المؤرخ في 14 جويلية 2012 الذي جاء بعد الثورة ونُقِّح عبره النظام الأساسي للجمعية، ما أبطل العمل بالقانون القديم الذي حصر مسألة الترشح لرئاسة الجمعية وجَعلها امتيازا للإطارات السامية للشركة، الشيء الذي حوّل الرالوي إلى شبه نادي متقاعدين يكافئون من خلاله إطارات الشركة. ارتباط الرالوي بالشركة كان من المفروض أن يكون نعمة، ولكنه تحوّل إلى نقمة. فمشاكل الشركة أثرت على الفريق وجعلته عرضة لمطامع مستغليه الذين استفادوا كثيرا من تحويل وجهة اللاعبين تحت راية الاحتراف. إضافة إلى أن مركزية النادي الصفاقسي ودَفع بورجوازية الأعمال بصفاقس للاستثمار خلفه، ساهمت بشكل مؤثر في تعقيد وضعية الرالوي ماليا وكرويا.

فريق الرالوي (سكك الحديد الصفاقسي)، سنة 1968

خلافا لحالة الرالوي مع النادي الصفاقسي، لعبت العصبية الجهوية –هنا نستعمل العصبية بمعنى المحاماة والدفاع عمن يُلزمك أمره والحماس الشديد في الانتماء- دورا في خلق لوبي كروي-جهوي لمواجهة قرار من أعلى هرم السلطة، كان ذلك في أعقاب موسم 1960-1961 بعد أن أقدم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة على حل فريق النجم الساحلي لما اعتبره أحداث شغب جدّت ﻓﻰ 5 ﻣﺎﺭﺱ 1961 أثناء ﻣﺒﺎﺭاﺓ ﺍﻟﻨﺠﻢ ﺍﻟﺴﺎﺣﻠﻰ ﻭﺍﻟﺘﺮﺟﻰ الرياضي التونسي ﻓﻰ ﺳﻮﺳﺔ. خَسِر النجم المباراة وعلت احتجاجات تحكيمية بسبب تعيين الحكم مصطفى بلخواص، واشتد الشغب بالملعب وخارجه. تفرَّق لاعبو النجم بين المهدية والإتحاد المنستيري، فيما استأثر الملعب السوسي بالأغلبية (9 لاعبين تقريبا). كان الأمر أشبه بحصان طروادة، إذ لعِب الملعب السوسي بأغلبية تشكيلة النجم الساحلي الرسمية وعَزم النادي على خوض مقابلات الكأس بحماسة قوية. تمكّن الفريق من تحقيق إنجاز تاريخي بوصوله للنهائي أمام الملعب التونسي سنة 1962. ما حدث فيما بعد هو عودة فريق النجم الساحلي للواجهة بعد تلك الملحمة الطروادية.

سوسيولوجيا كرة القدم وعناوينها السياسية

في مقاله المعنون بـ”ترجي يا دولة أو القوة والترجي. عن تراخي الدولة في تونس”، اعتمد ميشال كامو، الباحث الفرنسي في العلوم السياسية، على تفكيك سياسي اقتصادي للنوادي المُهيمنة، حين اعتبر أن الترجي فريق الشعب والنادي الإفريقي امتداد للبلدية، فيما يمثّل النجم الساحلي البورجوازية الإدارية ذات التأثير الساحلي ويرتبط النادي الصفاقسي بببورجوازية الأعمال ذات الأغلبية الصفاقسية. حَاوَل الباحث ربط تلك الامتدادات من خلال دراسته للعلاقات الاجتماعية لتونس وتعبيرات كرة القدم التي مثلت حقلا لخطابات الهيمنة التي مارستها الدولة، كما شَرَّح فكرة العصبية وكيف تتحول تدريجيا إلى السيادة مستشهدا في ذلك بأعمال ابن خلدون. فعلى سبيل المثال، يشير كامو إلى أن شعار “ترجي يا دولة” ارتبط برؤية ساخرة للعلاقات السياسية، ولكنه يشير ضمنا إلى اليوتوبيا الدولاتية: الدولة الوطنية الواعدة بتغيير جذري يكرس الرفاهية، وهي تختزل إحدى مفردات الخطاب البورقيبي “فرحة الحياة” “تونس رغد العيش”. في تلك الفترة، كان فريق الترجي الرياضي التونسي مُهيمنا على البطولة، وهو ما ترجم الخط السائد في شعارات التشجيع الملازمة له والتي ارتبطت بسردية المتفوق التي تقاطعت مع دعاية الدولة البورقيبية في أوجها.

تغُيّر شكل العلاقات الاجتماعية بتونس رَافقه تغيّر في مستوى التعامل مع رمزيات النوادي وسرديات التشجيع. فجماهير الإفريقي استأثرت خلال السنوات الأخيرة بشعار “فريق الشعب” كرد فعل رمزي على “دولة الترجي”. على صعيد آخر، تطورت الشعارات وثقافة الأهازيج الكروية بتونس، وتمكنت من معجم مستقل.

الرئيس الحبيب بورقيبة، نائب رئيس الترجي سابقاً، في ملعب المنزه بمناسبة نهائي كأس تونس الذي جمع الترجي بالنادي الإفريقي، ماي 1980

علاوة عن توليدها لخطابات جديدة ومُستحدثة، فإن مباريات كرة القدم بتونس –في جانب كبير منها- قد تحوّلت أيضا إلى ساحة خصبة للتدافع الاجتماعي. ففي أكثر من مناسبة، شهدنا عزوف الدولة بمؤسساتها الأمنية وجامعة كرة القدم عن التدخل في سير أعمال عنف جدّت بالملاعب وخاصة بالأقسام السفلى. تلك المباريات حَمِلت تراكمات الأحقاد القديمة التي أصبحت اليوم تكتنز بإشارات سياسية مختلفة. فصراع الساحل ضد الكل يجد تعبيراته في مباريات النجم الساحلي ضد الترجي وضد الإفريقي وضد الصفاقسي، وتصل أحيانا إلى حد مقاطعة منتجات دليس المنسوبة إلى الرجل القوي للترجي حمدي المدب. فيما يمثل صراع الإخوة الأعداء، الترجي والإفريقي، ذروة كرة القدم بتونس نظرا لقرب الجماهير من بعضها البعض والتقائهما في الشدائد كمواجهة البوليس وافتكاك المجال العام وهو ما سبّب صداعا مستمرا للسلطة خاصة في علاقة بمأزقية المجال المديني بتونس العاصمة. فجماهير الفريقين أظهرت نضجا كبيرا على مستوى الممارسة الاحتجاجية تجاوز الاكتفاء بالملاعب ليكتسح الفضاء العام. جماهير “الكورفا سود” التابعة للترجي شنت حملة مقاطعة للملاعب ردا على موجة العنف البوليسي، في حين انتفضت جماهير الإفريقي ولاعبوها ومجموعات المشجعين التي هبت للمساندة من فرق أخرى بعد مقتل الشاب عمر العبيدي رميا في وادي مليان إثر مباراة الإفريقي وأولمبيك مدنين.

لا شيء يتفوق عن اكتساح كرة القدم للمشهد اليومي بتونس، وتحوّلها إلى ساحة تقاطع مستمرة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. يحتاج منا ذلك إلى توجيه قراءة تشريحية فعلية لهذا الواقع وتفكيك العلائقية الكروية بعيدا عن نوستالجيا فريق الشعب ضد فريق السلطة أو الساحل ضد فرق العاصمة-المركز أو حتى الجنوب المنبوذ ضد الكل. عن تلك الحاجة الملحة، يحدثنا إدواردو غاليانو في كتابه كرة القدم بين الشمس والظل، قائلا “التاريخ الرسمي يتجاهل كرة القدم. نصوص التاريخ المعاصر لا تذكرها، ولو بصورة عابرة، في بلدان كانت كرة القدم فيها ومازالت علامة رئيسية من علامات الهوية الجماعية. أنا ألعب إذا أنا موجود: أسلوب اللعب هو طريقة في الحياة، يعكس الوجه الخاص لكل مجتمع ويؤكد حقه في التميز. قل لي كيف تلعب أقول لك من أنت: منذ سنوات طويلة يجري لعب كرة القدم بطرق متنوعة، تعبيرات متنوعة عن شخصية كل شعب، وإنقاذ هذا التنوع اليوم هو في رأيي أشد أهمية من أي وقت مضى”.